غدا تنطلق أشغال المؤتمر الثامن عشر لحزب الاستقلال    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    مكناس.. لائحة زيت الزيتون البكر الممتازة التي توجت خلال المباراة الوطنية    الفروع ترفع رقم معاملات "اتصالات المغرب"    مطار مراكش المنارة الدولي .. ارتفاع حركة النقل الجوي خلال الربع الأول    ارتفاع أرباح اتصالات المغرب إلى 1.52 مليار درهم (+0.5%) بنهاية الربع الأول 2024    تظاهرات تدعم غزة تغزو جامعات أمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    وكالة القنب الهندي تصدر 2905 تراخيص    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    المعرض المحلي للكتاب يجذب جمهور العرائش    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    14 ألف مواطن إسباني يقيمون بالمغرب    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    رصد في ضواحي طنجة.. "القط الأنمر" مهدد بالانقراض ويوجد فقط في حدائق الحيوانات    المغربي إلياس حجري يُتوّج بلقب القارئ العالمي للقرآن    غير كيزيدو يسدو على ريوسهم: الجزائر انسحبت من كاس العرب فالمغرب بسبب خريطة المغربة    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    إتحاد الصحفيين الرياضيين المغاربة بجهة سوس ماسة يُنظم ورش عمل تفاعلية حول مبادئ الصحافة الرياضية ( فيديو )    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    مكتب التكوين المهني/شركة "أفريقيا".. الاحتفاء بالفوجين الرابع والخامس ل"تكوين المعل م" بالداخلة    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملف
نشر في العلم يوم 11 - 05 - 2009

يميز حضارة أو ثقافة ما أو الوجود ككل هو الانزياح المغمور الذي يتطلب احترام ما لا يمكن اختزاله، بحيث هناك فرق بين المماثل (identique) وعين الذات (le même). هذا الأخير هو ما يحدث كانزياح لا يمكن رفضه، عاقدا الاختلاف مع المماثل في حد ذاته. والوجود الاختلافي يميز بين عين الذات والمماثل، ذلك أن المفهوم الأول يرتكز على الواحد وعلى عينه كطرفين لرسم الاختلاف مع أي شيء آخر. في حين أن المماثل يركز على التشابه الحاصل بين هويتين. عين الذات أساس وعمق الاختلاف نفسه (نقول نفسه)، في حين أن المماثل أو القرين يحتاج إلى نفس الأساس ليبني التشابه أو التماهي. عين الذات يحطم كل التماثلات، في حين أن التماثلات هي ما يشيد الهوية... أنا هو آخر الآخر، ومع ذلك فأنا هو عين الذات»(12) كما يقول عبد الكبير الخطيبي.
أيخلو عين الذات من كل ازدواجية وثنائية؟ أيخلو الاسم من جرح ومن هوية مؤجلة؟ حتى اللغة تنطوي على الازدواجية والتثنية إلى حدود الضياع. فالأضداد وجه لهذه الثنائية المسكوت عنها، والترجمة من السريانية والإغريقية في آن واحد مثلا وجه آخر، وموقع الوجود فيما بين ذلك الموقع المثني كما صاغه الكندي وجه ثالث... إن الواحد عينه هو الآخر يوجد في وضعية ازدواجية (bi...) أو ثنية تطوي هذا الواحد في عينه، كما هو شأن اللغة الأم مع أخرى غريبة عنها (bi-langue): فهذه الأخيرة تغير منذ اللحظة التي تتماهى ككتابة فعلية أو ككلام فعلي، من اللغة الأولى، تبنينها وتحملها إلى حدود مالا يمكن ترجمته. فاللغة الأجنبية لا تأتي كإضافة إلى جانب اللغة الأصلية ولا تعمل فيها كتجاوز محض، إنما تتفاعلان فيما بينهما كخارج يقابل خارجا آخر هو عينه. فكل لغة تحاول أن تكون خاصة وفريدة من نوعها لا يمكن اختزالها وتحاول أن تبقى شيئا آخر بصرامة لا مثيل لها.. كذلك هو شأن الترجمة وصرامتها... إنها تلك الفسحة المحققة دوما للتباعد المطلوب والانزياح المرغوب.
