سويسرا: لا وجود لتمثيلية "البوليساريو"        تصريحات عدائية ترسخ عقدة رموز النظام العسكري الجزائري من النجاحات المغربية    بنعبد الله: حكومة أخنوش تعيش حالة تناقض وانفصام عن الواقع    انعقاد مجلس للحكومة بعد غد الخميس    ميارة يجري مباحثات بالرباط مع رئيس المجلس الوطني السويسري    وزارة الإقتصاد والمالية… فائض في الميزانية بقيمة 6,1 مليار درهم    التضخم بالمغرب يواصل مسار الانخفاض    ارتفاع ب 18 بالمائة في أبريل الماضي بمطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء    "مايكروسوفت" تستعين بالذكاء الاصطناعي في أجهزة الكومبيوتر الشخصية    محاكمة أمير ألماني وعسكريين سابقين بتهمة التخطيط لانقلاب    الشامي: بنحمزة صوت لمنع تزويج الطفلات.. ورأي المجلس حظي بالإجماع    عملية مرحبا 2024 : اجتماع بطنجة للجنة المغربية – الإسبانية المشتركة    إدانة نائب رئيس جماعة تطوان بالحبس النافذ        الدولار يتأرجح والعملات المشفرة ترتفع    الجائزة الكبرى لصاحبة السمو الملكي الأميرة للا مريم لكرة المضرب .. إقصاء المغربية آية العوني من الدور الأول    الرباط: افتتاح الموقع الأثري لشالة أمام الزوار    انطلاق مراسم تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي    الحكومة تتوقع استيراد 600 ألف رأس من الأغنام الموجهة لعيد الأضحى    والدة كليان مبابي تخرج عن صمتها بخصوص مستقبل إبنها    نجم ريال مدريد يعلن اعتزاله اللعب نهائيا بعد كأس أوروبا 2024    الاتحاك الإفريقي يدين الأحداث التي أعقبت لقاء نهضة بركان والزمالك    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    شاب مغربي آخر ينضاف للمفقودين بعد محاولة سباحة سرية إلى سبتة    ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي يكرم مبارك ربيع وخناتة بنونة وسعيد بنكراد وأمينة المريني في مدينة الدار البيضاء    أكثر من 267 ألف حاج يصلون إلى السعودية    أزيد من 267 ألف حاج يصلون إلى السعودية    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بأكادير تحطم الرقم القياسي في عدد الزوار قبل اختتامها    في مسيرة احتجاجية.. مناهضو التطبيع يستنكرون إدانة الناشط مصطفى دكار ويطالبون بسراحه    إميل حبيبي    مسرحية "أدجون" تختتم ملتقى أمزيان للمسرح الأمازيغي بالناظور    تصفيات المونديال: المنتخب المغربي النسوي يواجه زامبيا في الدور الأخير المؤهل للنهائيات    اجتماع تنسيقي لتأمين احترام الأسعار المحددة لبيع قنينات غاز البوتان    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: أكنسوس المؤرخ والعالم الموسوعي    صدور كتاب "ندوات أسرى يكتبون"    بلاغ صحافي: احتفاء الإيسيسكو برواية "طيف سبيبة" للأديبة المغربية لطيفة لبصير    هاشم بسطاوي: مرضت نفسيا بسبب غيابي عن البوز!!    غير مسبوقة منذ 40 سنة.. 49 هزة أرضية تثير الذعر في إيطاليا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    نقاد وباحثون وإعلاميون يناقشون حصيلة النشر والكتاب بالمغرب    "الفاو"‬ ‬تفوز ‬بجائزة ‬الحسن ‬الثاني ‬العالمية ‬الكبرى ‬للماء ..‬    رئاسة النظام السوري تعلن إصابة زوجة بشار الأسد بمرض خطير    49 هزة أرضية تضرب جنوب إيطاليا    صلاح يلمّح إلى بقائه مع ليفربول "سنقاتل بكل قوّتنا"    نجم المنتخب الوطني يُتوج بجائزة أحسن لاعب في الدوري البلجيكي    أمل كلوني تخرج عن صمتها بخصوص حرب الإبادة بغزة    رغم خسارة لقب الكونفدرالية.. نهضة بركان يحصل على مكافأة مالية    تفاصيل التصريحات السرية بين عبدالمجيد تبون وعمدة مرسيليا    لقجع: إخضاع صناديق التقاعد لإصلاحات جذرية يقتضي تفعيل مقاربة تشاركية    أكاديميون يخضعون دعاوى الطاعنين في السنة النبوية لميزان النقد العلمي    الأمثال العامية بتطوان... (603)    تحقيق يتهم سلطات بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوث أودت بنحو 3000 شخص    المغرب يضع رقما هاتفيا رهن إشارة الجالية بالصين    معرفة النفس الإنسانية بين الاستبطان ووسوسة الشيطان    شركة تسحب رقائق البطاطس الحارة بعد فاة مراهق تناوله هذا المنتج    لماذا النسيان مفيد؟    أطعمة غنية بالحديد تناسب الصيف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السكيزُو فرينيا أو الولع بين الفصام والفطام
نشر في العلم يوم 23 - 09 - 2012


استهلال :
1- « أنا هذا، أنا إذن هذا ... Ecce Homo «.
