ان اوديب انسان اذن، انسان الخرق واللامعرفة والمآلية اللاعقلانية والعمى والتيه، انسان له صورة حد قابل للخرق دوما، انه أنا تحكي تكونها وشكل حكمها على العالم وقياسها للاشياء . يجب ان لاننسى بصدد اوديب مسالة الجرح، تماما كما ان جرح أوليس مسالة حاسمة عند نهاية الاوديسة، وان نتذكر القدم الجريحة، ذاك الشيء المتعذر فهمه، العنف الذي عانى منه اوديب منذ البداية. ان نسمي اوديب بالمعنى الممتلئ لاسمه، حسب المنظور الاثيمولوجي هو ان نسمي الجرح، الوذمة التي تعاني منها القدم، الانتفاخ الذي سببه المسمار الذي جرح به ابوه عرقوبيه. ولد اوديب مع نبوءة العراف التي صاحبت ولادته: وعد بالدم وزنا المحارم والموت. كل الادوات تنبئ بذلك. ثقب لايوس قدميه بمسمار وترك الطفل اوديب فوق جيل سيتيرون، تركه في الخلاء عرضة للجوارح والوحوش، التي يمكن ان يستثيرها الدم الذي ينزمن قدميه المثقوبتين. الكثير من الاساطير والحكايات تقرر باننا نولد جرحى، وان جزءا من اللحم المتمزق، سرعان ما يذكر جسدنا بلحم الجرح المفتوح ودمه.(ولدت مع جراحي) يقول روني شار. يجب ان نستحضر بان اسطورة اوديب متعلقة ايضا بالقدم التي جرحت ثانية من طرف الاب عند المنعطف الضيق، على الطريق الذاهب من دوليس الى دلف. كان لايوس راكبا عربته رفقة حوذيه واوديب آت في الاتجاه المعاكس عائد من دلف مشيا على الأقدام. مرت العربة فداست قدم اوديب الذي استشاط غضبا فقتل الحوذي، ثم اسقط لايوس ارضا وقتله ومزق جسده. هكذا قتل اوديب اباه. من المعتدي في هذه الحكاية الصغيرة وفي الحكاية الكبرى ككل؟ من البادئ ؟ ومن بالامكان اعتباره بريئا لان الآخر مذنب؟. في الطرف الأقصى من الأسطورة، عند نهايتها، سمل اوديب عينيه بمشبك ثوب كان يشد به رداءه حتى لا يرى ما ينمنح للرؤية رغما عنه، امام عينيه: الدم المراق على طرف الزمن – الأسطورة.ان اوديب جسد ولد ومات على الخط ذاته، موشى بالعنف ذاته، ويجب ان لا ننسى في هذا السياق بأنه أيضا جسد يفكر، وانه رغما عنه جسد من ألم ولذة، وان كل هذا يتماهى لديه بالغضب. إن حكاية القدم هذه لا يذكرها سوفوكل تماما كما لا يذكر كيف اجترح اوديب طريقة نحو المنفى، اذ لم يجترحها عند نهاية مسرحية [ اوديب ملكا ]، ولكن في مكان ما ، ما بين نهاية [ اوديب ملكا ] وبداية (اوديب في كولون) وبالتالي فان نهاية التراجيديا لم تجعل من اوديب، او لم تجعل منه بعد، الفارما كوس الذي يتمنى ان يصيره. ان الاسطورة الاوديبية غير قابلة للفصل عن طقوس الفارماكوس الذي يعني في آن الداء والترياق، أي المخدر السحري والدواء الصيدلي الغامض . يرنو اوديب الى ان يصير"كبش فداء". يقول جان بيارفرنان في دراسة له عن [اوديب ملكا]، بان وجهي الملك الأزلي والفارماكوس يجتمعان في اوديب ويسمانه بالغموض، وعبر ذلك، يضفي سوفوكل بعدا عاما على بطله ليصير نموذجا للشرط الإنساني. هناك لحظتان في اوديب: اللحظة التي يرى فيها كدنس كريه، وكوعاء ضام للعار كله، انه اوديب ما قبل العنف الجماعي وبطل مسرحية (اوديب ملكا) يمثل هذا بالذات. اما اللحظة الأخرى فهي التي سينبجس فيها اوديب آخر من سيرورة عنيفة ماخوذة بعين الاعتبار في مجموعها. هذا الاوديب الثاني والنهائي، هو الذي نراه في التراجيدية الاوديبية الثانية (اوديب في كولون). من الدال هنا الاشارة الى رأي روني جيرار في الوضع الاعتباري الملغز للفارماكوس، الذي سرعان ما تتحول علامات الكراهية والنفور والقسوة التي تطاله، الى شهادات على الاحترام شبه الديني تقريبا له والذي يتساوق وحالة