كل لغة هي تضعيف وتثنية في حد ذاتها أو في عين وحدتها... وهي بالأحرى ابتغاء علاقتها بلغة أخرى أو ثالثة. فالحركة فيما بينها ستكون تضعيفا لا محالة (doublure). هذا الأخير قد يكون مجال مسألة نظرية شاسعة. فالسؤال المطروح هو كالتالي: إذا كنا نكتب الفرنسية، وبقيت لغتنا الأولى شفاهية، فما هو مصير جسدنا الحالم عند النوم أو الكتابة؟(13) عن هذا السؤال الضخم يقدم لنا الخطيبي تأويلا عاما ويعدنا بتحليل شارح في مكان آخر.
إن سبات اللغة الأولى، في جسم الطفل يؤدي إلى فقدان الصوت، صوت اللغة الأم، وسيادة اللغة الأخرى. فما لا يمكن ترجمته في هذه الحالة هو عمل النوم ذلك المهلوس لكل ترجمة تحلم في هذه اللغة وتلك... والذي قد ينبثق في أحلام اليقظة الخاصة بالكتابة هنا أو هناك... في شكل «وضوح ثاو داخل النص، أو وضوح فكر موسوم باللا مفكر فيه. ذلك هو الحلم الأحمق للغة تريد أن تكون فيما وراء برج بابل».(14)
هذه التجربة لم يعشها هولدرلين فقط، بل عاشها أيضا الخطيبي وبشكل لافت للانتباه. «ففيما بين 2 شتنبر 1982 و 13 يوليوز 1983 دونت بعض ذكرياتي. ويوم 5 يناير 1983 كتبت، يقول الخطيبي، الملاحظة التالية: «خلال جلسة دراسية، أثارت انتباهي كلمة. قد يكون في الأمر هلوسة. لقد رأيت فيما يرى النائم كلمة قد تكون كلمة (lettre)، وفي جميع الأحوال كلمة تنتهي بحرف (e)؛ التوت هذه الكلمة، وتحولت في شكل قلب كما نرى ذلك في بعض البطاقات السياحية العتيقة. رأيت انعكاس نور أو شعاع أو بالأحرى فجوة نور ساقطة على صفحة ما، بسلام وبدون ضجيج. عندئذ صحت: لقد رأيت الله ! إنه بشعر مجعد، إنه خيال غريب ! إلاه أسود. فكرت في الليل أو في شيء أسود. إن إلهي يشير دوما إلى كلمة (lettre)». ويضيف الخطيبي قائلا: «والآن يمكنني أن أقول إنه يشير إلى الأثر وإلى الغربة».(15)
وما دمنا في إطار الحلم والهذيان، وما دمنا في إطار التردد وعدم اليقين، فإن ما رآه الخطيبي في منامه ليس بالقطع كلمة (Lettre)، لأنه يشكك ويتردد بشأنها، فقد تكون كلمة (L??tre) كما تسمح بذلك بلاغة الصوت والاستماع والنطق، وما يشكل اليقين أو شبه اليقين هو حرف (e) الذي يأتي في آخر الكلمة المحلوم بها، وهو موجود هنا وهناك، لقد تحولت الكلمة عبر نور انبهاري إلى صورة أسمى وجود وهوالله. لكنها صورة غير صافية، صورة سوداء أو ليلاء... في جميع الأ-حوال- إنه (L?être/lettre) متبديا كأثر أو كمنفى... فيا للغرابة المقلقة !