2- السكيزوفرينيا قبس أو نور منبعث من فتحة ما من شق ما من فصام ما... Schizé».
توسم في العمق السكيزوفرينيا بثلاثة مفاهيم تكوّن ثالوثها ألا وهي : التفريق والنزعة التوحيدية والزمكان أو الوجود في العالم. الأول مفهوم شارح يفسر الاضطراب، الثاني مفهوم يشير إلى الأثر : أي إلى الهذيان والفُصام، والثالث مفهوم يعبر عن الهذيان في عالمه.
وهنا حيث يوجد السكيزو، توجد المشاكل والآلام والمكابدات.. ومشاكله ليست هي مشاكل الأنا (بالمعنى الفرويدي) ولا عقدة أوديب بالمعنى العائلي (الأنا الأب/ الأم).. إن فرويد فيها يبدو لا يحب السكيزو. (ص 30 دولوز) لقد كان يعتبره وحشا يعتقد أن الكلمات أشياء وتعتريه الحبسة وتطغى عليه النرجسية ? غير قادر على التحول، منقطع عن الواقع.. يشبه الفلاسفة (هكذا).
السكيزو ضد» أوديب» لأنه آلة منتجة. أما اللاشعور كما عبر عنه أوديب فهو الكلام والتعبير وما يحدث في المسرح من خلال الأسطورة والتراجيديا والحلم..
«اللغة مبنية كاللاشعور» كان يقول لاكان ، وكل هذا التحليل النفسي القديم والحديث يغفل الإنتاج. يغفل السيرورة والإنتاجية كآلة راغبة... وليست كتوحد وانعزال.
«السكيزوفرينيا» فيما يبدو نظرية في «منطق الرغبة» وما هو منطق الرغبة لدى دولوز/ غاتاري ؟ كانت الفلسفات المثالية تنظر إلى الرغبة كتحقيق (أفلاطون)، تحقيق شيء كنا نفتقده، وإذن تتأسس الرغبة على الافتقاد، وحين تدرج هذه الفلسفات في تعريفها للرغبة مفهوم « الإنتاج « (كانط، فرويد) فإنها تتحدث عن نوع معين من الإنتاج. ذاك الذي يتم على مستوى الخيال، «تخييل الموضوع».. وهذا معناه أن هناك موضوعين للرغبة واحد واقعي وآخر متخيل. واحد مفقود وآخر موجود. أو أن العالم لا يملك كل موضوعاته، على الأقل واحد فيه مفقود (ص 33 نفسه).
الرغبة حسب دولوز / غاتاري : هي إنتاج فعلي أي دوافع وقوة حركة في الواقع .لا يمكنها أن تتم إلا في الواقع. «الرغبة هي مجموعة من التراكيب المنفعلة التي تحرك الأشياء الجزئية، التدفقات والأجسام العاملة كوحدات إنتاج» في الواقع. الرغبة لا تفقد موضوعها بل تنتجه، « والواقع نفسه هو الوجود الموضوعي للرغبة « وهذا الوجود الموضوعي هو الاجتماعي .
