المشاركون في مؤتمر التحالف من أجل الحكم الذاتي في الصحراء يقومون بزيارة لميناء الداخلة الأطلسي    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    نجاح باهر للنسخة الثامنة من كأس الغولف للصحافيين الرياضيين الاستمرارية عنوان الثقة والمصداقية لتظاهرة تراهن على التكوين والتعريف بالمؤهلات الرياضية والسياحية لمدينة أكادير    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. وهبي: "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية ورياح عاتية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    الدولي المغربي طارق تيسودالي ضمن المرشحين لنيل جائزة أفضل لاعب في الدوري الاماراتي لشهر أبريل    تأخيرات الرحلات الجوية.. قيوح يعزو 88% من الحالات لعوامل مرتبطة بمطارات المصدر    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    هذه كتبي .. هذه اعترافاتي    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    المغرب ينخرط في تحالف استراتيجي لمواجهة التغيرات المناخية    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    تجديد المكتب المحلي للحزب بمدينة عين العودة    الصين تعزز مكانتها في التجارة العالمية: حجم التبادل التجاري يتجاوز 43 تريليون يوان في عام 2024    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    الحكومة تلتزم برفع متوسط أجور موظفي القطاع العام إلى 10.100 درهم بحلول سنة 2026    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    كيم جونغ يأمر بتسريع التسلح النووي    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    السجن النافذ لمسؤول جمعية رياضية تحرش بقاصر في الجديدة    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    تقرير: 17% فقط من الموظفين المغاربة منخرطون فعليا في أعمالهم.. و68% يبحثون عن وظائف جديدة    مارك كارني يتعهد الانتصار على واشنطن بعد فوزه في الانتخابات الكندية    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    إيقاف روديغر ست مباريات وفاسكيز مباراتين وإلغاء البطاقة الحمراء لبيلينغهام    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    دوري أبطال أوروبا (ذهاب نصف النهاية): باريس سان جرمان يعود بفوز ثمين من ميدان أرسنال    الأهلي يقصي الهلال ويتأهل إلى نهائي كأس دوري أبطال آسيا للنخبة    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    نجاح اشغال المؤتمر الاول للاعلام الرياضي بمراكش. .تكريم بدرالدين الإدريسي وعبد الرحمن الضريس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السكيزُو فرينيا أو الولع بين الفصام والفطام
نشر في العلم يوم 14 - 09 - 2012


استهلال :
- « أنا هذا، أنا إذن هذا ... Ecce Homo «.
- السكيزوفرينيا قبس أو نور منبعث من فتحة ما من شق ما من فصام ما... Schizé».
عادة ما نُترجم السكيزوفرينيا با»نفصام الشخصية»، وهذه ترجمة غير دقيقة إذا ما رجعنا إلى الاشتقاق اللغوي للفظة في الإغريقية وإلى القصد الذي قصده أوجين بلولر Eugen Bleuler الطبيب السويسري (1857/1939) الذي نحت المصطلح ف Schizein تعني انقسام وphrèn تعني الروح : انقسام الروح وانفصالها عن الواقع، وليس انقسامها أو انفصامها هي ذاتها إلى أقسام أو إلى ازدواجية أو تعدد. السكيزوفرينيا إذن ليست تعدد الشخصيات واضطرابها وانفصالها على مستوى الهوية. والسكيزوفريني يعاني من عدة هلوسات.. (أصوات متخيلة، هذيان) وعادة ما يكون خطابه مضطربا غير منظم، ويكون منسحبا من المجتمع، مهملا لهندامه ونظافته، ميالا إلى الصمت وعدم الحركة(إلا في الحالات القصوى لانفعالاته).
