قيادات "الأحرار" تلتئم بالداخلة.. تنويه بمنجزات الصحراء وحصيلة الحوار الاجتماعي    الأميرة للا أسماء تترأس بواشنطن حفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وجامعة غالوديت    جهة الداخلة-وادي الذهب.. الوزير البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    تعاف قوي لصادرات المندرين المغربي بعد سنوات الجفاف.. وروسيا في صدارة المستوردين    ولادة طفلة "بلا دماغ" بقطاع غزة ومطالب بالتحقيق في الأسلحة المحرمة التي تستعملها إسرائيل (فيديو)    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    إجهاض محاولة للتهريب الدولي للمخدرات وحجز طنين من الشيرا بمعبر الكركارات    حادثة سير بين بوعرك وأركمان ترسل سائق "تريبورتور" ومرافقه للمستعجلات    حين تصبح الحياة لغزاً والموت خلاصاً… "ياقوت" تكشف أسراراً دفينة فيلم جديد للمخرج المصطفى بنوقاص    الدار البيضاء تطلق قطبا تكنولوجيا جديدا بسيدي عثمان    رئيس برلمان دول الأنديز : أحب المغرب .. رسالة مؤثرة من قلب مراكش إلى العالم    أشغال تجهيز وتهيئة محطة تحلية مياه البحر بالداخلة تبلغ نسبة 60 بالمائة    شركة FRS DFDS تعلن عن موعد توقف استغلالها لخط "طريفة – طنجة المدينة"    بعد مقال "شمالي".. مجلس جماعة طنجة يؤجل التصويت على منح 45 مليون سنتيم لجمعية مقرّبة من نائبة العمدة وهذه أبرز النقاط المصادق عليها    جماهير الوداد الرياضي والجيش الملكي مع موعد تاريخي    هل يتجه حزب العدالة والتنمية إلى الحظر بعد أن تحول إلى جماعة إسلامية حمساوية    سوريا.. السلطات تعتبر القصف الإسرائيلي لمنطقة قريبة من القصر الرئاسي بدمشق "تصعيدا خطيرا"    توقيع اتفاقية إطار بشأن الشراكة والتعاون من أجل تطوير الحكومة الإلكترونية وتعميم استخدام ميزات الهوية الرقمية    لهذه الأسباب سيغيب الدولي المغربي مزراوي عن فريقه … !    مخاريق: لا يأتي من بنكيران سوى الشر.. وسينال "العقاب" في الانتخابات    الجامعة الملكية المغربية تكرم المنتخب الوطني النسوي المتوج بكأس الأمم الإفريقية للفوتسال    بسبب اختلالات رياضية.. الجامعة الملكية تصدر قرارات التوقيف والغرامة في حق عدد من المسؤولين    يونس مجاهد: مجالس الصحافة وضعت للجمهور وليست تنظيمات بين-مهنية    رغم القطيعة الدبلوماسية.. وفد برلماني مغربي يحل بالجزائر    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    لبنان يحذر حماس من استخدام أراضيه للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    "إغلاق أخضر" في بورصة البيضاء    اللاعب المغربي إلياس أخوماش يشارك في جنازة جدته بتطوان    حقوقيون يسجلون إخفاق الحوار الاجتماعي وينبهون إلى تآكل الحريات النقابية وتنامي القمع    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    في كلمة حول جبر الأضرار الناجمة عن مآسي العبودية والاتجار في البشر والاستعمار والاستغلال بإفريقيا: آمنة بوعياش تترافع حول «عدالة تعويضية» شاملة ومستدامة    «غزة على الصليب: أخطر حروب الصراع في فلسطين وعليها»    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    كلية الآداب بالجديدة وطلبتها يكرمون الدكتورة لطيفة الأزرق    عبد الله زريقة.. علامة مضيئة في الشعر المغربي تحتفي به "أنفاس" و"بيت الشعر"    سفينة مساعدات لغزة تتعرض لهجوم بمسيرة في المياه الدولية قرب مالطا    للمرة الخامسة.. مهمة سير فضائية نسائية بالكامل خارج المحطة الدولية    العرائش تسجل أعلى نسبة تملك.. وطنجة تتصدر الكراء بجهة الشمال    رسالة مفتوحة إلى السيد محمد ربيع الخليع رئيس المكتب الوطني للسكك الحديدية    كوريا: الرئيس المؤقت يقدم استقالته لدخول سباق الانتخابات الرئاسية    خُوسّيه سَارَامَاغُو.. من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل    الذهب يتعافى بعد بلوغ أدنى مستوى في أسبوعين    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة: المغرب يستهل مشواره بفوز مثير على كينيا    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    كرة القدم.. توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    منتجو الفواكه الحمراء يخلقون أزمة في اليد العاملة لفلاحي إقليم العرائش    الزلزولي يساهم في فوز بيتيس    هل بدأت أمريكا تحفر "قبرها العلمي"؟.. مختبرات مغلقة وأبحاث مجمدة    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"هكذا فهمت جبران"..
