والشعوب تعيش التطورات العالمية والإقليمية التي جعلت التنمية الاقتصادية والاجتماعية ترابيا ووطنيا مرتبطة أشد الارتباط بالتطور السياسي المنتج للتراكمات الديمقراطية والقدرة على ابتكار الخيارات المتعددة البناءة المحصنة باستمرار للمكتسبات، برز بشكل واضح حاجة المجتمعات إلى الاجتهاد المؤسساتي في تطوير آليات إنتاج النخب بمنطق الكم والكيف. نقول هذا لأننا نتابع يوميا نقاشات في مختلف المنابر تلتقي أغلبها حول فكرة كون تثبيت الاستقرار وضمان ديمومته يبقى رهينا إلى حد بعيد بتحويل الديمقراطية إلى آلية حقيقية لتحقيق المشاركة والتشارك الواسع لكل الفئات المجتمعية، أي الآلية التي ستمكن المجتمع والدولة المؤسساتية من الاستفادة من تفجير الطاقات والرفع من مردودية المواطنين أفرادا وجماعات. ونحن نتابع تطورات النقاش السياسي في بداية 2016، ارتأينا تخصيص ما تبقى من هذا المقال للإجابة على سؤال الرهانات السياسية المقبلة بتحالفات قد تعطي الانطباع وكأن القوى السياسية تتهيأ للعودة إلى فكرة "الكتلة التاريخية" للمرحوم محمد عابد الجابري؟. وعليه، والمغاربة يشعرون بنوع من الاطمئنان على الوضع المتقدم لبلادهم في المجالين السياسي والحقوقي، لم يعد اليوم مستساغا احتداد السجال في المواضيع البعيدة كل البعد عن الحاجيات الحقيقية للمواطنين، ولم يعد مقبولا التساهل مؤسساتيا وحزبيا مع الممارسات التي تسعى بكل السبل تكريس ظاهرة ربط التحركات السياسية للنخب بالمصلحة الذاتية. إن الدافع الذي جعلنا نثير هذا الإشكال، في هذا الوقت بالذات، أساسه في الحقيقة شعور بالخوف أو القلق، ينتابنا كلما فكرنا في المكانة الراقية التي يجب أن تطبع العلاقة التي تربط المردودية الفردية والجماعية بالعمل الوطني الجاد. نعم، لا يمكن لأحد أن يكون ضد خلق المقومات الضرورية لتحسين الوضع المادي للنخب السياسية والثقافية والفنية والرياضية، ولا ضد اعتبار ذلك بمثابة محفز على الإبداع والابتكار، لكن بدون أن يؤدي هذا إلى نوع من السلوكيات التي تكرس الانطباع الذي يرهن بشكل مبالغ فيه التحرك لخدمة الوطن بالمقابل المادي أو المردودية المادية (تحويل التحفيز المشروع إلى ريع بطبيعة سياسية). وهنا أرى أن الارتقاء السياسي والاجتماعي للنخب، وهو طموح مشروع، يجب، في رأينا، أن تكون شروطه مرتبطة بالمردودية الوطنية، وحب الوطن، والسعي الدائم لتحسين الأوضاع في مختلف الميادين. فالعطاء المستمر في خدمة هذا البلد، كمسؤولية ثقيلة تتحملها بالخصوص النخب الترابية، لا يمكن أن يختزل في مشاريع ذاتية تعبر عن "الأنا" بشكل مبالغ فيه، وبدون استحضار "النحن"، أي التاريخ الحضاري للأمة المغربية. فقيادة التغيير، بطموح تحسين مستوى عيش أجيال المستقبل، لا يمكن أن يتم إلا بنخب وطنية تحرص على الاقتداء بالمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، كقدوة في مجال حب الوطن والعفة والقناعة. لقد كان هذا الزعيم السياسي رائدا في مجال التفكير المستمر في موضوع تحويل مفهوم "التدرج"، كخيار سياسي لإستراتيجية النضال الديمقراطي، إلى آلية حقيقية لتقوية الخصوصية المغربية، خصوصية أساسها عمل سياسي وطني يقوي الثقة في المؤسسات، ويقوي الاطمئنان في نفوس الآباء والأمهات، والطموح في جعل الاستحقاق الآلية الوحيدة المعتمدة لتمكين أجيال الغد من الوصول إلى المواقع المؤثرة سياسيا واقتصاديا وإداريا واجتماعيا. وهنا، لا بد أن نشير أن مغرب العهد الجديد، بطبيعة منطقه المتجدد، يحتاج إلى تجاوز تكرار حالات الابتزاز السياسي، ليحل محلها تعاقد جديد ومتجدد يترجم ميدانيا بتوازن القوى السياسية في المجتمع في الآجال المنتظرة. من باب الموضوعية، أوضاع رواد الابتزاز والتغرير، في ظل الدستور الجديد، لا يجب أن تضمن الاستمرار في جعل هذه الظاهرة آلية لسد الطريق أمام بروز الطاقات الحية في المجتمع. فهناك من نخب الجيل الأول من أصبح من الزعماء البارزين في السجل السياسي الوطني، وهناك من لعب أدوارا سياسية طوال