بلاغة النطق سمحت لنا بخلط lettre ب L??tre، فهل هذا الخلط لعبة من لعب الحلم أم لغته؟
إن كان للحلم مستوى غابر وضامر وآخر باد وظاهر، وكانت لعبة الانتقال من هذا المستوى إلى ذلك تتم عبر التحويل أو التعويض والتكثيف، فإن الانتقال من l?être إلى lettre لا يخرج عن فضاء إواليات الحلم تلك. وإذا كان بالإمكان استعمال الاستعارة والصور للدلالة على ما هو غابر متحجب قصد إبرازه وإظهاره، فإن lettre (الحرف/الكلمة) هي بلاغة التعبير عن l?être (الوجود): «وهذا التقنع الشفاف والموسيقي بين الوجود / الحرف هو الذي يطوف في الاستعارة الشهيرة للمتاهة».(16) يبدو أن «من يكتب بالفرنسية أو بلغة أخرى من اللغات الهند-أروبية.. لا يدرك هول غياب الوجود (l?être) في اللغة العربية». فهو كمن يريد ترجمة حرف العين إلى اللغة الفرنسية بحرف A، كمن يقول ما لا يقرأ أو يقول ما لا يرى، أو بالضبط كمن لا يقول ما يقرأ وما لا يراه».(17)
إن هذه الوضعية شبيهة بوضعية الحالم الهاذي في ذلك اليوم من 5 يناير 1983.
2- في النقد المزدوج
يندرج النقد المزدوج في فكر عبد الكبير الخطيبي، ضمن مساءلة هذا الأخير للوجود العربي، وخلخلته للمفاهيم الميتافيزيقية واللاهوتية التي «يقرأ» بها هذا الوجود، وكذلك ضمن مساءلته للآخر، أي للغرب الحاضر في كياننا.
بخصوص الوجود العربي، فإن الأمر يتعلق بالنقد الفكري البناء لما أنتجته الثقافات السائدة في المجتمعات العربية، وبالتحديد نقد حمولتها الميتافيزيقية واللاهوتية: «إنني أنفصل بوضوح عن أشكال الخطاب الثلاثة التي تسود العالم العربي (التراثية والسلفية والعقلانية). فما الداعي إلى هذا النقد الجذري؟ ذلك أن التراثية (إصلاحية كانت أم مطلقة) تسعى إلى بلورة الوجود العربي في سؤال ديني لاهوتي في أساسه. أما السلفية فهي محاولة وهمية للتوفيق بين الدين والعلم، حسب مشروع تاريخي يرمي إلى تحقيق إصلاحات أصبحت متجاوزة. وأخيرا فإن العقلانية التي تعلي من شأن العلم، تنسى بفعل ذلك المسألة الأساسية للاشعور».(18)
ومن هنا دعوة عبد الكبير الخطيبي إلى الاهتمام بمكبوت الثقافة العربية الإسلامية والإنصات إلى هوامشها والحفر في اللامفكر فيه ضمنها. ولعل هذا ما يفسر إيلاء هذا المفكر اهتماما خاصا لكل خطاب مقلق ومشاغب، مثل الخطاب الصوفي الذي عمل على زعزعة مفاهيم الخطاب اللاهوتي التقليدي.(19)
وهو ما يفسر أيضا اهتمامه بقضايا الثقافة الشعبية ? بخصوص المغرب ? (الثقافة الشفوية [كالأمثال]، الكتابة بالجسد [الرقص]، وعلى الجسد [الوشم]، الكتابة بالأشكال والألوان [الخطية الزربية] الخ...)، وذلك بهدف التأكيد على أن كياننا متعدد، وأن كل محاولة لاختزال هذا الكيان ضمن هوية ثابتة وأصل خالص، ما هو إلا محاولة لضمان السيادة الثقافية والإديولوجية للطبقات المهيمنة.
أما بالنسبة لنقد الآخر، أي الغرب، فإن الأمر يتعلق بنقد المفاهيم التي استند عليها هذا الأخير في قراءته لذاته وللآخر [العرب على الخصوص]. وهي المفاهيم الاستشراقية، وأيضا مفاهيم العلوم الإنسانية التي تكرس تمركز الغرب حول ذاته، واحتفاليته بسيادته؛ هاته الهيمنة القائمة على أرادة قوة جديدة هي تعميم التقنية عالميا.