نشر في العمق المغربي يوم 20 - 06 - 2018

كثيرون هم الروائيون الذين قرأت أعمالهم الأدبية وإنتاجهم الفكري، لكن قليلون من أثروا فيّ من خلال كلماتهم، لهذا أجدني أتساءل عن جدوى قراءة مؤلف دون أن يحرك شيئا في مشاعرك؟ وما الفائدة منه –أقصد المؤلف- إن أنت أنفقت وقتك في تصفحه ورقة ورقة، وفي النهاية لم يستطع اقتحام عاطفتك قبل فكرك؟ في تجربتي القرائية الضئيلة لم أكن أقرأ الروايات كما ينبغي، بغض النظر عن كوني على معرفة بأهميتها في حياتنا، وعن كونها المرآة التي بموجبها نقرأ حياة الآخرين، وننهل من تجاربهم الإيجابية والسلبية. استمر عزوفي عن الاهتمام بكاتب دون غيره، فيما كنت كالنحلة أقتات من رحيق كتاب عديدين. في هذه الأثناء وقعت عيناي على رواية لجبران خليل جبران، فانتابني شوق كبير لقراءتها؛ لأن عنوانها جذب قلبي قبل عقلي، فارتأيت أن أقرأها بتريث، لعلي أجد اللذة الفكرية والشعورية التي طال تشوّقي لها، والتي لم أجدها عند من قرأت بعض أعمالهم.
فكانت بدايتي مع "الأجنحة المتكسرة" من خلال ما اختلج نفسي من حيرة عن الأجنحة المتكسرة، لذلك فقد بدأت رحلتي الحقيقية مع هذه الرواية؛ إذ رصدت حياة فتاة طاهرة أحبت فتىً في صمت، وأحبها هو الآخر في صمت، بيد أن منذ الصفحات الأولى كنت واضعا أمام عيني أفقَ انتظار؛ وهو أن الأجنحة المتكسرة لم تكن متكسرة قبل أن يدبّ نسيم الحب في كيانها، وإنما انكسرت بفعل أفق انتظار العاشقين الذي كسّرته الحياة برياحها العاتية، بل بتشريعاتها المتجبرة، وبسوء سريرة أناسها الأقوياء الذين ينهبون كلّ شيء، حتى قلوب الطيبين الطاهرين يقطفونها قبل أن تتفتح لاستقبال أشعة الشمس الساطعة، لتأتي الرياح العاتية وتقطف الفرح من محياها. لقد كانت رحلتي " مع الأجنحة المتكسرة" غريبة نوعا ما؛ إذ أجدني أحزن لحزن العاشقين، وأفرح لفرحهما، لتأتي النهاية الحزينة التي يكون الموتُ سيدَّها كالعادة، فيقطف رحيق الزهرة الحزينة في البداية، وما ينفك يرحل حتى يعود لقطف الزهرة. بعد بداية الرحلة رفقة "الأجنحة المتكسرة" مررت رفقة جبران لأكتشف عوالم الابتسامة، وحتى أرى إن كنت سأحس الشعورَ نفسَهُ في رحاب "دمعة وابتسامة"، حيث كانت الرحلة متعالية مع خواطر المؤلف التي تنم عن غياهب نفسه، وعن أحاسيسه المرهفة، وعن عشقه للجمال وللشعر بل للحياة الجميلة التي تبدأ من الجمال وتنتهي عنده. ثم وقع في يدي صدفة "السابق"، هذا الأخير الذي ضمّنه جبران مجموعة من الخواطر والقصص القصيرة المليئة بالألغاز لما تحمله من أبعاد ومرام يقصدها المؤلف، فالسابق هو الذي أجرى جبران، على لسانه، المحبة في الناس، لينتهي السابق إلى القول: " ها قد ولى الليل، ونحن أولاد الليل يجب أن نموت عندما يأتي الفجر متوكئا على التلال… وستبعث من رمادنا محبة أقوى من محباتنا".