الانفراج ذات البعد التطهيري الناجمة عن طقس التضحية. لذا كان من الضروري ان تعتبر الجماعة طرد اوديب أمرا عقلانيا حين اعتبرته السبب الرئيسي في النقمة التي حلت بها، واعتبرت تكريمه وتشريفه عقلانيا حين رأت في ذهابه النعمة التي ستطالها. الموقفان المتتاليان معا يعتبران عقلانيان رغم تناقضهما اذ يكفي الاول للتمتع بالثاني بعد ذلك] 4. لقد شكل جسد الانسان بتحولاته وتشكلاته والمآلية الحتمية التي ينذغم فيها، اللغز الاساس الذي اجاب عنه اوديب مخلصا مدينة "طيبة" من لعنة السفنكس، لكن جسد اوديب نفسه يشكل رهان الاسطورة والمسرحية في آن بكل موضوعية وقسوة. حين وصل اوديب كولون، تم رفضه باعتباره الغريب والخارج عن القانون قاتل الاب ومقترف زنا المحارم، لكن حين منح الوضع الاعتباري للاجئ سرعان ما سيروم كريون استعادة جسد اوديب كحيوان متوحش كما سيصفه، لكنه ظل ثابتا في مكانه في وضعيته التاملية منفيا، مقيما عند حد اللغة. ظل اوديب في منفاه المتكلم لا باعتباره العارف لعمق الأشياء بل باعتباره المنفي، واكد انه قد يتكلم كما لو انه يرى وحين صار اوديب جثة ظل مكان موته مجهولا و لا احد راه و هو ينذغم في غيابه و لم يحمل تيزي thésée معه بعد معرفته بموت اوديب، سوى الكلمة التي لم يقلها له هذا الاخير قيد حياته، الكلمة المضيئة و الحاملة للمنفعة التي لم تكن غير المعنى. بالرغم من الاحداث المرعبة التي طالته كخطف بناته، ظل اوديب جالسا متأملا و كانه صار لغزا محيرا. انذغم في صمت يقر به من نهايته المحتومة: صمت الاحتضار. لم يظل اوديب جالسا ليستريح و ليستعطف و ليسمع الاتهامات، بل لينصت للغز المتكلم في جوانيته و يتملك حركيته. ظل اوديب جالسا متاملا لياخذ الوقت الكافي ليأتيه يقين المنفعة التي سيحملها الى اثينا و لينبجس كلام لغزه و هو اليقين التي تعرف عليه تقريبا في ما يشبه شتيمة حملتها اليه إسمين ismène تقول، بان سكان "طيبة" يطالبون بوضع جثته عند احد أبواب المدينة. سألها اوديب: ما المنفعة التي ستنجم عن وضع جثة ؟ فأجابته: إذا ما تعاملوا مع قبرك تعاملا مشينا فسيكون ذلك حجة دامغة عليهم . اوديب الجسد الممنوح لمآلية جارفة, قاتل الاب و مقترف زنا المحارم ثم المنفي الاعمى, المبعد, الخارج عن القانون, الغريب, تصير جثته الان ذات حمولة سياسية تتنازعها مدينتان : طيبة و اثينا,سكان طيبة يريدون استعادته الى تاريخ ماليته الكارثية و عماه الذي هو في آن تاريخه الشخصي و تاريخ المدينة, لذا انبجست في ذهنه فكرة الهبة بوضوح, منح جسده هبة لاثيناالمدينة الغريبة بالنسبة له .ان الهبة كما اللغز، يلفي اوديب نفسه ملزما بالتعبير عنها و كل الحياة, كل ما تبقى منها اشتغال على النسيان, نسيانه حتى يتفرغ فقط للتفكير في اللحظة التي تلخص كل شيء، لحظة الجسد – الهبة. بالرغم من ان اوديب ظل خطيرا و مرعبا فقد صار مهما جدا, تتنازع جثته الآتية، التي تشكل نوعا من الطلسم او التميمة مدينتا كولون و طيبة بكل شراسة. لقد اكتست جثته قيمة الانتصار لهذا الطرف او ذاك, بالرغم من ان جسده تحول الى منزل اشباح، جسد غائب عن ذاته, نسيج واهن, دمره عنف المصائر و اعتباطيتها، مجرد ظل غامض لذات اختبرت اقاصي الكارثة. من هذه المنفعة التي منحها اوديب كهبة تولد المدينة, انها جسد اوديب المغذي و المخلص, التربة المخصبة لانبجاس الديمقراطية .حدث هذا في كولون، المدينة التي شكلت احدى ضواحي اثينا آنذاك. -René Girard, la violence et le sacré,coll: pluriel,Edition Grasset, 1972.p.144 مصطفى الحسناوي