احتفالية مهيبة بمناسبة تخليد الذكرى التاسعة والستين لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني بالعرائش    عملية سرقة بمؤسسة "روض الأزهار" بالعرائش: الجاني انتحل صفة ولي أمر واستغل لحظة غفلة    ورشة تكوينية حول التحول الرقمي والتوقيع الإلكتروني بكلية العرائش    معاناة المعشرين الأفارقة في ميناء طنجة المتوسطي من سياسة الجمارك المغربية وتحديات العبور…    الزيارة لكنوز العرب زائرة 2من3    الرملي يثمن حصيلة تدخلات الأمن بشفشاون ويعتبر الشرطة مساهما رئيسيا في عالمية المدينة الزرقاء    تأييد الحكم الابتدائي في قضية رئيس جماعة تازروت القاضي بستة أشهر حبسا موقوف التنفيذ    الاتحاد الأوروبي يجدد رفضه القاطع الاعتراف ب"كيان البوليساريو" الانفصالي    سميرة فرجي تنثر أزهار شعرها في رحاب جامعة محمد الأول بوجدة    افتتاح المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي عند الدخول الجامعي 2025-2026    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تترأس حفل افتتاح الدورة ال28 لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    ولاية أمن أكادير تحتفل بالذكرى ال69 لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني    أقصبي: استوردنا أسئلة لا تخصنا وفقدنا السيادة البحثية.. وتقديس الرياضيات في الاقتصاد قادنا إلى نتائج عبثية    تحقيقات قضائية مع زعيم "شبكة الدبلومات" تطال محامين وميسورين    ملتقى ينادي بتأهيل فلاحي الشمال    أبل تحجب مجددا لعبة "فورتنايت" من متجر تطبيقاتها حول العالم    ملف إسكوبار الصحراء.. الناصري يتهم برلمانياً بالتحريض على شهادة الزور    برشلونة يخطط لخوض مباراة ودية في المغرب    ملتمس الرقابة.. المعارضة تفشل في الإطاحة بحكومة أخنوش بسبب خلافاتها    الهاكا" ترفض شكايات أحزاب المعارضة بخصوص وصلة الحكومة حول "مونديال 2030"    بوريطة يحل ببغداد لتمثيل الملك محمد السادس في القمة العربية ال34 والقمة الاقتصادية والتنموية    بنسعيد: مؤتمر وزراء الشباب والرياضة للدول الفرنكوفونية.. المغرب ملتزم بالعمل من أجل تنفيذ سياسات طموحة لفائدة الشباب    الدرهم يرتفع بنسبة 0,4 في الماي ة مقابل اليورو خلال الفترة من 08 إلى 14 ماي(بنك المغرب)    الشباب المغربي بين الطموح والتحديات    ‬الشعباني: نهضة بركان يحترم سيمبا    منظمة: حصيلة الحصبة ثقيلة.. وعفيف: المغرب يخرج من الحالة الوبائية    اكزناية.. حريق بمحل أفرشة يثير الهلع بدوار بدريويين    اليماني: تحرير أسعار المحروقات خدم مصالح الشركات.. وأرباحها تتجاوز 80 مليار درهم    للجمعة ال76.. آلاف المغاربة يشاركون في وقفات تضامنية مع غزة    وزير العدل يعتذر في طنجة لأسرة المحاماة    ترامب يُنهي جولته الخليجية بصفقات قياسية    موسم طانطان: شاهد حيّ على ثقافة الرحل    أكاديمية محمد السادس لكرة القدم.. مشتل يسهم في تألق المنتخبات المغربية    أبرز تعديلات النظام الأساسي ل"الباطرونا"    "الكاف" يكشف عن تصميم جديد لكأس عصبة الأبطال يوم الخميس المقبل    الحرارة تعود إلى مناطق داخلية بالمغرب    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بارتفاع    أوراق قديمة عصِيّةَ الاحتراق !    