إن نقد عبد الكبير الخطيبي لقول الغرب، يتمثل في التساؤل عن مدى علمية المعارف التي أنتجها هذا الأخير في حقول الإنسانيات، وتحديدا في ميادين كالاستشراق والإثنولوجيا؛ إذ أن هذه المعارف ظلت مرتبطة بتصور اختزالي للآخر، كما أنها وظفت لخدمة مصالح الغرب السياسية والاقتصادية. وحتى في الحالة التي تنتج فيها معارف منتقدة لهذا التمركز حول الذات، كما هو الشأن بالنسبة لكتابات جاك بيرك وكلود ليفي اشتروس، فإن هذه المعارف تظل مشدودة إلى حنين الأصل والهوية الخالصة، أي أنها تعمل على خلق نموذج للآخر، تفوح منه نكهة غرائبية أكثر مما يعبر عن حقيقة معطاة؛ وبذلك تظل مقتفية لآثار الميتافيزيقا، للغتها ولمعمارها الفكري: «لقد التذ الاستشراق طويلا بابتكار فصيلة من العرب الخاضعين لرهبة الله، في حين أن الإسلام في رأيي، قوة توفيقية تغطي مجالا واسعا من الوثنية[...]. أما في أيامنا هذه، فقد أصبح المستشرق إنسانيا بطريقة مغايرة؛ أقصد انه يتجه نحو «الإنسان» كما تتصوره العلوم الإنسانية، ذلك التصور الذي أجاد انتقاده ميشال فوكو. فبعض المستشرقين الفرنسيين يفتخرون بتطبيق المناهج البنيوية أو السيميولوجية في الدراسات العربية، وهذا
مجهود مجد بالتأكيد، لكنهم لا يفعلون أكثر من إضافة قاطرة أخرى إلى قطار متخلف عن الوقت دوما».(20) هذا النقد للمعرفة الغربية هو نقد لهيمنة الغرب الثقافية والإيديولوجية، التي ليست سوى الوجه الآخر لهيمنته الاقتصادية والتقنية. ويجب أن نفهم التقنية ك»ميتافيزيقا مكتملة» حسب تعبير هايدجر. فالتقنية «كميتافيزيقا مكتملة» وكقوة إرادة هي أساس إنذار كوني جديد يدعو البشر ? أكثر من أي وقت مضى ? إلى سماع الكائن [...] و جوهر التقنية فرد أوحد، وهو أوحد وكوني أيا كانت طريقة انتشاره. وللأوحد تأثيراته الصورية والانكفائية والاخفائية والاختلافية. نسمي هذا المشهد كله صورة التقنية أو ظلها».(21)
لذلك، فإن مهمة النقد المزدوج تفكيكية وحوارية، لأن الحوار أساسي للتفكيك، ولأن عبر هذا الأخير يمكن تحويل علاقتنا مع الغرب وجعله موضوعا للمساءلة والتحاور. وفي مساءلتنا للغرب مساءلة لذاتنا ولكياننا:» مثلا أقول بأن التفكيك، تفكيك الميتافيزيقا، هو حوار مع فكر غربي ثوري. ويمكن أن نذكر أسماء مفكرين من أمثال، ماركس، فرويد وهايدجر. ويقوم الآن في فرنسا كل من جاك دريدا ولاكان بثورة فكرية أساسية. فلماذا إذن أسماء نيتشه، فرويد وهايدجر، دريدا ولاكان؟ لماذا هذا الحوار مع تيارات أعتبرها ثورية في الغرب؟ إنه ضروري لتفكيك الأرضية الاجتماعية والطبقية في العالم العربي».(22)
فعبر هذا الحوار، تتم ممارسة النقد على كل فكر يروم الهيمنة ويتشبث بمبادئ الأصل والهوية والمركز، سواء كان هذا الفكر غربيا أو عربيا إسلاميا، وذلك بالانفتاح على الهوامش ومواجهة كل النزعات المركزية كيفما كان مصدرها، لاهوتيا أو تقنيا.