إنها مرض نفسي إكلنيكي يظهر عادة مع بداية الرشد، ويضع المريض أمام صعوبات تقاسم وتشارك تأويلات الواقع مع الآخرين. يشعر المريض في البداية بشعور الغرابة المقلقة ثم بشعور اضطهادي مضجر يوصف ب (paranoïde). العوامل المعروفة صلتها بالسكريزوفرينيا متعددة : جينية، بيئية، سيكولوجية، عصبية، بيولوجية وأيضا سوسيولوجية. حسب الطبيب النفساني الألماني كورث شنايدر (Kurt Schneider) (1887/1967) ؛ الأعراض المميزة للسكيزوفرينيا عن الأنواع الأخرى من الذهان (psychoses) تُدعى أعراض من الدرجة الأولى : فيها يشعر المريض أنه مراقب من طرف قوة خارجية، وأنه ليس سيد أفكاره، وأن هناك من يتربص بها لسرقتها، أو أن هناك من يقرأ أفكاره ويستغلها..
في الثمانينيات من القرن الماضي ميزت طبيبة الأعصاب النفسانية الأمريكية أندرياسن (Andreasen) بين الأعراض الإيجابية والأخرى السلبية. الأولى تنضاف إلى تجربة الواقع وإلى السلوكات الاعتيادية والتي لا يحس بها الأسوياء : مثل الأفكار الهذيانية والهلوسات، والإحساس بمفارقة الجسد، والاضطرابات الإدراكية... أما الثانية فهي التي تسلب الوظائف الطبيعية من الشخص، كسلب التركيز والتذكير ...
يمكن اعتبار السكيزوفرينيا كتغير مرضي يصيب الدماغ جراء صدمات وحوادث ما. قد تكون جنسية وقد تكون بيئية.. للوراثة دور لا يستهان به في الإصابة «،الجينات المسؤولة عن المرض إذا أخذت كل واحدة منعزلة لا مسؤولية لها في المرض، لكن إذا كانت مجموعة باتت مسؤولة «. أما البيئية فتحددها المخدرات والصدمات المقلقة قبل الولادة وطبيعة الأكل... والفيروسات المختلفة طيلة حياة المريض...وقد تكون عصبية بيولوجية تتمركز خصوصا في اختلال مادتي (Dopamine)الدوبامين و(Sérotonine) السيروطونين.
غالبا ما يتحدد البعد الاجتماعي في تحليل الظاهرة في الأسرة أو في علاقتها بالإجرام بدوافع سيكولوجية جينية، أو طبية صيدلية، هكذا فالمريض الذي يعاني انفصام داخل أسرته أفضل من ذلك الذي يعزل عنها، علما بأن الأسرة (الأب/ الأم...) قد تكون هي السبب في مرضه، والمريض الذي يعاني ألم هذا المرض قد يرتكب ويكون دائما مستعدا لارتكاب جرائم.. حتى ضد الأقربين إليه، خاصة إذا كان يتعاطى للمخدرات بما فيها أدويته.
لكن البعد الاجتماعي الحقيقي هو ذلك الذي يتحدد انطلاقا من الأنماط الاجتماعية والاقتصادية الكبرى : نمط الإنتاج الاستبدادي، نمط الإنتاج الرأسمالي، دور العولمة وأنماطها الاقتصادية متعددة الجنسيات.. (...) السكيزوفرينيا ونمط الإنتاج الرأسمالي هو موضوع دولوز / غاتاري. كما سنرى لاحقا.
أحيانا نلاحظ ترابطا ما بين السكيزوفرينيا والعبقرية، فنية كانت أو علمية، من هنا ربما حكم بعض الأطباء على العديد من المرضى «بالأذكياء».
هكذا يمكن الإشارة إلى الرياضي الأمريكي صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1994، جون فورب ناش الابن (Jhon Forbes Nash Jr.). لقد كانت حياته موضوع شريط رائع سنة 2001، تحت عنوان : A Beautiful Mind (رجل استثنائي). الممثل الذي جسد دور العالم الاستثنائي كان هو Russel Crowe.
