لاشك وأن التربية لها دور جد مهم في مكافحة الجريمة بشتى أنواعها وأشكالها، فالتربية إحدى الأدوات الرئيسية والأساسية التي تساعد على تأثيث الفرد ومده بكل المقومات والوسائل الخلقية منها والإنسانية، والتي تجعل منه فردا يلعب دورا إيجابيا داخل مجتمعه وداخل بيئته وداخل فضاءه الأسري، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج مواطن قادر على مواجهة الحياة ولعب دوره المجتمعي بمواطنة إيجابية. في حين أن التربية السيئة المبنية على أسس وركائز غير ثابتة وغير قارة، تنتج لنا فردا غير قادر على مواجهة الحياة، وفردا يلعب دورا سلبيا داخل مجتمعه، مما يؤدي إلى إنتاج فرد تطبعه ميولات إجرامية سواء كان راشدا أو حدثا. فالحدث من مفهوم قانوني، هو كل شخص ذكرا كان أو أنثى لم يبلغ من العمر السن المقررة لبلوغ الرشد الجنائي بحسب القانون الجاري به العمل، أو هو الصغير الذي أتم السن التي حددها القانون للتمييز ولم يتجاوز السن التي حددها لبلوغ سن الرشد، في حين يعرف الحدث الجانح بأنه كل شخص لم يبلغ السن المنصوص عليه قانونا لبلوغ الرشد الجنائي المحدد في ثمان عشر سنة، ويرتكب أحد الأفعال المخالفة للنظام العام أو القانون. وقد عرف مكتب الشؤون الاجتماعية التابع للأمم المتحدة الحدث الجانح من الناحية القانونية بأنه: " شخص في حدود سن معينة، يمثل أمام هيئة قضائية أو أية سلطة أخرى مختصة، بسبب ارتكابه جريمة جنائية، ليتلقى رعاية من شأنها أن تيسر إعادة تكيفه الاجتماعي. وعرفه الطبيب النفساني البريطاني المعروف بإسهاماته في علم النفس التربوي "Cyril Burt" بأنه: "حالة تتوافر في الحدث كلما أظهر ميولا مضادة للمجتمع لدرجة خطيرة تجعله أو يمكن أن تجعله موضوعا لإجراء رسمي". وفيما يخص مفهوم الجنوح فيكتنفه نوع من الغموض، فمن الصعب وضع تعريف عام ودقيق للجنوح نظرا لتشعب جذوره و تعدد أسبابه و تنوع مظاهره. "فكل حدث جانح يتميز بلون خاص من السلوك وهو يختلف عن الحدث الجانح الأخر في العوامل التي دفعت كليهما للجنوح، ولو تشابه سلوك كل منهما". لذلك فالتربية الصحيحة والإيجابية لها دور رئيسي وفعال في تنشئة الفرد تنشأة صحيحة تساعده على الاندماج بشكل فعلي وفعال داخل مجتمعه. فمن هم إذن المتدخلون في عملية التربية؟ وما هي الوسائل التربوية القادرة على مكافحة الجريمة داخل المجتمع، والكفيلة بوقف ظاهرة جنوح الأحداث في ظل ارتفاعها في السنوات الأخيرة؟ إن عملية التربية لها علاقة وطيدة بالعديد من المتدخلين الرئيسيين، أولهم الأسرة، فإذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإن الأُسرة هي الخلية الحية في كيانه، والفرد جزء من الأُسرة؛ يأخذ خصائصه الأُولى منها، وينطبع بطابعها، ويتأثر بتربيتها. وتعتبر الأسرة المكونة من الأبوين أقدم مؤسسة اجتماعية للتربية عرفها الإنسان، ولا زالت الأسرةُ في المجتمعات المختلفة هي مصدر التربية والمعرفة بالنسبة لأبنائها، فالأسرة لها دور رئيسي في العملية التربوية، ومما لا شك فيه أن الدور التربوي الذي تؤديه الأسرة تجاه أبنائها يختلف من أسرة إلى أخرى، تبعا للحالة السائدة داخل الأسرة من حيث المستوى الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، ومن حيث العلاقات السائدة بين الزوج والزوجة من جهة، وأسلوب تعاملهما مع الأبناء من جهة أخرى. فالأسرة التي يسودها الانسجام التام، والاحترام المتبادل بين الوالدين وسائر الأبناء، ولا يعانون من أية مشكلات سلوكية بين أعضائها والقادرة على احتواء أبنائها وتأطيرهم وملأ أوقات فراغهم بما يساعدهم على الابتعاد عن الانحراف، لاشك وأنها ستنتج في الأخير أفرادا إيجابيين داخل المجتمع، والأسرة المنشقة والمتمزقة وغير المنسجمة، والتي تفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين، ويمارس أحدهما سلوكاً لا يتناسب مع جنسه ولا يتلاءم معه، وغير مقبول اجتماعياً، والمفككة