المغرب يواجه جنوب إفريقيا في المباراة النهائية لكأس أمم إفريقيا للشباب    ترامب: كثيرون يتضورون جوعا في غزة    تغازوت تحتضن مؤتمر شركات السفر الفرنسية لتعزيز التعاون السياحي المغربي الفرنسي    لازارو وزينب أسامة يعلنان عن عمل فني مشترك بعنوان "بينالتي"    إسرائيل تسلم واشنطن قائمة "خطوط حمراء" بشأن الاتفاق النووي مع إيران    متحف البطحاء بفاس يستقطب آلاف الزوار بعد ترميمه ويبرز غنى الحضارة المغربية    جوردي ألبا يمدد عقده مع إنتر ميامي إلى غاية 2027    نداء إنساني من ابنتي الكاتب بوعلام صنصال: لا نعلم أي شيء عن حالته داخل سجنه بالجزائر    من طنجة إلى مراكش.. الصالون الوطني لوكالات كراء السيارات يتوسّع وطنياً    الزيارة لكنوز العرب زائرة / 1من3    تيزنيت تحتفل ليلاً بصعود الأمل و"الريزينغ" يشعل ساحة الاستقبال وأجواء فرح لا تُنسى ( صور )    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    تزايد عدد المشردين يقلص الدخول إلى مطار مدريد    ابتلاع الطفل لأجسام غريبة .. أخطار وإسعافات أولية    دراسة: الاحترار المناخي يهدد أوروبا بانتشار وبائي لحمى الضنك وشيكونغونيا    دراسة: الإفراط في الأغذية المُعالجة قد يضاعف خطر الإصابة بأعراض مبكرة لمرض باركنسون    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأهيل التدبير العمومي وشرط الكفاءة والنفس الوطني
نشر في العمق المغربي يوم 06 - 12 - 2018

تفاعلا مع ما يحفل به الشأن العام ببلادنا، من قضايا وتحديات، وأحداث ووقائع، بعضها للأسف مُنغصٌ، وبعضها والحمد لله يعزز شُعلة الأمل، تابعنا الأسبوع الماضي، ما ظهر أنه استمرار لوضع حرج وجدت فيه نفسها اللجنة المُشكلة تحت رئاسة السيد رئيس الحكومة، إثر عدم توفقها في صياغة تصور استراتيجي “لتأهيل عرض التكوين المهني”، كما طلب ذلك منها جلالة الملك محمد السادس، رئيس الدولة، خلال جلسة العمل المنعقدة يوم الفاتح من أكتوبر 2018.
وقبل تسطير بعض الخلاصات و استنباط بعض المعاني مما قيل، ومما لم يُقل، يجدر التذكير بمسار الملف الذي انطلق بتميز، في جلسة عمل خصصت لموضوع “تأهيل عرض التكوين المهني وتنويع وتثمين المهن وتحديث المناهج البيداغوجية”، في سياق “تنفيذ الأولويات والتدابير المحددة” في خطابي العرش وذكرى 20 غشت لهذه السنة، والتي أكدت على وجود رغبة سيادية قوية في جعل قطاع التكوين المهني “رافعة استراتيجية، ومسارا واعدا لتهييء الشباب لولوج سوق الشغل”، وتحقيق الإندماج المهني والسوسيو اقتصادي. خلال تلك الجلسة، منحت اللجنة مُهلة ثلاثة أسابيع “لبلورة وعرض مشاريع وإجراءات دقيقة”. فانتظرنا مستبشرين متفائلين، إلى أن طالعنا، مساء يوم السبت 27 أكتوبر 2018، بلاغ مقتضب يخبر أن اللجنة التمست “منحها مهلة قصيرة من أجل استكمال المهمة المنوطة بها”. ولأن المنطق العام الذي تندرج فيه كل هذه الجهود يبتغي الخير للوطن، و يسعى للجودة في المقترحات والدقة في العمل، كان طبيعيا أن يتقرر منح اللجنة مهلة إضافية، لم يتم الإفصاح عن مدتها.