كما يمكن الإشارة إلى ڤان كَوغ الفنان الهولندي، وأنطوان أرطو المسرحي الفرنسي والتشكيلي إدوارد مونش (E.Munch) النرويجي. ومؤسس فرقة Pink Floyd سيد باريت (Syd Barrett)، وبيتر غرين (Peter Green) الموسيقي مؤسس مجموعة Fleetwood Mac. وبطل العالم في الشطرنج لسنة 1972 بوبي فيشر(Bobby Fischer). والموسيقي الألماني من مرحلة الرومانسية، روبرت شومان (Robert Chauman)،وروبرتو سوكو (Robert Succo) القاتل والمرتكب لجرائم متسلسلة ولاعب كرة القدم في فرقة Les Packers de Grein Bay ليونيل ألدريدج (Lionel Aldridge) ... إلخ.
- أين هو حقنا من هذا الذكاء ؟ وما هي حالة الفصام في العالم العربي ؟
في إشكاليتنا لا نروم البقاء عند حدود هذه التقسيمات الطبية والسيكولوجية والجينية... وإنما نطمح إلى جعل ملفوظ السكيزوفرينيا مفهوما كليا مجردا يُغطي ظاهرة ليست فردية فقط بل اجتماعية وثقافية وتاريخية عامة، كنمط لا في السلوك فقط وإنما في التفكير والتقرير والتدبير والتسيير والحياة.
لذا.. لابد من التمييز بين الاستعمالات الصحافية والسياسية وبين الاستعمال السيكو-تحليلي والفلسفي لنفس المصطلح...
لمصطلح السكيزوفرينيا حضور بارز في الكتابات الصحافية العربية. وهذا نموذج من عينة ستسمح لنا بتقدير استعمال المصطلح وبنقده عند الضرورة.
- عبد الخالق حسين صحافي عراقي، اشتهر بمقال تحت عنوان «المجتمع العربي والسكيزوفرينيا»*1 (2006). جاء فيه أن أعراض المجتمع السكيزوفريني هي نفسها الأعراض التي تبدو على الشخص المريض بهذا المرض. وهو اضطراب عقلي يميز الشخصية المنقسمة أو المنفصلة. كما يميز الجماعات والأحزاب والحكومات والمجتمعات.
وكلما لوحظت ثنائية ما في السلوك ..ثنائية متناقضة مفارقة متباينة كلما كان صاحب السلوك السكيزوفرينيا، بهذا المعنى المضطرب وصف العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي الفوضى التي يعرفها الشعب العراقي، ناعتا إياها «بانفصام الشخصية»، ومرد ذلك الاضطراب حسبه هو النزاع بين قيم الأصول البدوية والقيم الحديثة. فالشاب العراقي مثلا يختار زوجته حسب النمط الغربي (تبادل الرسائل، لقاءات غرامية..)، لكن إذا قامت أخته بنفس السلوك يتحول إلى بدوي، مستعد لارتكاب جريمة.
هذا مثال نمطي للاضطراب الذي يعاني منه الناس وبالتالي يعاني منه المجتمع العربي.
السكيزوفريني يتصور ذاته وحيدة من نوعها، وتقتضي الاحترام. هذا، حسب المقال، ما يتصوره العربي. فلغته ودينه يستدعيان، هذا التمييز ويفرضان عليه احتقار الآخر لأنه في الغي والجهاد في الكافر لإرجاعه إلى الطريق القويم..
المريض هذا يعيش نوعا من البرانويا وهي إحساسات وهلوسات بأن الآخر يتآمر عليه ويترصد خطواته، وهي نفس الانطباعات التي يتركها المجتمع العربي حين يتحدث عن الأطماع الخارجية، والتهديدات التي تترصد مجهودات المجتمع...
هكذا يستمر الصحافي في رصد سمات السكيزوفرينيا لدى الشخص، (الأمراض العضوية، والخطاب المضطرب وفقدان الحس الإنساني، والميول إلى الكسل والدردشة والانتظارية والعزلة ليطبقها على المجتمع العربي في نموذج العراق.