إن الانفتاح على الهوامش يشكل جانبا أساسيا يتبلور من خلاله فكر الاختلاف كفكر لا مفكر فيه، أو لنقل كفكر مكبوت ومنسي من طرف الثقافة السائدة (ثقافتنا أو ثقافة الآخر). ومهمة الانفتاح هاته موكولة للمثقفين ضمن «نضالهم الطبقي في قبيلة الكلمات»، كما يقول الخطيبي، ويضيف: «إن تجاهل الاختلاف هو الظاهرة الأكثر شمولية، وغالبا ما نعاني آلامه المريرة. وإن العودة إلى الهوية، إلى هوية ما، أمر يبعث على الاطمئنان. لقد انسحب الفكر العربي منذ خمسة قرون، ويعود اليوم ليقتحم عالما تهيمن عليه المعرفة الغربية المطلقة. وعوض أن يباشر بجدية الحوار مع فكر الاختلاف (نيتشه، ماركس، هايدجر)، نلحظ أنه يتيه في ميدان العلوم الإنسانية. ولا شك أن هذا المنحى لا يخلو من الفائدة، ولكنه غير قادر على أن يخلق تفكيرا جديدا. لذا أصبح الفكر العربي يتصف بالنزعات التاريخانية والثقافوية [..] وهنا ينشأ المأخذ الذي أوجهه غالبا إلى المثقفين».(23)
3- التجليات أو جرح الوجود
لم يتحدث عبد الكبير الخطيبي مباشرة عن غياب الوجود ولا عن شطبه من على سطح لغتنا وفلسفتنا، لكنه تحدث عن انكسار الوجود، وعن فصله بالتالي عن ظله، بل وصل به الأمر إلى حد تحويل كلمة (l?être) إلى (lettre) في الحلم المذكور من قبل، وإن كان لم يقلها صراحة، بل تركها في المكبوت، ويمكننا افتراضها خاصة إذا جاز لنا استغلال ميكانيزمات الحلم. لذا نتساءل: ألا توجد لدى عبد الكبير الخطيبي أنطولوجيا خاصة به؟ أجل لا وجود لها بالمعنى الجاهز، لأنه مشغول بتأسيس أنطولوجيا جديدة لكنها مشتتة. ينبغي التفكير في حقيقتها ولم الوجود المنبثق عنها بطريقة مختلفة «ذلك أن تفكير الخطيبي ينمو خارج الفلسفة وعلى هامشها».(24)
تحديد الخطيبي للوجود العربي المتميز، لا يقدم في سياق نسق فلسفي متكامل، بل يقترحه في الإبداع ومن خلال هذا التمويه وهذه البلاغة من الاستعارات التي تقدم جوابا بقدر ما لا تقدمه، قد تعوضه بأشكال أخرى تحتاج هي بدورها إلى استعارات وبلاغات ومحسنات لفظية. فما هو المنطق الذي يمسك هذا الصرح الخيالي الإبداعي؟ هل كونه جوابا متعددا ومشتتا عن سؤال الإستين Estin أم كونه معالجة ظرفية قد تختلف من هذا المستوى إلى ذلك؟
لم يصرح الخطيبي بإضمار الوجود ولا بتواريه صراحة، لكنه كان يصرح دوما بسمات الإضمار والمواربة: فالظل والغياب والتثنية أو التضعيف أو الازدواجية، كلها استعارات تثير الحرف (lettre) وتشير إلى الوجود (l?être) ككلمة لا يمكن النطق بها أو لا يمكن رؤيتها إلا كحلم وكأثر هارب؛ وبين الكلمتين تتناثر أنطولوجيا الخطيبي.