التي لا تراقب أبنائها ولا تساعدهم ولا تساندهم ولا تتتبعهم، ستنتج في الأخير فردا مجرما وحدثا جانحا لا يمكن احتوائه. لقد أدى تطور الحياة البشرية واستقرار الإنسان وبِناء المجتمعات المدنية والقروية وزيادة الخبرات البشرية وتعدد أنواع المعرفة البشرية، إلى أن تشارِك مؤسسات أخرى الأسرةَ في واجب الرعاية، والاهتمام، والتربية، والتوجيه، وتخلت الأسرة عن بعض ما كانت تقوم به، ورغم ذلك تظل المؤسسة الأولى في حياة المجتمع الحديث أيضا في التربية؛ من بين هاته المؤسسات نجد المدرسة، فالمدرسة كمجتمع مصغر لها دور محوري في عملية التربية سواء من حيث تلقين الأفراد مجموعة من القيم فكرا وممارسة، وأيضا بت الوعي لديهم بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات داخل مجتمعهم، فالمدرسة تعد أحد الوسائل والأدوات الأساسية التي تعول عليها الدولة في إنتاج أفراد يلعبون دورهم الإيجابي والمحوري في تنمية وتطوير مجتمعهم. والمدرسة أيضا لها دور آخر أكثر أهمية، وهو إبعاد الفرد عن كل السلوكيات والمظاهر التي قد تؤدي إلى الانحراف والجريمة. فالمدرسة تبقى المكان الأمثل لتحسيس الأطفال حول الإجرام والانحراف. لذلك يتعين على جميع العاملين في قطاع التربية والتعليم (أساتذة، إدارة، ومسؤولين) أن يتحلوا باليقظة، وأن يكونوا متفطنين لجميع الأخطار التي تحدق بالتلاميذ بداخل وخارج المدرسة، والتي تبقى المكان الأمثل للتحسيس حول الإجرام والانحراف. وينبغي على المدرس أن يفتح نقاشات ويقدم دروسا تفاعلية حول عدد من الآفات، من أجل تبادل الرؤى حول المواضيع المقترحة، والتفكير على نحو تشاركي في إيجاد حلول للمشاكل المطروحة. كما يجب على المدرس أن يعمل على تسهيل العلاقات بين أولياء التلاميذ والمدرسة، من خلال تعاون فعال يرمي إلى إنجاح العلاقة التربوية بين الأطفال والمدرسة والأسرة. وفيما يخص الوسائل التربوية القادرة على مكافحة الجريمة وجنوح الأحداث، نجد بأنه لابد في الأول من ترسيخ ثقافة قانونية لدى الأفراد، تساعدهم على فهم حقوقهم وواجباتهم، وتأسس منهم أفرادا عالمين بخبايا الأمور القانونية ومدركين لمدى خطر سلوكهم طريق الجريمة والانحراف وتعاطي المخدرات. هذه التربية أو الثقافة القانونية، يجب أن يتم ترسيخها داخل المدرسة منذ السنوات الأولى لولوج التلميذ لها، حتى لا يصبح في الأخير حدثا جانحا يضر بأسرته وبمجتمعه، فظاهرة جنوح الأحداث أصبحث في السنوات الأخيرة تنتشر كالنار في الهشيم، وهو ما يبدوا واضحا للعيان من خلال مباريات كرة القدم، والتي يكون فيها المتورط الأول وبنسبة كبيرة في أحداث الشغب في الملاعب أحداث جانحون، أو من خلال ظاهرة "التشرميل" التي انتشرت بشكل مهول في أوساط الشباب والأطفال على وجه الخصوص، والتي تؤدي بهؤلاء إلى ارتكاب الجرائم، ومن هنا يكمن الدور المحوري والأساسي للأسرة والمدرسة في تكوين إما فرد ملقن بتربية إيجابية، أو فرد ذو تربية سلبية تؤدي به في نهاية المطاف إلى ارتكاب الجريمة. في الأخير، وجب التأكيد على أن التربية لها دور كبير في إنتاج فرد إيجابي داخل المجتمع، وكذلك فالتربية القانونية منذ النشأة سيكون لها بالغ الأثر على الفرد وعلى الطفل على حد السواء. فالتربية القانونية ستساهم لا محالة في التقليل من الظواهر الإجرامية المنتشرة داخل مجتمعنا المغربي، وستساهم كذلك في وقف نزيف جنوح الأحداث. من هذا كله، يجب على الأسرة والمدرسة لعب دورهما على النحو المطلوب في عملية التربية، ويجب على الجميع تحمل مسؤولياتهم التربوية داخل النسق المجتمعي المغربي، سواء أكانت منظمات مجتمع مدني، أو وسائل إعلام مكتوبة أو مقروءة أو مسموعة، أو أحزاب سياسية، حتى نستطيع في الأخير بناء مجتمع تسود فيه ثقافة الوعي والتربية، وحتى نساهم جميعا في مكافحة ظاهرة الإجرام وجنوح الأحداث، لننتج في الأخير أفرادا يساهمون بمواطنة إيجابية داخل مجتمعهم.