وفي الختام يحذر من مغبة « الشلل الذهني « الذي قد تعاني منه المجتمعات العربية لكونها لا تدرك المخاطر التي تنتظرها وتستمر على نفس النهج الفصامي الذي ينادي بالعودة إلى الأصول والظفر بالينابيع ورفض الجديد والحديث. ذهنية العربي تلخص مثلا في الجواب عن توقيت انفجار حصل في مكان ما. وكان الجواب في البداية لقد وقع الحادث في الساعة الفلانية « بالضبط» ثم في الأخير « تقريبا». بين «الضبط» و»التقريب»، تتعرى «حسينية « السكيزوفرينيا العربية. لكن إذا كانت هذه التعرية من أجل «إصلاحات» تقبل بالمساعدة الغربية، خاصة اليد الأمريكية بالنسبة للعراق، والأوربية عامة ؛ وكانت هذه المساعدة كمساعدة الطبيب، فنحن نعلم أن السكيزوفريني محكوم عليه بمعاقرة الدواء طيلة حياته ؛ وبالمساعدة الخارجية إلى الأبد. فهل نقبل بالمماثلة في وصف أعراض المرض ونرفضها في العلاج ؟ أضف إلى ذلك أن تعرية أعراض المرض في المجتمع العربي تصل لدى هذا الصحافي إلى حد التقليل من خطورة التدخل الأمريكي في العراق، والتدخل الصهيوني في العالم العربي والفارسي، وإرجاع كل هذه التهديدات إلى هلوسات وهذيان الذات العربية.
-هل قوة المفهوم «السكيزوفرينيا» هي التي تدفع في هذا الاتجاه ؟ أقصد قوته «الحداثية» و»الطبية»، هي التي تجعلنا وربما في غفلة منا في أحضان الآخر ؟... لنُجرب صحافيا آخر، حتى إذا انتقدنا الاستعمال الصحافي في اختياراته وأهدافه نكون قد أوفينا القول الصحافي حقه.
- كتب الصحفي المغربي علي عمار(2*)، مقالا تحت عنوان «المغرب بلد تسوده السكيزوفرينيا» ركزه على النخبة الفرانكفونية المُكوّنة في المغرب من التكنوقراط، والموظفين الساميين وكوادر القطاع الخاص أو أصحاب المهن الحرة خريجي أفضل الجامعات الفرنسية أو السكولائيات الأنجلوساكسونية. واعتبرهم العمود الفقري للإقطاعية المغربية. قراءاتهم تنهل من كبريات الصحف الفرنسية «Le monde» و»Le nouvel observateur». ولغتهم خليط يسميه «العرنسية». يحتقرون أشد الاحتقار المطالب الديمقراطية الأولية لحركة 20 فبراير ويصفونها بالعدمية الخطيرة. بهم يكون المغرب «بلاد سكيزو» (بلاد الفصام) كما غنت جماعة الراب البيضاوية المسماة «هوبا هوبا سبيريت»، وإن كان لا يُذكر كلمة السيكزو إلا لماما فهو طيلة تحليله يركز على الثنائيات : المطلوب في المغرب في نظره هو أن يكون المرء وطنيا، ملكيا ومسلما. (محبا لدينه ولوطنه ولملكه). والمغرب وفق هذه المنطلقات يسير بسرعات متعددة، فهناك من جهة الطابوهات، والممنوعات والمنظومات التعليمية المهترئة المنتجة للأمية المقنعة، وهناك العولمة والأفكار الجديدة والتكنولوجيات الحديثة. وسط هذه التناقضات تترعرع شبيبية مغربية مفروض عليها ترميق هويتها وتوطيدها.