ثم مر أسبوع، وأسبوعين، فثلاثة أسابيع، لتصبح “المهلة الإضافية” متساوية مع الأجل الأصلي للمهمة، لندخل مرحلة التساؤل حول أسباب التأخير ودواعيه. توالت الأيام لتكمل المهلة شهرا، ويتسرب إلى الغيورين توجس حقيقي. فبينما كان ما تم التعبير عنه عند من إحداث اللجنة، هو تجسيد عملي لبداية مسار، طويل ومعقد ومتسارع، نريده أن ينجح ليبقي شعلة الأمل تنير الدرب من خلال تحريك المياه الراكدة في عدة قطاعات عمومية، سعيا لتحقيق للجودة والنجاعة وتحقيق تأهيل شامل لتدبير الشأن العام ببلادنا؛ واعتبارا لكون ما حدث هو سيرورة عادية لحالات لجان موضوعاتية سابقة، تميز إحداثها بالجدية والمسؤولية والحرص السيادي الحكيم، على أن تقوم كل المؤسسات والسلطات بمهامها، في احترام تام للأدوار المؤسساتية المحسوم فيها دستوريا؛ في سياق ذلك كله، تفاجئنا أن ما كان يفترض أن يكون ولادة طبيعية لبرنامج عمومي جديد، خاص بتأهيل قطاع التكوين المهني، تتجلى من خلاله أشياء ملموسة يفرح بها الشباب، تحول الأمر إلى ما يشبه ولادة قيصرية بضغط نفسي يفرض انتظار آخر فصول العملية للتأكد أوُلد المولود المنتظر؟ وعلى أي حال وُلد؟
أعترف أن أول ما بدر إلى ذهني، أمام طول المهلة التي أخذتها اللجنة الحكومية، هو الإعتقاد أننا ربما بصدد شيء يشبه حكاية، مُضحكة مُبكية، عن ذلك التلميذ “المهذب المبتسم”، الذي كان الناس يقولون عنه أنه “لطيف ومسالم”، يمشي بين أقرانه مدعيا أنه جاد في عمله، موهما الجميع أن الكفاءة لا تعوزه، بينما هو يمعن في التحايل على أساتذته، بمائة سبب و سبب، كلما طالبوه بإعداد فرض منزلي. حتى إذا جاءت ساعة الامتحان المباشر في الفصل الدراسي، تعلل وتأخر، بل مرض وغاب… ليدرك الجميع أن التلميذ المسكين لم يكن إلا مكابرا بين منزلتي ضعف الكفاءة، وغرور عن الإعتراف بنقائصه و طلب العون والمساعدة، لعل مستواه يرقى.
وفي حالة لجنتنا المحترمة، خشيت من أن يكون واقع الحال أقبح من حالة التلميذ “المهذب المبتسم”، إلى أن صدر، بحرص متميز على التواصل المؤسساتي الهادف والمحترم لذكاء المغاربة، بلاغ ثالث يخبرنا أن جلسة عمل تمت تحت الرئاسة الملكية السامية، يوم الخميس 29 نونبر 2018، و”خصصت لمتابعة موضوع تأهيل وتحديث قطاع التكوين المهني”. ألقيت السمع متمعنا فيما قيل محاولا تحليل ما تم تناوله، يقينا مني أن في التفاصيل خلاصات قوية وإشارات دقيقة لا يجب أن نغفلها، لتتضح الصورة ويكتمل المعنى.
أخبرنا البلاغ أن جلالة الملك استفسر أولا، في بداية جلسة العمل هذه، عن “تقدم تنفيذ مخطط التسريع الصناعي لجهة سوس ماسة، الذي سبق لجلالته أن ترأس انطلاقته في 28 يناير 2018 بأكادير”. مخطط اعتبر حينها منطلقا “للتنزيل الجهوي للاستراتيجية الصناعية الوطنية”. حيث أثار عاهل البلاد الانتباه “لتعثر هذا المخطط، الذي لم يعرف أي تقدم منذ إطلاقه، داعيا القطاع المعني، إلى تظافر الجهود، وتحمل مسؤولياته، قصد الإسراع بتنزيله داخل الآجال المحددة”. مضمون الكلام واضح في البلاغ، ومكمن الخلل المسجل جلي، وأصحابه معروفون، وعليهم تحمل مسؤولياتهم.