إحدى سمات هذه الأنطولوجيا المشتتة بله المؤجلة، هي ما يمكن أن نسميه «عقدة سيدنا إبراهيم الحنيف le mythe fondateur». عقدة تنفك عناصرها كما يلي: الغربة والتيه والانفصال والانقسام والفقدان واليتم والإثم والختان والتمزيق ... «إن قضية سيدنا إبراهيم ستظل كجرح لا يمكن تهجيه ولا قراءته، فهو عبادة لله في الجرح المتدفق للوجود».(25)
إنها عقدة ذات طبيعة مفارقة: إنه الأصل والتنوع كجمع فيما بين الهوية والاختلاف (Androgyne)، فهو الشيخوخة في وداعتها (175 سنة)، وجرح الختان (في سن 99)؛ وأخيرا وليس آخرا إنه ارتكاب المحارم (سارة الزوجة والأخت). بنية طابعها الطاغي هو القطيعة والتمزق. أبيسية مخدوشة ومنكسرة ترسم الوجود ككتابة الصحراء وسراب الوجود، فتجعلك تدرك مالا يدرك، وتتيه مع دموع هاجر الخليلة(26)، وتنبهر أمام « هذا الوجود المنثوي (Androgynique).
من سيدنا إبراهيم والوجود الممزق إلى حدود تضعيفه، يعود الخطيبي إلى الطاوية، ومفهوم الفراغ (العدم الفعال) المنشطر إلى ying و yang.
إذا كانت الطاوية التي برزت في الصين القديمة، في نفس المرحلة التي ظهرت فيها الكنفوشية، قد قامت كاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية السيئة، فإن الطاو بالنسبة للاو تسو هو الطريق أو المنهج الذي يسمح للإنسان بالتوحد والانسجام مع الكون لتحقيق السعادة... الطاو هو المبدأ الذي عمل على أساسه كل ما هو موجود، لذلك فعندما يتوحد طاو الإنسانية وطاو الكون، فإن البشر سيدركون طبيعتهم اللامتناهية، وعندئذ يسود السلام والانسجام.
وقد اعتبر الطاو كمصدر للوجود وللعدم وكوجود خالص غير متعين، وباعتباره مصدرا لكل الأشياء، فإنه يمنحها الحياة والدلالة ويشكل الواحدية المؤسسة لكل التنوع والتعدد في العالم.
ومع ذلك فإن الطاو يظل بلا سمات ولا خصائص، إنه بمثابة فراغ، لكنه الفراغ المتضمن لطاقة لا متناهية ما دام المصدر اللا نهائي لكل الأشياء. ويشير لاوتسو إلى ذلك بقوله:
«الطاو فراغ قد يتم استخدامه، لكن طاقته لا تستنفذ. إنه بلا قاع، وربما كان الجد الأول لكل الأشياء.
إنه [..] يتوحد مع العالم الترابي وهو في عمقه وسكونه، يبدو انه موجود إلى الأبد».(27)
هذا الإقرار بالطابع اللا متناهي للطاو، سيؤدي بالطاوية إلى تبني وجهة نظر معرفية «لا متناهية تتجاوز المعارف القائمة على الإدراك الحسي والتصور العقلي. وهي وجهة النظر التي سيتم تدعيمها بأربع حجج وضعها شوانغ تسو أحد اتباع لاوتسو، وهي: نسبية التمييزات، تكامل الأضداد، الحكمة التي تنطلق من المنظورات ونزعة الشك العامة.(28)
هذه الوقفة مع الطاوية، ستسمح لنا بتلمس الطريق عبر دروب «المناضل الطبقي..» بغية لقاء مناضل الخطيب اليتيم، ومرافقته عبر مسيرته الاختلافية.
4- اختلاف المناضل اليتيم
إن المناضل الطبقي يتيم، ولكنه ? يقول عبد الكبير الخطيبي ? سيد يتمه :
ماذا تقصد بيتيم؟
كل تراتبية تفرض
أبا وأما وطرفا آخر
كل سياسة تفرض
سيدا وعبدا وطرفا آخر (29)
المناضل اليتيم يرفض إذن الخضوع لكل تراتبية مؤسساتية، أسرية كانت أو اجتماعية أو سياسية. إنه يرفض الهوية الواحدة وينادي بتعدد الانتماءات باسم الاختلاف:
«أعلم الاختلاف الذي لا رجوع (فيه)
والعنف الدقيق»
هذا هو معنى كلمة «يتيم»
ماذا تعني ب»سيد في يتمه»؟
- المناضل الطبقي لا يلوح بسلاحه
من نفسه يستمد إثباته ويدمر بصرامة.(30)
ومن هنا دعوة عبد الكبير الخطيبي إلى نقد جذري لكل الخطابات التي تسود العالم العربي، تراثية كانت أو سلفية أو عقلانية، باسم فكر الاختلاف الرافض لمفاهيم الأصل والوحدة المطلقة.