وتنبعث ثورات عربية، لا ندري من أي رماد؛ لتحيي في المغرب رميم نقاش حول مستقبل المملكة.. والمؤسسات.. ومشروع المجتمع المرتقب : نقاش تحكمه مرة أخرى تناقضات وثنائيات من نوع أيريد المغرب استبدادا متنورا أم ديمقراطية عشوائية ؟ علمانية على الطريقة الفرنسية أم أصولية إسلامية ؟ حداثة مستعجلة أم تقليدا عتيقا ؟ حريات دون قيد أم فكرا وحيدا ؟ لكن لم يرق هذا النقاش إلى مستوى الساحات العمومية ولم يمسس أولئك الذين في مصلحتهم التغيير، هل هو « استثناء المغربي « ؟ وليكن. لكن «المغرب الجديد» مريض، ومرضه بلغ الدرجة الصفر من الانحطاط السياسي، واستقالة النخبة، والمجتمع الحذر والحل الوحيد هو الخروج من سلطة المخزن !.
واضح أن علي عمار قد استغل هذا المصطلح ليستثمره في تحليل سياسي للمجتمع المغربي وهو على أبواب الانتخابات التشريعية الأخيرة (25/ نونبر). وحصره في دلالتين الأولى عامة وصف بها البلاد برمتها (بلاد السكيزو) والثانية خاصة وسم بها نخبة من نخب البلاد وهي تلك التي درست في أوربا وتأثرت بثقافتها ثُم ربطه بالمرض في بُعده الاستعاري لا الحقيقي الذي يعاني منه المغرب.
الكتابة الصحفية ليست تأملا لموضوعات بله مفاهيم ومصطلحات، فهي رسالة تحكمها ظرفية سياسية أو استحقاق سياسي، وهي دفاع عن وجهة نظر وفضح لأخرى ? لذا عادة ما تخدعنا العناوين البراقة والمانشات المنمقة ? وننساق وراء أطاريح لا صلة لها بالتحليل ولا بالتأمل.
فما السبيل إلى كشف أبعاد المفهوم من وراء اللفظة « السكيزوفرانيا « ؟
أبعاد هذا المفهوم تتحدد لدى جيل دولوز وفليكس غاتاري(3*) في المجتمع الرأسمالي، وفي الآلات الراغبة التي أنتجها هذا النظام الاقتصادي والصناعي ؛ وفي الأجسام بدون الأعضاء، وفي اللذة والشهوات، وفي نقيض أوديب ومناهضة التحليل النفسي... إلخ.
وإذن السكيزوفرينيا هي نتيجة حتمية لثورية النظام الرأسمالي، ميزة هذا الأخير هي أنه يعمل وينتج وفق صيغة الآلة (الماكينة)، كل شيء فيه آلة على آلة، حتى الإنسان، فهو آلة راغبة. آلة أعضاء مترابطة بآلة مورد : الفم آلة، ترتبط بالثدي كتدفق للحليب، المداخل (الفم) والمخارج (الإست) آلات للاستهلاك والاستفراغ. إنها آلات حقيقية وليست استعارية، آلات يصفها دولوز / غاتاري بالسكيزوفرينية (ص 8 من ضد أوديب). من خلالها يعيش السكيزوفريني الطبيعة كسيرورة للإنتاج (ص 9 نفسه). الطبيعة ليست هي الصناعة، ولكن هذه الأخيرة تمتح منها موادها، وتعيد إليها فضلاتها.. كذلك علاقة الإنسان بالطبيعة، فهي علاقة منتج وإنتاج : سيرورة إنتاجية ترتبط بالرغبة كمبدأ محايث (ص 10). لهذا يُعد الإنتاج الراغب مقولة أساسية فيما يدعى بالطب النفسي المادي (المعارض للتحليل النفسي). هذا الطب يعتبر السكيزوفريني إنسانا طبيعيا (Homo natura) خاضعا لسيرورة لا تتوقف. «السكيزوفرينيا هي عالم آلات راغبة مُنتجة ومعيدة للإنتاج، للإنتاج البدائي «كواقع أساسي للإنسان والطبيعة». (ص 11 نفسه)، تتم دائما من خلال ثنائيات ترابطية (الثدي/الفم، الأير/وثيقا..)