في الحقيقة، الخلاصة في هذا الجزء من الموضوع شديدة الأهمية، وتحتاج لوحدها وقفة تأمل طويلة وتحليل شجاع يقول الحقيقة ولا يجامل، لأن استمرارنا في الصمت أمام هدر الحكومة للوقت وللزمن السياسي يجب أن يتوقف، وإلا سنكون متواطئين ضد مستقبل بلدنا، وحاشا لله أن نكون كذلك. إن تضييع مدة “أحد عشر شهرا” مرت دون فعل ناجع، تحيل إلى أن التزام الآجال والتعاقدات، بالنسبة للفاعل الحكومي المغربي، لا تمت بصلة لمنطق التدبير الرصين لقيمة أساسية في التدبير ألا وهي الوقت، في ارتباط بتعقد المحيط وسرعة تغير معطيات الواقع وشراسة الصراع الاقتصادي والتنافسي بين أقطاب العالم.
وإذا استحضرنا “أوراشا” أخرى أضاعت علينا فيها الحكومة وقتا كبيرا، خلال السنوات القليلة الماضية، وهي تفكر وتتردد، وتتوجس من كل شيء، وتتصارع مع ذاتها، وتحسب حساباتها الضيقة بمفردها وبمعزل عن مقامات الحكمة والنصح الممكنة؛ أخشى أن يكون ما جرى، وما زال يجري، أخطر مما كنا نعتقد ونحن غافلون.
كنت أعتقد أن المهم عند بعض مدبري السياسات العمومية، والحالة هذه، هي أن يحققوا مكتسبات من تواجدهم بمناصبهم، وأن يظلوا بها وكفى. ولكن لنفكر قليلا… ألسنا أمام معضلة أعمق وأخطر تتجلى في سعي “غير معلن” لتمييع التدبير وتسفيه ممارسة الشأن العام، في إطار منطق تعبر عنه الدارجة المغربية بالقول “خليها تخماج… أنت مالك…”؟ (Stratégie du pourrissement).
المهم، بالعودة إلى موضوعنا الأساسي، أخبرنا البلاغ أنه تم إطلاع عاهل البلاد على مكونات “برنامج تأهيل عرض التكوين المهني” الذي أعدته الحكومة. ولكن بين السطور ومن نبرات الكلمات، ظهر أن حالة من عدم الاقتناع مما تم تقديمه في “البرنامج”، قد حصلت، حيث طُلب من اللجنة “الإنكبابُ على بعض النواقص التي تشوبه، وعلى مسألة ضبط مصادر وآليات تمويله”. مع توجيه واضح بأن تسعى اللجنة للنهوض بالقطاع ضمن منظور متكامل لإصلاح منظومة التكوين المهني، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، واعتماد التناوب بين التكوين النظري والتدريب داخل المقاولات.
لا أخفيكم أنني تفاجئت لهذا الذي حصل لكوني كنت أعتبر أن الورش الموضوعاتي متيسر ومقدور عليه ولن يكون أبدا بهذه “الصعوبة” التي يظهر أن اللجنة الحكومية وجدتها في أداء المهمة، شريطة قيامها بتوسيع دائرة التشاور والاعتماد على الكفاءات الموجودة، والاستفادة مما لدى أطر القطاع المعني من تجارب، وما لدى الفاعلين المؤسساتيين من اقتراحات وبدايات حلول. وأقر أنني قلت منذ البداية، عندما تداولت مع أصدقاء كثر في هذا الأمر، أن فكرة إحداث اللجنة وتكليفها، بالمنهجية والشكل الذي تمت به الأمور، هو هدية راقية على عدة مستويات و أوجه، تعزز الإستثناء المغربي في نسق سياسي جهوي وعربي يعيش فوضى لم تستطع أن تخلق شيئا آخر غير العودة بمجموعة من الدول سنوات إلى الوراء في سلم التنمية و بناء الدولة الحديثة.