وما "المجنون" إلا خواطر جبران التي تتناثر بين: الحبّ والدين (الصلب) والجنون والحكمة، والتطلع إلى مستقبل لم يحن أوانه بعد، ولم يقو عود جبران بعد ليحظى به، لذلك، وأنا أقرأ هذه القصص والخواطر لم أكن موفقا لفك مغزاها المتناثر بين السطور، المختبئ في أعماق اللغة الطيّعة. أما "العواصف" فهي عبارة عن خواطر وقصص قصيرة، تناول فيها المؤلف مجموعة من الموضوعات التي سبق وأن تحدث عنها؛ كالصلب (يسوع الناصري)، والدعوة إلى التخلص من شبح الأجداد: تقاليد ولغة ودينا وفكرا. بالإضافة إلى الإهداء الذي وجدناه في "المجنون" قد ورد أيضا في "العواصف" في قصة الجنية الساحرة. إن ما لفت انتباهنا في هذا المؤلف هو مناقشة جبران للمآخذ والانتقادات التي وجّهت إلى كتاباته وأفكاره، وذلك في قصة "المخدرات والمباضع".
هذا إلى جانب تكرار الكلام عن الشاعر في دمعة وابتسامة وفي العواصف. وفي "عرائس المروج" يطلعنا الكاتب عن ثلاث قصص تمثل ثيمات إنسانية كبرى؛ ففي الأولى حدثنا المؤلف عن الحب الخالد الذي يأبى الرحيل الأبدي وروح الشبيبة لم ترتو من نهره بعدُ، "فالأحلام والعواطف تبقى ببقاء الروح الكلي الخالد"، ولعل الخيال الأسطوري قد لعب دوره في قصة "رماد الأجيال والنار الخالدة"؛ إذ إن الحب يحترق ويغدو رمادا، بيد أنه ينبعث من جديد، ومن ثم فإن لجوء جبران إلى الحس الأسطوري الفينيقي (عشتروت)، قد أعطى لخياله متسعا فسيحا للتعبير ولجعل اللغة ترقص في عالمه الفتي. ما يذكرنا بأسطورة العنقاء وطائر الفينيق. في حين أن القصة الثانية "مرتا البانية" واقعةٌ مغلفةٌ بلغة بليغة، والظاهر من كلام المؤلف أنها واقعية مستوحاة من إحدى قرى لبنان، حيث الصفاءُ والهدوءُ والنقاءُ عكس المدينة التي ينتقدها جبران قائلا: "نحن أكثرُ من القرويين مالا وهم أشرفُ منا نفوسا…". إن جبران، من خلال هذه القصة" يطلعنا عن الحب الطاهر الذي تملؤه الغباوة والسذاجة أحيانا كثيرة، غير أنه نقي صفي من أدران السريرة الخبيثة والشريرة، وإن شئنا قلنا إنها نفوس شياطينَ في صفة إنسان؛ إذ يلهثون وراء أجسادٍ طاهرةٍ طوتها الفاقةُ والعوز، وفي الأخير يكون مآل الأجساد الطاهرة الرجمَ والنفيَ، وحدث أن" رفض الكهان الصلاة على بقاياها".
