شعرٌ أخضر يُزهر في حدائق القَصيدة المغربية. كوكبةٌ من الشاعرات والشعراء اختاروا رُكُوب موْجة تجريب النسج على منوال الهايكو. ذلك الشكل الشعري الآسيوي المضغوط مثل دبّوس يزيّنُ بذلة يابانية مطرّزة بالليلك واللوتس والأوركيديا. يبدو الهَايْكو شكلا سَهْل المأْخَذ والاحتذاء. بضعةُ أسْطر شعرية تُوقظ مَغْفيات بلا عدّ.. تكفي عيٌن لمّاحة، وجدانٌ محلّق، لقْطةٌ أخّاذة، كلمات أقلّ.. وتنفلتُ الفراشةُ من شرْنقتها مزهوّة بحصّتها من الألوان والهواء والشّمس والظّلال القزحية الراقصة. أوّلُ شاعر مغربي ارتاد هذا الشكلَ التعبيري هو سعد سرحان. نزوعُه التأملي. قدرتُه على التقاط المفارقات الصغيرة التي تعجُّ بها الحياة اليومية بحسّ طفولي عميق. لغتُهُ الأنيقة وعبارتُه المحكّكة. كثافةُ السخرية التي تخفف من ثقل الحياة وتبثُّ شحنة من المرح في القارئ. وتلك المسافة الضرورية التي يقيمُها مع وسط ثقافي أشياءٌ كثيرة فيه ليست على ما يرام. الفرقُ أن سعد عرف كيف يبثُّ هذا الشكلَ التعبيري العظيم الخارج من أتون قريحة شعرية إمبراطورية في غور الصين واليابان، روحا مغربية متوثبة. لم يتركهُ مجرّد قوقعة فارغة من نفس صاحبها تثير العين بجمالها وتكوينها لكنها فارغة من أي حياة. شكل بلا روح. الصنيعُ نفسُه فعله الشاعرُ الأمريكي ألن غينسبرغ حين كتب في الهايكو. حوّله، وأغناهُ بتلك الروح المتمردة على الحضارة المادية والمتزمّتة لبلاده. لم يعد الهايكو يَحفلُ بتغاريد العصافير وهفهفات الفراشات وغناء الطبيعة كما هو في الأصل، بل غدا مسكونا ب"العواء"، وبذلك الهرير من الألم الذي يتركه المعدن اللامع والحاد من تمزقات على جسد الكائن وروحه. استبطانُ شكل تعبيري في تملّكه. والهايكو سليل شكل آخر هو "التانغا". خمسةُ أسطر شعرية محسوبة، الثلاثة الأولى رصدٌ موضوعي أما السطران الباقيان فإسقاطٌ ذاتي. لكن ولع الروح الآسيوية بالتصغير في كل شيء، دفع شعراءها إلى ممارسة المزيد من المحو والنحت على هذا الجمان الشعري البديع، فتولّد الهايكو: ثلاثة أسطر شعرية مندمجة، اثنان منها قنصٌ موضوعي وواحد سبْر ذاتي. الشكلان معا، التانغا والهايكو، نتاجُ اندماج وانسجام وتناغم أكبر بين الإنسان والطبيعة. كلاهما امتداد للآخر وحلول فيه. ليس الإنسان إلا الكون وقد تكثف وتجمهر في هذه الكينونة المتناهية في الظاهر المتكثّرة بلا عدّ في الجوهر. في مدن موبوءة تنهش أحشاء البشر وتورثهم كل الأعطاب المزمنة، أليست الروح البودليرية الموسومة بالميلانخولية أكثر قدرة على تسمية الأشياء وكتابة الذات؟ عبد العالي دمياني