يتأسس «منطق الرغبة» لدى فيلسوفينا، على جملة من المفاهيم : هي دون ترتيب منطقي ولا أسبقي : مفهوم الترابية (Territorialité) وما يتناسل منها من تشقيق وإبداع، ومفهوم التنظيم التركيبي (Agencement) ومفهوم الآلات الراغبة ومفهوم الجسد بدون أعضاء (Cso) ومفهوم ضد أوديب (Anti-Oedipe) ومفهوم التدفق (flux) والانقطاع (coupure) ومفهوم السنن (code) وما إليه..
سبق لميشال فوكو أن قال : « سيكون القرن دولوزيا «، ولم يحدد متى سيكون كذلك منذ السبعينيات.. ويبدو لي أن هذه الجملة ؛ جملة لازمنية بقدر ما هي لا راهن لها أو الأصح هي مرهونة باللحظة التي تُفهم وتُستوعب فيها كُتب دولوز / غاتاري.. وهذه المهمة، لعمري، تبدو لي بعيدة المنال و...
كما سبق لي أن أشرتُ إلى بعض من هذه المفاهيم، ولا غروَ في تكرارها إن دعت الضرورة ذلك أن كتابيْ دولوز / غاتاري « ضد أديب « وآلاف النجود « لا يملا من تكرار هذه المفاهيم ومن زوايا عدة. حتى أن هذا التكرار يُعد منطقا للمعنى وصعوبة للفهم.
في المرحلة الرأسمالية، بات الإنسان (بدوافعه ولاشعوره) آلة.. من هنا لم يعد اللاشعور مسرحا ولا تأويلا، إنما أصبح عملا وتجريبا. ولم يعد الإنسان إنسانا بل أصبح آلة راغبة. هذه الأخيرة تحتاج إلى تنظيم وربط، كما تنظم الآلات وترتبط فيما بينها. الارتباط هذا يتم وفق حالة ووضعية الأشياء وبواسطة الملفوظات وتبعا لسيرورة وحركية ترابية.
والترابية هي الأرض (التراب) والمكان أو الحيز والفضاء المحايث، وسيرورتهما هي إما الاجتثاث الترابي حين تحصل القطيعة أو تتم الهجرة أو تتوسع الملكية الخاصة.. وإما الارتباط الترابي حين تتواصل الأشياء وتتكامل في مكان ترابي ما، الاجتثاث الترابي لا يتم فرديا إنما يحتاج إلى شريك : الفم/ الثدي، وليس الاجتثاث السريع هو الأكثر كثافة بل العكس هو الصحيح. ثالثا يمكن للأقل اجتثاثا أن يرتبط ترابيا بالأكثر اقتلاعا.. هناك سيرورة بين الفم والثدي واليد والوجه. هذه السيرورة تتحدد وفق ثنائية التدفق والانقطاع، كل آلة هي آلة تدفق وإنتاجية وهي أيضا من جهة أخرى آلة قطع واستهلاك وتحويل (ص 49 نفسه).
كل هذا الجهاز المفاهيمي « لمنطق الرغبة « هو ضد « التحليل النفسي « «ضد أوديب» وضد «تقديس العائلة» أو ما يسميه دولوز / غاتاري : (الأب الأم الابن)، وبعبارة أخرى «الأوديبية، « كيف يمكن حصر هذيان غني كذلك الذي عانى منه الرئيس شرايبر في العلاقة العائلية ؟ كيف يمكن بناء الرغبة على الفقد والكبت والفانتازم ؟
إن تقييد اللاشعور في العائلة وحصره في الأب والأم يعتبر خطأ فادحا في نظر دولوز /غاتاري «إنه خطأ تاريخي يوقف القوى المنتجة للاشعور..» مقابل ذلك، يعتبر السكيزو نفسه قد «وصل إلى الحاضر انطلاقا من الشكل الأكثر بدائية للحياة» وكأنه « قد مرَّ بسفر رهيب» فيه ينفتح أمامه كل التاريخ الإنساني أو الكوني، ولا يبقى محشورا في «أبي وأمي».
يشعر السكيوز أنه ينتمي إلى كل الأجناس، وأنه يعبر كل التاريخ، عبور أرطو إلى المكسيك، إلى الماغول والهنود الحمر، وهذيان زاردشت الذي يدفع نيتشه إلى نكران جنسيته الألمانية، واعتبارها بولندية أو إغريقية.. « أنا برادو، أب برادو في الحقيقة، وأرنو إلى القول أني ليسيب. وأريد أن أقول للبارزيين أحبائي بأنني مجرم نزيه، أنا شامبيج، مجرم آخر نزيه، وما يقلقني ويحرج تواضعي هو أني في العمق كل أسماء التاريخ» (نيتشه. رسالة إلى بوخاردت في 5 يناير 1889).