العقود التي تلت تاريخ الاستقلال، أدوار يجب أن توضع تحت المجهر لقياس نفحاتها الوطنية بحيث لا يمكن للجيلين الثاني والثالث أن يضفيا عليها طابع الوطنية الصرفة إلا في حالة ما إذا حصل اليوم وغدا نوع من الاقتناع بقوة العلاقة التفاعلية ما بين الأجيال الثلاث في الإسهام في تمتين البنيان المؤسساتي بالتدرج. فإذا كان الوضع الراهن ببلادنا يتميز بتربص بعض القوى المحافظة، والتي تعتبر تموقعها في وضع معارضة لما آل إلية المسار الطويل للتعاقدات والتوافقات ما بين الدولة والقوى المشاركة مصدرا للشرعية السياسية مجتمعيا، فإن ما يمكن أن يطمح إليه الشعب المغربي في الآجال القريب هو تحقيق نوع من التحالفات السياسية بطبيعة تمكن البلاد من بلورة السيناريوهات الممكنة للرفع من إيقاع التفاعلات السياسية لضمان استمرار التراكمات إلى حين ضمان المشاركة السياسية لكل القوى المجتمعية بكل مشاربها، وقبول الجميع الاحتكام لصناديق الاقتراع. في هذه النقطة بالذات، نرى أن تحقيق التناوب السياسي ما بين اليمين واليسار كأفق يمكن أن يحتاج إلى مرحلة أسميها "مرحلة البناء المادي والثقافي"، مرحلة يجب أن تحقق الدفعة المؤسساتية المطلوبة بحكومة ائتلاف وطني قوية. وهنا، تجنبنا الحديث، إراديا، عن حكومة الكتلة التاريخية، لأن الصراع السياسي في أوضاع المغرب ما بعد الدستور الجديد لم يبق في نظريا ذا طابع عمودي. إن مغرب اليوم، كبلد حضاري قاوم بقوة نفاذ المذاهب العقائدية الريعية الهدامة، له من المقومات ما يضمن له الامتياز السياسي إقليميا وجهويا. على المستوى العقائدي، تمكن المغرب، تحت سلطة مؤسسة إمارة المؤمنين، من تثبيت وحدة المذهب الديني على أساس فهم أصيل لروح الإسلام بالإقتداء بعمل الصحابة كمرجع أساسي لم يسمح بنفاذ أي تأثير أو فهم له صلة بتطورات ما بعد النزاع بين علي ومعاوية. وفي هذه النقطة بالذات، نشرت مؤخرا "تغريدة" على حائطي على الفيسبوك مفادها أن الاشتراكية الديمقراطية لا تتناقض قط ومقومات الإسلام التضامنية في السياق الحضاري المغربي. كما لا نستبعد أن تكون الاستحقاقات التشريعية المقبلة آلية لتمكين المغرب من الاستفادة من الدبلوماسية الحزبية عبر العمل الحكومي والبرلماني، عمل يستفيد من دعم الأممية الاشتراكية الديمقراطية، والأممية الليبرالية، ومن حكومات البلدان العربية الإسلامية، والدولة الفارسية الإيرانية، ومن روسيا والصين،...إلخ. إنها الحاجة إلى تحقيق القفزة الاقتصادية والسياسية ليكون المغرب المادي في مستوى الاستجابة لمتطلبات شعبه، وبالتالي تحصينه من التغرير ومن المتربصين المناوئين لتراكمات أربعين سنة من العمل السياسي بإيجابياته وسلبياته. وفي الختام، لا يمكن لأحد منا أن ينكر أن بلادنا في طريقها إلى القطع مع ممارسات تحويل السياسة إلى هوى ورغبات ذاتية تشجع على الابتزاز والتغرير. كما أن تطور طبيعة التفاعلات، التي كانت نتيجة التجريب والتفنيد، من شأنها أن تخلق دينامية جديدة بين مناضلي الصف الاشتراكي الديمقراطي. إنهم موجودون في كل مكان، نراهم رافضين لما أصابهم من تراجع، ملتزمين بالصمت أحيانا وميالين للعزلة أحيانا أخرى. نراهم في المساجد وفي المقاهي.... وفي نقاشاتنا مع عدد منهم استنتجنا أنهم يعتبرون الحدة التي أصبحت تميز الصراع الإقليمي في موضوع "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" هو مجانب لمصلحة الشعوب العربية الإسلامية... وأن المغرب، بفضل مؤسسة إمارة المؤمنين، استطاع أن يثبت خصوصيته الحضارية، وأن نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة قد تشكل فرصة سانحة تستطيع من خلالها البلاد، شعبا وملكا، من استدراك الفرص التي لم يتم استغلالها ما بعد التجربة الرائدة لحكومة التناوب التوافقي التي قادها المقاوم عبد الرحمان اليوسفي. وهنا نعني بالاستدراك، المرور إلى مرحلة سياسية جديدة تبعد الوطن بالشكل الكافي عن مخاطر التيه والضياع المحتملة بين معارج سياسة الماضي ومتاهات سياسة الحاضر.