على أن المؤلف ينتقد المجتمع اللبناني في "قصة مرتا"، ليستمر في نقده للكنيسة التي تمنع العوام من قراءة تعاليم يسوع من تلقاء أنفسهم، وتبيع الدين للعوام على خلاف ما ورد في الإنجيل (العهد الجديد)، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم قبل جبران؛ فكثيرة هي الآيات التي تتحدث عن أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والذين يشترون الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم. في عرائس المروج علاقة خفيةٌ بين الطبيعة الأم، كما سماه المؤلف، وبين الإنسان، لكن لمَ يشقى الإنسان في الطبيعة؟ هل الطبيعة أمٌّ قاسيةُ القلبِ، تجور على أبنائها وتعصف عليهم بغضبها؟ لم تنته الرحلة هنا، وإنما استُأنفت مع " الأرواح المتمردة"؛ في هذه المحطة التي لا تكاد تختلف في الموضوعات الإنسانية (الحب، الدين، شرائع الجامعة) عن "عرائس المروج"، يعود المؤلف ليطلعنا عن الظلم والجور وكيف يسكن الأنفس المتجبرة المتكبرة؛ إذ دارت أحداث الرحلة في رحاب الأسرة ودورها من داخل مجتمع المؤلف، وكيف يختلط الدين بالحياة الاجتماعية، قبل أن تتدخل الشرائع التي وضعتها الجامعة البشرية. ومن ثم، يمكن القول إن المؤلف يرى أن الشرائع البشرية ظالمةٌ وقلّما تكون منصفةً، وهذا ما نكتشفه حين نرصد ما ورد في الرواية، وبالأخص الأحداث التي جارت في المحكمة التي تقوم على أسس وشرائع البشر، على أن المؤلف يرى أن الله لم يخلف بشرا في الأرض ليجعلَ الضعفاءَ سّجناءَ وأسرى بعدما خلقهم أحرارا، ولم يكن ليضع من يقيدوا حريتهم.
لقد صور المؤلف في "الأرواح المتمردة" الحبّ والدفاع عن الشرف ودفع الجوع عن النفس، في صورة تجعل القارئ يحسّ أشجان الفقراء والمحبين والمدافعين عن شرفهم أمام محكمة قاسية قوامها الشرائع البشرية، كما أن المؤلف يدعو الناس إلى دين بغير وساطة، وإلى أن يصلوا كما تريد أنفسهم على اعتبار أن المؤلف يرى في النفس البشرية خيرا؛ لأنها خلقت كذلك، وستنتقل من صورة لأخرى دون أن يتغير جوهرها الخيّر. من خلال هذه المحطة، يبدو جليا أن المؤلف له موقف من الكنيسة برهبانها وكهنواتها، ومن المحاكم البشرية وحكامها، لذلك نجده ينقل لنا حال من رفض التقيد بأوامر الكنيسة، وكيف تبيع –الكنيسة- الدينَ من أجل المال، وكيف تسترقّ دماءَ الضعفاء والمغلوب على أمرهم. وما الضعفاء الطاهرون والمدافعون عن شرفهم –حتى وإن لزم منهمُ الأمرُ أن يسكبوا آخر قطرة من دمهم النقيّ الطاهر- والمحبّون إلا أرواحٌ متمردةٌ على يد بشر متجبر يضرب بسوطه حتى الموت، دون أن يحس جوع الجائعين، ولا مآسي المحزونين، ولا أن يجعل الدين نقيا صفيا يرفرف داخل قلوب الضعفاء كالطائر الحرّ الطّليق. وتبعا لذلك يكون الدين عند جبران مزيجا من المسيحية والإسلام، بمعنى أنه –الدين- واحد حتى وإن اختلفت طرق ممارساته وعبادته من قوم لآخرين. تجدر بنا الإشارة إلى أن العديد من القصص تتكرر في مؤلفات جبران؛ إذ ونحن نقرأ "البدائع والطرائف" تبينا القصص التي تكررت، لكن الأهم هو نظرة جبران إلى الوجود ووحدته، وتعدد الديانات التي تكلّم عنها في مسرحيته "إرم ذات العماد"، والتي استهلها الكاتب بآية قرآنية وحديث نبوي. ولا أدلّ على ذلك من شخصيات المسرحية، والهدف هو تأكيد وحدة الدين كما أشرنا سابقا، رغم اختلاف الممارسات.