في مثل هذه الأسفار التاريخية العالمية -كل الحقب وكل الأجناس- تنفجر العائلة وينحل الرباط العائلي. ويغدو الهذيان استثمارا لا شعوريا للحقل الاجتماعي التاريخي.
لكن هل السكيزوفرينيا هي «مرض» الناس الحداثيين» (ص 155)، وهل هي الذهاب بعيدا دون إبراح المكان هل هي سفر زرادشت أو تسكعه في الطبيعة، محملا بعذاباته وآلامه وهياماته.. مهملا بما يجدُّ خوفه من الجنون (نفسه ص 156). هذا الحد عثر عليه الفنان الانجليزي تُورنر (J. M. W. Turner) (6*)، في ذلك القبس أو النور المنبعث من فتحة ما، من شق ما، من schizé (فُصام ما).
السكيزوفرينيا مرض خاص.. ألمّ بكبار الأدب الأمريكي : طوماس هاردي (T.Hardy) وكيرواك ( jack Kerouac) وهنري ميلر (H. Miller) ..منحهم هذا المرض أسلوبا خاصا أو أفقدهم الأسلوب، حيث لم تعد اللغة هي ما تقوله أو ما تُدل عليه أو تُشير إليه، إنما باتت هي ما يسيل منها، ما ينفجر منها ويتدفق أي الرغبة. « ذلك أن الأدب شبيه بالسكيزوفرينيا : سيرورة وليس هدفا، إنتاجا وليس تعبيرا» (ص 158-159 دولوز).
ترى ما هو المرض الذي يعاني منه السكيزو ؟. تتحول السكيزوفرينيا إلى مرض حين لا تبقى هناك حركة وسيرورة أي حين تتوقف عن أن تكون شقا (للطريق، للحائط..)، حين لا تفتح فجوة أو كوة يدخل منها قبس نور، وتغدو انهيارا.. سقوطا اضطربا هلوسة إغمائية. إن إيقاف السيرورة يؤدي إلى المرض ؛ وكذلك استمراريتها في الفراغ أو حصرها إكراها كهدف في حد ذاته. المجتمع الرأسمالي هو المسؤول عن الإيقاف وعن الدوران في فراغ أو عن الإكراه. هو الذي يخترق الحدود فيحول قبس النور إلى ظلمات. يحول تدفق الرغبة بفعل الإكراهات الاجتماعية إلى اضطهاد أعمى. في هذه الحالات الثلاث يغدو السكيزو عصابيا (névrotique). أو ينعكف على جسده دون أعضاء ويعطل آلات الرغبة (psychotique). أو أخيرا يستحيل عليه اقتطاع جزء من التراب كوطن له فيعود إلى موطن أوديب والكبت والإخصاء.
السكيزوفرينيا ثانيا منهج يُسميه دولوز / غاتاري (la schizo-analyse) التحليل السكيزوفريني. (الفصل 4، ص 325). للوهلة الأولى ؛ إنه منهج ضد التحليل النفسي. فإذا كان هذا الأخير يعتمد في تحليله على اللغة، والتأويل، والرمز، والتذكير و... فما هي أدوات التحليل السكيزوفريني ؟
للمنهج السكيزي التحليلي مهمتان إيجابيتان، الأولى هي مهمة «المكننة»، (ص 404 passim) (tâche mécanicienne)، الثانية لها علاقة بالحركات الثورية. (ص 450 passim). لفهم المهمة الأولى ننطلق من الآلات الراغبة، فهي تتكون من ثلاثة أجزاء : أجزاء عاملة محرك ثابت وأجزاء احتياط. طاقاتها ثلاث : الليبدو، الإرادة (Numen) والمتعة وتركيباتها ثلاث : تركيبات ترابطية للأجزاء وتدفقها، تركيبات انفعالية للتفردات والسلاسل، وتركيبات للكثافة والسيرورات. بهذه الخصائص لا يمكن للتحليل السكيزي أن يكون مؤولا وأقله مخرجا إنه ميكانيكي، مختص في الميكانيكا الجزئية أو الصغيرة. لا يقوم بالتنقيب ولا بالحفر في اللاشعور، إنما ينتبه لعطل وتحريك الآلات الراغبة.. لارتباطها وانفكاكها...