من نتائج هذه الترابطات والثنائيات للآلات الراغبة هناك الجسد بدون أعضاء (Cso). هذا المصطلح الذي أنتجه أونطونان أرطو وجسده، يقصد به أولا : « جسد بدون فم، بدون لسان، بدون حنجرة ولا معدة ولا بطن ولا إست..» (ص 14) إنه جسد شبيه بأجساد فرنسيس بيكون(4*)، بدون أعضاء ولا صورة كاملة فهو أقرب إلى السائل المائع، لا يتكلم وإنما يتنهد، تحركه حيوية متعالية ? كتلك التي حركت الرئيس شرايبر وحركت أرطو نفسه .الجسد بدون أعضاء ليس مفهوما ولا تصورا، إنما هو ممارسة أو جُملة ممارسات إنه حد لا نحققه كلية، فهو ما يزحف فينا وما يلتمس طريقه كالأعمى وما يطلق رجليه للريح كالمجنون (ص 186، آلاف النجود) إنه مسافر الصحراء أو رجل الأصقاع.
يمكن أن نفرق في الجسد بدون أعضاء بين الجسد الهيبوكوندري الذي تتلاشى أعضاءه والجسد البارانوي الذي تتعرض أعضاءه للتلف وبين الجسد المازوشي الذي تتألم أعضاءه، والجسد السكيزو الذي تتصارع أطرافه. وكل هذه الأجساد مليئة بالقوة والحيوية. رغبة المازوخي ليست هي الألم إنما هي لذة الألم، فهو مبرمج لذلك ولا يمكن تأويله ولا فهمه من خلال التوهمات. هذا الجسد هو في العمق مجال محايث للرغبة، فيه تتحدد الرغبة كإنتاج وسيرورة، إنه الرغبة لأن به نرغب. الكتاب الكبير حول Cso هو إيتيقا سبينوزا (نفسه ص 190).
الجسد بدون أعضاء لا ينتج أوالأصح يرفض الإنتاج وإعادة الإنتاج الشيء الذي يضغه في نزاع مع الآلات الراغبة. لأن هذه الأخيرة تنتج الرغبة وتلبيها وتنشرها لا كفقد أو فانتازم وإنما كغياب؟ الرغبة معمل وليست مسرحا. إنتاج لاشعوري وليست خصاصة الجسد بلا أعضاء التي يأتي تاريخها من الآلات العزباء : الآلة السجنية لدى كافكا، وآلات ريمون روسال والذكورية العليا لألفريد جاري والتحفيز المنشط لدى نيتشه. حسب بيير كلوسوفسكي (P. Klossowski) هذه الآلات هي قوى تجاذب وتنابذ، دوافع ترقي وانحطاط، وسمت جسد نسيته باعتباره بدون أعضاء، لا يقصد جسد أنا- نيتشه أستاذ الفيلولوجيا الذي فقد عقله فجأة وانغمس في الظلام إنما يقصد الذات النيتشوية التي مرت بحالات عدة وتماهت في الأخير بأسماء تاريخية، يقصد الآلة الراغبة والآلة العزباء للعود الأبدي. التي تقول دوما : «أنا هذا، أنا إذن هذا الرجل.. «. هذا السكيزو الذي كنته لحظة واحدة ? امتدت من 31 دجنبر إلى 6 يناير ? هي المدة ربما التي انكتب فيها «هكذا تكلم زرادشت «. (نفسه ص 27-28-29)، السكيزوفريني عند دولوز / غاتاري نبي رحال يتجول دون انقطاع.
الهوامش :
1- www.nuitdorient.com.
2- علي عمار : صحافي مغربي صاحب كتاب «Mohamed 6 un grand malentendu» www.slateafrique.com
3- Gilles Deleuze, Félix Guattari. Capitalisme et schizophrénie.2 tomes.
1- L?Anti-?dipe.,
2- Mille plateaux. Les éditions de Minuit.1972.
4- فرنسيس بيكون فنان تشكيلي من ايرلاندا أنظر خاصة لوحته جرح أوديب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.