ولعل "مناجاة أرواح" قد قدمت فكرة بديعة عن رؤية جبران للعلاقات الإنسانية وللمعرفة وللشيطان ولفلسفة الابتسامة وغيرها من المواضيع كثير. "أرباب الأرض": في هذا المؤلف قدم لنا جبران حوارا فلسفيا أجراه على لسان أرباب ثلاثة؛ إذ يتجادلون حول الإنسان والوجود والحب… فالأول رب أرض متعال كاره للإنسان الضعيف، والثاني يحن على الإنسان، أما الرب الثالث فإنه يسعى إلى الجمع بين رأيي الربّين الآخرين، لينتصر في النهاية الحب الإنساني العلوي؛ إنه الحبّ بين المرأة والرجل، فهو الجمال السامي الخالد (فالحب باق، وبصماته لا تزول). كما أننا نقرّ أن الموضوعات تتكرر في كتابات جبران، ولا أدل على هذا مما تقوله كتب النقاد والمهتمين بأدب جبران عامة، وهذا المؤلف على وجه الخصوص؛ حيث أودع فيه جبران آخر كلماته قبل أن تخرج أنفاسه الأخيرة.
على أن هناك مؤلفاتٍ عديدةً لجبران تميز هذه الفترة من تجاربه وخواطره، فقد وقعتُ صدفة على رواية " النبيّ"، والتي تشكل أكبر مستفز للقارئ منذ اللحظة الأولى التي تعتنق فيها روحُه روحَ المؤلف، إذ تساءلت عن نبيّ جبران: أهو نبينا أم أن للمؤلف نبيا آخر؟ وبعد البداية في قراءة صفحاته، رغم قلتها، بدأت أكتشف أننا في حاجة لمعرفة: الحب عند جبران، والعطاء، والعمل، والتضحية، والدين، والفرح والسعادة، والشّر والخير…، لنكتشف، بعد ذلك، أننا نقرأ الحكمة من المعلم المصطفى الذي جعله جبران يخاطب في الناس ويسقيهم من حوض حكمته، ويزرع في نفوسهم بذور التآخي والمحبة والإنسانية، على أن هناك نظرةً إنسانيةً اتخذها المؤلف حملا على عاتقه؛ وهي أن الناس جميعا إخوةٌ بغض النظر عن اختلاف اللغات والأجناس…، ولعل هذا جزءٌ مما أتى به النبي محمد عليه أفضل الصلوات.
فحين تقرأ الحبّ والجمال عند جبران تكتشف حكمته الناضجة، وفكره العميق وفلسفته الأصيلة، ورحلته المعرفية التي انهالت من مختلِف المشارب الفكرية والدينية والأسطورية؛ إنه المؤلِّفُ الذي يستفز قارئه بلغته الطّيعة التي يسكب فيها مشاعرَه وأفكارَه ونظرتَه للإنسان وللجمال. ولأن المؤلف أسرّ في نهاية النبي على عودته، فقد ملأني حبّ الاكتشاف إلى البحث عن طبيعة عودته في " حديقة النبي"، لأتبين كيف أن المعلم يعلم الناسَ الحكمةَ من الطبيعة، وكيف أنه يوجههم، دوما، إلى البحث عن أفراحهم وأحزانهم وعلمهم وحكمتهم في الطبيعة؛ لأنهم منها وهي منهم من جهة، ولكونها الطريقَ المستقيمَ لاكتشاف الروح الكلّي من جهة ثانية، وما من سبيل لبلوغ هذه الغاية العليا، عند جبران، إلا إذا تأملنا الجمال عنده حيث قال: "هيموا وراء الجمال واتبعوه وإن قادكم إلى شفا الهاوية. أجل، اتبعوه وإن كان ذا جناح وأنتم لا جناح لكم، اتبعوه وإن انتهي بكم إلى الهاوية. اتبعوه، فإن افتقدتمُ الجمال، افتقدتم كل شيء". على أن حديث جبران على لسان معلمه المصطفى يزداد جمالا في نفوسنا، ونحن صامدين عاجزين عن فكّ مغزى حكمته، وعن الغاية التي يروم نحتَها على قلوب مستمعيه الذين حضروا حديقتَه التي طالما رددت أصداء المصطفى بقوة كلماته، التي تجعل القلوب في حيرة، ولعل المصطفى أحس أمرهم، فباشر يخاطبهم قائلا: "فإن وقعت كلماتي عليكم وقع الصخور في ثقلها والألغاز في خفائها، فجدّوا في البحث إلى أن تنشقّ قلوبكم وتهديكم من حيرتكم إلى حب العلي المتعال وحكمته، ذلك الذي يسميه الناس الله".