لفهم المهمة الثانية ننطلق من الرغبة في حد ذاتها، الرغبة من حيث هي ثورية. إن المجتمع الرأسمالي يمكنه أن يتحمل كل التظاهرات الاجتماعية والاحتياجية السياسية إلا مظاهرات الرغبة فهي قادرة على تفتيت كل مؤسساته.. إن الرغبة هي « اللاعقلانية في العقلانية» (ص 455)، وعليه فالتحليل السكيزي لا يقترح برنامجا سياسيا ولا خطة ثورية بالمعنى البرنامجي ولا لائحة مطلبية ؛ إنما هو إحساس بالقلق، بالخلل، بسوء تفاهم بالإحراج.. وتقدير هذا الإحساس وتقويمه يتم عن طريق الرغبة وآلاتها.
و أخيرا وليس آخرا الوقوف عند مفهوم السكيزوفرينيا أوضح لنا تقابل تصورين للاشعور أو لأصح قراءتين : الأولى تحليل سكيزية والثانية تحليل نفسية. التحليل الأول فصامي والثاني عُصابي. الأول تجريدي آلي، حقيقي، مادي. والثاني خيالي، رمزي، بنيوي.. إيديولوجي..
من المهام السالبية للتحليل السكيزي تعنيف وتفكيك العائلة، وإزالة شبح أوديب وتحطيم المسرح والحلم والفانتزام، ثم اتباع خطوط الهروب والهروب من خطوط الضغط والقمع... فتح آفاق السيرورة لا طمسها أو اغتصابها..
وأخيرا، في المغرب أكثر من 000 300 السكيزو حسب إحصائيات الجمعية المغربية «بلسم». لكن هذه النسبة (1 أو 2%) لا تجعل من المغرب بلدا للسكيزو. أما إذا نظرنا إلى البلد - الملفوظ من الناحية الأخلاقية أو السياسية- سنعثر على نسبة هائلة تستجيب لحالة اللفظ، وتُجسدها في البلد. إلا أن التصورات الدلالية وحكم القيمة فيها والأبعاد الفكرية المنشودة تبقى محجوزة في اختيارات ظرفية وفي مزايدات سياسية. يبقى إذن البعد المفهومي للمصطلح لدينا فقيرا.
أين هُم مرضانا الحداثيون ؟ أين هم سفراؤنا المولوعون أولئك الذين يدركون شقائق السماء والنور؟..
ابن عربي الشيخ الأكبر واحد منهم.
حسب هونري كوربان(7*) «.. ألمّ به (ابن عربي) المرض وأدخلته الحمى في حالة سبات وفتور عميقين، وخاله أهله ميتا، فيما كان هو في عالمه الباطني يرى نفسه محاطا بمجموعة من الشخصيات الخطيرة ذات المظهر الجهنمي، لكن ظهر فجأة شخص ذو جمال رباني مضمخ بعطر عذب الرائحة فقهر بقوته الجبارة الكائنات الشيطانية. « فسأله : « من أنت « فأجاب : «أنا سورة يس». والحقيقة أن أباه المسكين القلق على حياة ابنه كان يتلو تلك السورة بتلاوة خاصة بمن أتتهم سكرات الموت. وإن تبّث الكلمة المنطوقة طاقة ليس بأمر غريب لدى الظاهريات الدينية. إنه يشكل هنا أول دخول لابن عربي في عالم المثال، أي عالم الصور الواقعية والباقية، الذي يحدثنا عنه منذ البداية : عالم الحساسية المعقولة «(ص 43/44).
نفس التجربة الربانية حصلت لهولدرلين سنة 1801 وهو راجع في طريقه من بوردو (فرنسا) حيث رجمته السماء بوابل من السهام النارية من أيادي أبولون، ولم يقو قلبه الوهن على استقبالها دون أن يغشى عليه(8*).
بعد عقد من الزمان فيما يبدو.. ستتكرر التجربة نفسها مع نيتشه الذي سمع حفيف أصوات ربانية في ريعان شبابه، كابن عربي، وهو ما زال تلميذا في SchulPforta.
