لا يمكن التعرف على الشّام من خلال الصوّرة التي يجود بها إعلام ارتضى لنفسه خوض لعبة الحرب لطالما تمنّيت أن أكتب عن الشّام سفرا في أدب الرّحلة ، فنقف على شيء من عمرانها البشري وعادات وتقاليد ومشاعر أبنائها المميّزين. وشاءت الأقدار أن يستعجلنا هذا الحنين لنكتب عن سيرتها السياسية في ضوء الأحداث الرّاهنة. يستعجلنا خطر المؤامرة التي تتهدّد اليوم وحدة واستقرار بلد لعلّه البلد الذي ظلّ عبر عقود هو الأكثر أمنا وأمانا من سائر البلاد العربية. ذلك أوّل انطباع ينتاب زوّار الشّام حيث تتراجع معدّلات النهب والسرقة والاغتصاب والجريمة المنظّمة هنا بشكل يكاد يجعل من سوريا في هذا المجال بلد الاستثناء والأمن المخملي. على سبيل المثال، تستطيع المرأة أن تخرج متى شاءت في أقصى الليل ولا ينال منها قاطع طريق أو يصيبها مكروه كما لو كنّا بالفعل نعيش أسطورة سلم مجتمعي انقرضت صورته في مدينة القرن الواحد والعشرين. لا يوجد نشّالة ولا بلطجية ولا معاكسات ولا "خناقات" ولا قلّة ذوق تخدش الحياء العام أو تهدّد الأمن الأهلي. وإن رأيت بعضا من ذلك في موقع نائي يوما، فاعلم أنّه الاستثناء الذّي يؤكّد القاعدة، إن لم نقل الاستثناء الذي يظهر مدى امتعاض النّاس من كل ما من شأنه تهديد الاستقرار والذّوق العام. ولذلك لا يستطيع المجرم مهما بلغت ملكته على التخفّي والتّفلت من قبضة العدالة ، أن يتوارى عن الأنظار أكثر من ساعات. وقد شاهدت بعضا من تلك الجرائم التي استطاع الأمن القبض فيها على الجناة في ظرف قياسي، جعل النّاس على ثقة كبيرة في الأمن. ولقد جبت حارات دمشق وحلب واللاّذقية وغيرها من المحافظات السّورية في أقصى الليل وأطراف النّهار، حارة حارة وزنكة زنكة، وكلّي إحساس بالأمن والأمان. وبالتّأكيد فعل ذلك كثيرون قبلي وبعدي وحصل معهم الانطباع نفسه. والشّعب السّوري "شغّيل" لا يلين في سوق الشّغل ولا يفقد أملا ، بل يستطيع ولو عبر أعمال البطالة المقنّعة أن يؤمّن الكثير مما لا يؤمّنه موظّف كسول في بلد على شيء من الرّفه. وقد يحتال عليك بعض الشّيء في نطاق المشروع من التّجارة استنادا إلى رياضة الإقناع ومدح بضاعته بما يفوق الخيال ، لكنه لن يسرقك. يمكنك أن ترفع من مستوى الحذر في المتاجرة مع أهل الشّام لكن يمكنك أن تطمئنّ إن نسيت محفظتك من ورائك، فسوف تجدها في مكانها. فقد سمعت عن بائع ماء فيجة كيف يغار من زميله الذي استطاع أن يبني الطابق الثّاني فنّي بفضل تجارة الماء. بينما حدّثني سائق التاكسي أنه ينتظره الكثير من الشّغل لتأمين بيت له ولعائلته. أمّا الشّاب الذي كان يشكو لي قبل قليل انسداد أسواق الشّغل في وجهه ، فقد تحدّث معي عن كثير من المشاريع التي تحملها أحلامه ويتحدّث عنها بملايين الليرات كما لو كان رجل أعمال خبر أسرار التجارة . طبيبة سورية عاشت في المغرب سألتها قبل سنوات عن الفرق بين المغربي والسوري، قالت : المغربي إذا انسدت في وجهه الأبواب، ذهب وحضّر لنفسه كأسا من الشّاي ، وخلد إلى الحزن والشّكوى. بينما السوري سيفكر ملئ عقله كيف يخرج من هذا الانسداد ولو بالمعجزة. في الحقيقة هذا هو ما يميّز السّوري عن سائر العرب. قبل أشهر قليلة صادفت سوريا من الميدان مشاركا في معرض سوري بإحدى المدن المغربية ، يقدّم وجبة فلافل. يستطيع السّوري أن يجوب الأقاليم ويقدّم فلافل للعالم، ويربح بذلك مالا وفيرا. همّة السّوريين وتطلّعهم للنّجاح جعلهم يهزمون قلّة الحاجة إلاّ من لم يجد للاستغناء حيلة ووسيلة تذكر. ومع ذلك كم أبكتني صور الفقر هناك حيث خفّفت عنها بعض الشّيء سياسة الدّعم للمواد الأساسية والخدمات ، جعلت سوريا حتى قبيل تدفّق الهجرة العراقية آخر معقل عربي للسياسة الاجتماعية. يدهشك ، بل يصدمك هذا البلد بقوّة استقراره كما حكا لي أكثر من زائر أوربي صادفته في هذا البلد انتهى مسحورا بالاستقرار والهدوء والأمن. ومع أنّ قلّة الحاجة والفقر يحوّلان الإنسان إلى وحش كاسر منزوع الضّمير، إلاّ أنّ ثمّة ذوقا حضاريا ولباقة وشبعا وغنى معنويا يغمر السّلوك ويفتح القلوب على منتهى الدّماثة. ومع أنّه بلد يعيش على حافة حرب ساخنة مع إسرائيل وحرب باردة معها منذ عقود وحصار غربي جامح سعى ويسعى لتجويع الشّعب السّوري انتقاما من صموده ورفضه لأنصاف التّسويات، استطاعت سوريا أن تحافظ على استقرارها الاقتصادي وحقّقت اكتفاء ذاتيا على مستوى الزراعة والصناعة الغذائية والكثير من الخدمات. الوحدة والاستقرار بالإضافة إلى الأمن القومي واستقلالية القرار السّوري هي أهم ما خرجت به سوريا كمكتسبات استراتيجية غير قابلة للتّفريط. كلّ هذه المكتسبات لا يكاد يراها أحد في مناخ تهيمن عليه سكرة الفوضى وخلط الأوراق والاستجابة لرغبة "الولدنة" السياسية. ولا أخفي أنّ جريرتي الوحيدة هنا أنّني قد أكون غير مؤهّل أو محظوظ لكي أفهم أو أتعرّف على الشّام من خلال الصوّرة التي يجود بها إعلام بخيل ومحتقن ارتضى لنفسه خوض لعبة الحرب بدل المهنية.