ففي الشق المؤسساتي والعلاقة بين الفاعلين، كنا يوم الفاتح من أكتوبر 2018، مرة أخرى، أمام محطة في مسار يتجلى من خلاله الحرص السيادي المغربي على تفعيل مقتضيات دستورية واضحة، حددت اختصاصات لجلالة الملك باعتباره رئيس الدولة المغربية، يتفاعل معها بروح حريصة على تكريس سيادة القانون وتقوية العمل المؤسساتي وتعزيز البناء الديمقراطي. ولتذكير من يحتاج إلى ذلك، يمنح دستور المملكة رئيس الدولة، من بين أدوار أخرى متكاملة ضمن البناء المؤسساتي المغربي الخالص، اختصاص ترؤس المجلس الوزاري بمقتضى الفصل 49، والذي يتداول، من بين أمور عديدة، في “التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة”. بينما منح نفس الدستور، في الفصل 89، الحكومة كامل السلطة التنفيذية، وخولها “تحت سلطة رئيسها”، أي تحت سلطة رئيس الحكومة المعين من الحزب الفائز في الإنتخابات، اختصاص “تنفيذ البرنامج الحكومي” و”ضمان تنفيذ القوانين”. وأقر الدستور للحكومة أن “الإدارة موضوعة تحت تصرفها”، وجعل الحكومة تمارس، بشكل سيادي، “الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية”. وبالتالي، مسؤولية صياغة وتدبير السياسات العمومية مسؤولية حكومية صرفة. نقولها إذن، مرة أخرى، وسنعيد قولها: نحن أمام اختصاصات واضحة، لمن خلُصت نيته وأراد اقتفاء سبيل السداد والوضوح، وتحمل المسؤولية حقا وفعلا.
ومن كل ما سبق، تكون جلسة العمل، التي تحدث عنها البلاغ ، لحظة تدبير مسؤول للشأن العام برئاسة عاهل البلاد رئيس الدولة، و بحضور رئيس السلطة التنفيذية رئيس الحكومة. لقاء بين المؤتمن على الرؤية والتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، و”ممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها”، الذي “يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”؛ وبين المسؤول عن الإدارة وعن المؤسسات والمقاولات العمومية، المُحدد لميزانياتها، والمتتبع لبرامج عملها، ورئيس مجالسها الإدارية كلها، مباشرة أو من خلال الوزراء المفوض لهم تلك المهام، والمشرف على تعيين مدرائها، في حدود اللائحة المعنية من المؤسسات، وهي كثيرة العدد وكبيرة القيمة.
أما، في الشق الموضوعاتي، فقد كانت اللجنة أمام فرصة تناول ورش “تطوير وتأهيل منظومة التكوين المهني” وجعلها أكثر ملائمة ونجاعة. وأي شيء أمتع وأرقى من الإشتغال لفائدة الشباب، ومع الشباب ولأجلهم، بغية مساعدتهم في إنقاذ مستقبلهم وحمايتهم من التهميش، وتعزيز حظوظهم في بلوغ المراد مهنيا واجتماعيا؟ لما الوهن الحكومي إذن؟
لأشرح مبررات استغرابي من حجم الصعوبة التي وجدتها اللجنة الحكومية في الإتيان بالمطلوب، أعود بكم إلى ما حفل به نفس بلاغ الديوان الملكي بتاريخ الفاتح من أكتوبر 2018، لنتقاسم منه الآتي من توجيهات كانت واضحة ومرتبة بشكل منهجي سلس يساعد على بناء تصور استراتيجي متين.
فقد جاء في البلاغ، أن جلالة الملك، أخذ علما بأولى المقترحات والتدابير التي يتعين اتخاذها من طرف القطاعات المعنية و”على الخصوص، إعادة هيكلة شعب التكوين المهني، وإحداث جيل جديد من مراكز تكوين وتأهيل الشباب، وإقرار مجلس التوجيه المبكر نحو الشعب المهنية، وتطوير التكوين بالتناوب، وتعلم اللغات وكذا النهوض بدعم إحداث المقاولات من طرف الشباب في مجالات تخصصاتهم”، أعطى جلالة الملك تعليماته السامية من أجل “تطوير تكوينات جديدة في القطاعات والمهن الواعدة، مع تأهيل التكوينات في المهن التي تنعت بالكلاسيكية، (…) مثل تلك المرتبطة بقطاعات الصناعة، والخدمات، والبناء والأشغال العمومية، والفلاحة والصيد والماء والطاقة والصناعة التقليدية”. ثم جاء شدد عاهل البلاد “على ضرورة تطوير عرض التكوين المهني بشكل أكبر، من خلال تبني معايير جديدة للجودة، خاصة في قطاع الفندقة والسياحة، بكيفية تحفز وتواكب الإقلاع الضروري لهذا القطاع الإستراتيجي”. وأبرز البلاغ الحرص الملكي “على التكوين المهني في قطاع الصحة، بما يشمل المهن شبه الطبية، ومهن تقنيي الصحة، لاسيما في مجال صيانة وإصلاح التجهيزات الطبية، حيث توجد إمكانيات حقيقية للتشغيل”. ثم أضاف توجيهات ملكية للجنة “قصد بلورة تكوينات مؤهلة قصيرة، تناهز مدتها أربعة أشهر، تشمل وحدات لغوية وتقنية مخصصة للأشخاص الذين يتوفرون على تجربة في القطاع غير المهيكل، وذلك من أجل منحهم فرصة الاندماج في القطاع المهيكل ومن تم تثمين خبراتهم وملكاتهم”.