أصوات أغرته بالدخول إلى الغابة العذراء للاشعور بواسطة وجه فريد من نوعه لإله حربي «بملامح متوحشة ومقلقة» هذا اللقاء أوحى إليه بقصيدة «إلى الإله المجهول».وهذه هي القصيدة:
«مرة أخرى قبل متابعة طريقي
و تحويل نظري نحو المستقبل،
أرفع نحوك يديَّ ابتهالا
أنت يا من أفر إليه
و إليه أكرس صلواتي
في عمق أعماق قلبي
لكي يناديني و يناديني
صوتك دوما.
و هذه كلمات بحروف من نار أوجهها :
إليك أيها الإله المجهول .
ألف نفسي كما لو أني ، إلى حد الساعة
مخلص لزمرة المجرمين،
أنا كذلك ، وأشعر أثناء الصراع بالصلات
التي تفكك أعضائي
لكني أقوى على الهروب منها لأضع نفسي في خدمتك .
أريد معرفتك ، أيها المجهول .
أنت يا من غرس جذوره في أعماق روحي
و اخترق وجودي مثل إعصار جارف
أنت قريبي الذي لا يمكن التعبير عنه
أريد معرفتك و أريد أيضا: خدمتك.
بعد هذا اللقاء المفاجئ لم يتوان الإله بالظهور مرات عدة وبأشكال مختلفة تارة في هيأة ديونيزوس وأخرى في هيأة زاردشت وثالثة في صفة المسيح.. إلى اللحظة الحاسمة ذات يوم أو مساء في واحد من أزقة توران بإيطاليا .
«و ذات مساء بعد العشاء ، وكان قد اتخذ حانوتا للتجارة ، نهض من الدكان ، وتوجه نحو موضع في الصحراء المجاورة ، فسمع فجأة نداء بصوت عذب . فصعد رابية ووجد نفسه بحضرة شيخ صوفي ، وجه إليه بضع كلمات في التو ..»
الحديث يتصل بروزبهان البقلي ( ولد سنة 1128 وتوفي سنة1209 في شيراز)9*
و يضيف عبد الرحمن بدوي « وبعد ذلك عاد إلى بيته ، و ذات يوم وهو على سطح منزله شاهد «الله» بصنعة القدرة و الجلال . فبدا له الكون كأنه نور ساطع فياض شامل . ومن مركز هذا النور جاءه نداء سبع مرات يقول باللغة الفارسية : يا بروزبهان لقد اخترتك للولاية ، اخترتك للحب ، أنت وليي ، أنت حبيبي.»
«و توالت الرؤى عليه حتى شاهد في إحداها الخضر وأعطاه تفاحة قطم منها قطمة فدعاه الخضر إلى التهامها كلها. وبدا له حينئذ أنه من كرسي عرش الله حتى نجوم الثريا كان هناك بحر هائل ، ولم يشاهد غير ذلك .»
«وبعد ذلك انفتحت له أبواب العلوم اللدنية والمعارف المستورة والحقائق اللطيفة».
في أواخر عهده أصابه الفالج لكن لم تتغير حالته الروحية. وكان سنيا شافعيا.
الفالج من فلج فلجا الشيء شقه و قسمه.»فلجوا الجزية بينهم» وهو داء يحدث في أحد شقي البدن فيبطل إحساسه وحركته.
الأفلج المتباعد ما بين القدمين أو اليدين أو ما بين الأسنان. المفلوج هو المصاب بالفالج أي الانفصال السكيزو فرينيا.
لم تلبث الواقعة أن تكررت كذلك لدى الأكبري ابن أفلاطون، في صداقة روحية نسوية جمعته بياسمين من إشبيليا وفاطمة ابنة المثنى القرطبي. هذه الأخيرة جميلة فاتنة، كانت بمثابة أمه الروحية، وكانت تقول للمريد الشاب : «أنا أمك الإلهية ونور(أمه الطبيعية) أمك الترابية «. هذا الاندماج في الأنساب والخرائط والتواريخ رأيناه مع نيتشه (أنا برادو..) ورأيناه مع أرطو : (أنا أمي وأبي وأخي..) ونراه الآن مع ابن عربي : « إذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها يا نور هذا ولدي وهو أبوك فربيه ولا تعقيه» (ص 44). وسواء عاد هذا الاندماج إلى النفس الصوفية (هي في الآن نفسه ابنة وأم) أو إلى السنة لقد كان الرسول (ص) يطلق على ابنته فاطمة الزهراء «أم أبيها»، فهو اندماج انفصالي يبدو في سيرورة رفع الطابع الفردي عن الفرد وإبعاد الإنسان عن نفسه.