وتنتهي الرحلة رفقة النبي الصّوفي في حديقته حيث غنينا معه أغنيته الأخيرة رفقة الغمامة. "رمل وزبد": كتيّب صغير كتبه الشاعر الفيلسوف جبران بعد كتابه "حديقة النبي"، ولعل ما يستخلص من هذا الكتاب أن صاحبه ضمّنه جملةً من الحكم القصيرة من حيث اللفظُ، والعميقة من حيث الدلالةُ… صحيح أننا لامسنا بعض التكرار لما ورد في كتاب "النبي"، وصحيح أيضا، أن هذا الكتيّب يطلعنا على اعتراف جبران بفشله وجهله بالحق المطلق.. ذاك الحق الذي يقبض عليه في قبضته، ثم ما يلبث أن يسيل كالماء بين فجوات أصابعه؛ هذا هو رمل وزبد… خواطر وحكم جبرانية تضع القارئ في صراع مع الرمز والعمق الفكري الفذ المتّقد. لتنتهي رحلتي مع "عيسى ابن الإنسان"؛ هذا الكتاب الذي عدّ من أبرز أعمال جبران، والذي، من خلاله، قدم لنا جبرانُ صورةً عن عيسى كما تخيله هو. فهو إله ونبي وحكيم وشاعر إنساني؛ إذ إنه يجالس الناس ويحدّثهم عن أفراحهم وأحزانهم، وعن آمالهم ورؤيته الجديدة لمستقبلهم وغدهم، بيد أن الجميل عند جبران، أنه قدم لنا صورةً واضحةَ المعالمِ عن عيسى بين محبّيه وأعدائه، بين الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون، بين حواريِّيه وأتباعه الذين ظلوا أوفياءَ لتعاليمه، وبين أولئك الذين سرعان ما أعماهم الطمع، فكانوا بذلك اليدَ التي خانته، ومن ثم قادته إلى العدوّ ليلقى مصرعه. على أن في الكتاب جملةً من الأمور التي لم نستسغها فيه، لكننا نفتكر أن جبران قد صوّر رؤيته لعيسى، ورؤيةَ الذين يمجدونه في وقتنا هذا. بعد هذه الرحلة القصيرة رفقة مؤلفات جبران خليل جبران، أؤثر الإشارة إلى أني لم أقبل على مؤلفات جبران بعين ناقدة، ولم أدّعِ النقد بهذه الكلمات ولا التأويل لما كتبه، بقدر ما جذبتني لغته الشعرية المترنمة، وقوة تصويره الجمالي للنفس الإنسانية وللطبيعة بمختلف عناصرها ومكوناتها، ولعل ما يستفادُ من هذه الرحلة هو أن جبران قد كانت بدايتُه الإبداعيةُ مختلفةً عن نهايته؛ فبعد فترة الصبا والفتي انتهى به السبيل إلى الحكمة لدرجة أنه قد رأى في نفسه نبيا، يحمل كأسا كبيرةً ممتلئةً بالقيم الإنسانية وراح يترعُ كؤوسَ الناس منها. لعلنا قد أخذنا الرغبة الجامحة لقراءة المؤلفات الغزيرة التي أُلّفت حول ما كتب جبران طيلة حياته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.