يجب الإعتراف صراحة، أن كل هذه الأفكار والتوجيهات المتقدمة توحي باكتمال الخطوط الاستراتيجية لتصور سيادي بشأن محور التكوين المهني، من خلال إدراك مضبوط لنقط القوة الموجودة وللفرص الواجب استثمارها، وعبر رصد واضح لنقط الضعف المسجلة وفهم دقيق للمخاطر الواجب الحد من أثرها وتجاوزها. وهنا أتسائل كيف أمكن للجنة ولرئيسها، الخطأ في المسعى وهي تنطلق في مهمتها بأطر منهجية واضحة (Termes de références clairs) ؟
سؤالي مشروع، وسيفهم معنى كلامي كل الأطر التي اشتغلت في إنجاز دراسات استراتيجية في الإدارات والمؤسسات العمومية، حيث كنا دائما نقول، وبدون تردد، بأن 50 % من شروط إنجاح أي دراسة استراتيجية ترتبط بجودة الأطر المرجعية المؤسسة لها.
ماذا إذن علينا أن نفهم من كل هذا التخبط ؟
أوجدت اللجنة الحكومية نفسها، بعُدتها وعديدها، عاجزة عن إبداع المجهود الفكري والتحليلي والإبداعي في ال 50 % المتبقية من المهمة ؟
في ظني، أنه كان يكفي اللجنة الحكومية أن تقوم ببساطة بما يلي :
1/ تعميق التشخيص وتعبئة الإحصائيات المرتبطة به، بحسب النوع وبمقاربة مجالية،
2/ إنجاز المقارنة مع المحيط واستحضار التجارب الناجحة،
3/ تحليل السيناريوهات الأنجع وتقديم الخلاصات المنطقية،
4/ تحديد الميزانيات المتوقعة ومخطط أجرأة التنفيذ والتتبع،
5/ إعداد خرائط تحدد مواقع تواجد وحدات عرض التكوين، وتقسمها بحسب أنواع التكوين،
6/ تحديد تواجد أنظمة الإنتاج المحلية والقطاعية المستقطبة للشباب والمحدثة لفرص الشغل،
7/ تقديم بدايات تجديد المسارات البيداغوجية بطريقة مبتكرة، لتقريب مضمون العرض من احتياجات المشغلين المفترضين،
8/ اقتراح إطار تعاقدي للشراكة يساهم في إنجاح تنقل الشباب من مركز التكوين إلى المقاولة،
9/ وضع حزمة تحفيزات للمقاولات ولفيدراليات المهن،
10 / اقتراح ميثاق ضمن رؤية شاملة تنبني على المسؤولية المشتركة بين الدولة الإجتماعية والمقاولة المحترمة لمسؤولياتها المجتمعية والاجتماعية.