هذه الأصوات وهذه اللقاءات والصداقات، تتم غالبا بعد أسفار وترحال وتيهان وتجوال.. وهذه أيضا خاصية لازمة بين مولعينا. « لقد كان ابن عربي بقرطبة حين جاءته رؤيا الرحلة إلى المشرق «، (ص 49 كوربان). بعد هذه الرحلة سيقدم لنا ابن عربي نفسه بأنه تلميذ للخضِر (ص 55). وهذا الأخير شخصية روحية غير مرئية، ارتبط اسمه بالنبي إلياس في القرآن. وكان مرشدا لموسى وهو الذي علمه علوم التأويل (سورة الكهف)، «إن مهمة الخضر تتمثل في قيادتك إلى خضر وجودك» (ص 61). وطقس هذه القيادة هو ارتداء «خرقة الخضر»، في بستان الموصل وبطقوس مختلطة بالأسرار في يد صديق ألبس إياها هو أيضا بالموضع نفسه وكان قد لبسها مباشرة من الخضر «(ص 63).
«خرقة الخَضِر» كأداة يتواصل بها ابن عربي مع النداء أو الملاك أو الروح القدس، تعددت أسماؤها منذ الفلاسفة الطبيعيون الأوائل. فهي نايكوس (الكراهية) (Neikos) لدى إنبادوقليس وإرادة القوة لدى نيتشه والرّنة العاطفية لدى هايدجر والتيموس لدى هوميروس ثم بعده أفلاطون والغثيان لدى سارتر والعبث لدى كامو.. فالغضب هو الذي كان يدفع أخيل إلى المعركة واللامعنى يدفع ميرسو (بطل الغريب) إلى الجريمة والحافز (stimmung) يدفع نيتشه إلى الانتشاء... كل هذه القوى تتم على شكل نفس نافث نافخ عبر الرئتين ? phrèné...
مؤلفات هؤلاء الألمعيين هي الأخرى لا تخلو من انفصام يسميه هونري كربان «ظاهرة انفصام التنزيل « لدى ابن عربي. لقد كان هذا الأخير على وعي بأن كتاب «الفصوص» لم يكن من تأليفه وإنما بإلهام من النبي في رؤية منامية. وأن كتاب «الفتوحات» كان من تأليفه وهو إلهام مباشر. كذلك كان الأمر بالنسبة لنيتشه. «هكذا تكلم زاردشت» كان إلهاما وإملاء في حين كان «هذا الرجل» كتابة وتصنيفا لذات الرجل، وكذلك الأمر مع أرطو في «طاراهوماراس» والمسرح وتضعيفه»...
هناك إذن انزياح للروح والنفس، يبدو في شكل امتلاك أو اندفاع منذ الولادة، قوة حيوية تفصل المختار إلى جزءين أو تجمعه في جزءين : قلب/ عقل، جسد/ نفس، دنس/ قدس.. إنهما وجهان لمعبر واحد لمعزل واحد : (schizoïde)، هذا الفصام يمنح للواحد بعدا لا إنسانيا في إنسانيته وهو جانب يبقى متعاليا لا ندركه حق الإدراك.
السكيزو سيرورة وسفر نحو العدم أو الكاووس، إذا توقفت بات الشخص المسافر مريضا، وإذا دارت في فراغ اشتد عليه المرض أما إذا رجعت من غياهب العدم وذاقت من ثمار الكاووس فتلك هي المحجة الكبرى.
الهوامش :
6*تورنر فنان تشكيلي بريطاني من الانطباعيين عرف بقنان الضوء.
*- هنري كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم 2006، الرباط.
8*- Filippo PALUMBO : le décalage de l?âme : nihilisme et schizophrénie TRAHIR du 2011. Internet.
ذكره Heidegger : les Hymnes d?Hölderlin.
9*-د .عبد الرحمن بدوي سيرة حياتي.ط. 2000.1 المؤسسة العربية للنشر.بيروت.ج.2.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.