وأجزم أكثر، أنه بالرغم من كارثة عملية “التقاعد النسبي” التي تم تدبيرها بشكل متسرع لم يستحضر مصلحة تحقيق استدامة تدبير المعرفة المهنية والحفاظ على الخبرات المؤسساتية، إلا أن الرصيد الهائل من الكوادر والكفاءات المشتغلة بالإدارة المغربية، وبالشركات وبالمقاولات، تمتلك من الذكاء ومن القدرة ما كان يكفي ليجعل “اللجنة الحكومية” تقوم بالمهمة بسرعة وتميز. فرغم كل ما عانته إداراتنا المغربية، منذ قرابة ست سنوات، من شيوع متعمد لثقافة التشكيك في كل شيء، وتلويث سمعة الجميع وإشاعة ثقافة التخويف، بناء على اعتقاد مغلوط بأن الكل فاسد وأن الكل منحرف وطامع، حتى صار الناس لا يثقون لا في مؤسسة ولا في إدارة، مما شجع هوامش الفساد والسمسرة على الإشتغال لتأكيد واقع الحال المختل. ورغم كل ما تعانيه إداراتنا المغربية من تضييق على الكفاءات، وتغليب للولاءات، واعتماد لمنطق الزبونية السياسوية في عدد من التعيينات، ورغم عدم مأسسة التواصل الداخلي، وغياب منظومة لتحفيز وتقوية قدرات الموارد البشرية، ورغم انعدام فضاءات الإبتكار والتجديد Recherche et développement et d'incubateurs d'innovation، ورغم تكريس تغييب أنماط التدبير الحديث المرتكزة على بناء مؤسسات يتحرك داخلها ذكاء جماعي كثمرة التحام و وحدة الذكاء الفردي المتنوع لأطرها، ، Des organisations où les intelligences individuelles diversifiées fusionnent pour créer une intelligence collective institutionnelle) ، رغم ذلك كله لا زال الخير في أطر وكفاءات الإدارة المغربية ممن ولائهم لهذا الوطن ولثوابته أولا. وعلى الحكماء أن يمدوا أيديهم و أن يرفعوا الحيف وأن يردوا الإعتبار للجميع. وحينها، أقسم أن لو حدد المغرب سنة 2030 أفقا لتحقيق هدف نهضة شاملة جامعة مانعة، لأدت كفاءات هذا الوطن، وشبابه ونسائه، المطلوب مفتخرين بمغربيتهم، متباهين أنهم جزء من صناعة الأمل، ومؤكدين استحقاقهم ليكونوا ورثة أجدادهم الأشاوس الذين صمدوا أمام الرياح العاتية لكل غاز متسلط، إلا من قدم أرض المغرب بقيم الخير وقاصدا المودة ومقدما التقدير لعراقة هذا الشعب وأصالته.
مرة أخرى أختم بالقول، وسأعيد القول لاحقا، أظن أن استمرار البعض في حسابات سياسوية ضيقة، ترفض انصهار كل الكفاءات في هوية مغربية خالصة، وتسترسل في تهميش الذكاء الجماعي، وتضييق مشاركة كل الحساسيات الفكرية والمجتمعية في مجهود التفكير الاستراتيجي للخروج من هذه “الورطة الحضارية” التي سقطنا فيها منذ حين، لن يفيد ولن يجدي نفعا، بل سيحبط العزائم ويكرس دينامية السير إلى المجهول.
إن استمرار السعي للإستقواء بقوة “الظواهر الصوتية” التي تتحرك وفق أجندة تدور حول الأنا المجروحة وتسعى لكي لا يلفها النسيان، واستمرار الانخراط في إشاعة التيئيس بغرض شل الذات المجتمعية عن أي فعل إيجابي يبني المستقبل، لن يؤدي إلا إلى تكريس العزوف واللامبالاة. كما أن اعتماد منطق أعداد الأتباع والمريدين وأرقامهم، مع صادق تقديري للصادقين المحبين للوطن، هو محض غباء وغرور، لأن الأمر جلل على اعتبار أننا تجاوزنا مرحلة العمليات الحسابية العادية لنجد أنفسنا، في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، أمام معادلة معقدة، يجب أن نفك شفرتها جميعنا، لينتصر الوطن أولا، ولا نتيح الفرصة للمهانة وتطاول المغرضين.
ولأن أسباب الأمل في أرض المغرب وشعبه قائمة وحقيقية، ولأن كل الخير ممكن، فإن سبيل إبقاء شعلة الأمل متاح، شريطة أن نفهم طبيعة العطب، وأن نبتعد عن خلط الأوراق بمكر، والتسرع في إصدار الأحكام الجاهزة سلفا، وأن نحتكم إلى عقولنا بدل الإعتقاد بأن تمثل “مسوح” الصدق يجعل صاحبه بالضرورة صادقا يجب أن يتبع الجموع. ورفع الله عنا وعنكم شر ما يسوسون…
* فاعل سياسي وجمعوي / متخصص في التدبير والحكامة الترابية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.