فالمطلوب هو «أن نفتح المجال لفكر يتخلى عن الذاتية الحمقاء والأصالة الحمقاء، ليتمسك بفكر الاختلاف (وهذا مفهوم أساسي) بجميع مستوياته: الاختلاف الاجتماعي الذي يرمي إلى فك وتفكيك البناء الذي يقوم عليه التفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي وأسسه الأخلاقية، الاختلاف الثقافي الذي يسعى فكر الاختلاف إلى تقويمه من خلال تقويم الثقافات التي نبذها العالم العربي وهجرها. الاختلاف السياسي، حين يسعى فكر الاختلاف إلى النظر في دعائم التغيير وأسس الانفصال بين مختلف السلطات المحلية(31).
إنها دعوة للبحث عن الاختلافات التي تخترق جسد الوجود العربي، والتحاور من الهوامش التي تؤثث هذا الجسد والتي تم نسيانها وإبعادها، باسم أصالة خالصة وهمية أو نزعة تراثية، ليست في حقيقة الأمر سوى «نسيان، يجعل المذهب بديلا عن المسألة الوجودية، وتعطى الأولوية لكائن ثابت وأبدي، وتحافظ على هذه الثبوتية وهذه الأبدية... في شريعة البشر».(32)
والحوار مع الهوامش والاستماع إليها، معناه الانفتاح على القضايا التي حاول الفكر «السائد» السكوت عنها مثل: الترحال والمنفى والاختلاف. وهو ما يستوجب نقدا وتفكيكا لمفاهيم هذا الفكر، بغية فسح المجال أمام تجليات هذا «الاختلاف الذي لا رجوع فيه»(33).
لكن بالقدر الذي سيتم فيه رفض ونقد الهوية العمياء والأصالة الخالصة، سيتم أيضا رفض «الاختلاف المتوحش» المتحدث باسم مغايرة مطلقة: «أسمي هوية عمياء توهما لأنها مطلق» واختلافا متوحشا «توهما لمغايرة مطلقة. وما دمنا لم نقم بفك مفاهيم الكائن والاختلاف والهوية من ارتباطها اللاهوتي، فإن الفكر العربي سيظل عالقا بأذيال الميتافيزيقا».(34)
لهذا السبب نادى الخطيبي بالهوية التعددية المناهضة لمفهوم الوحدة الميتافيزيقي، إذ أن الأنا هي عبارة عن مجموعة من العناصر غير المتجانسة، ولكنها متفاعلة فيما بينها مع ذلك: «لنأخذ الإنسان العربي، وعلى وجه التحديد الإنسان المغربي، فإننا نلاحظ أنه يحمل في أعماقه ماضيه قبل الإسلامي والإسلامي والبربري والعربي والغربي، أهم شيء إذن هو أن لا نغفل هذه الهوية المتعددة التي تكون هذا الكائن؛ ومن ناحية أخرى يجب أن نفكر في الوحدة الممكنة بين هذه العناصر جميعا. لكنها وحدة غير لاهوتية تترك لكل عنصر نصيبه من التمييز، وتتيح بالنسبة إلى المجموع حرية الحركة.(35)
إن هذه الهوية التعددية تختزل ? كما يري الخطيبي ? في القولة الشهيرة لهيراقليطس «الطريق واحد ومتعدد»؛ ولعل ما يفسر تأرجح الذات بين الهوية والاختلاف، بحيث لا يمكن تصور وجود الذات خارج إطار هذا التفاعل. ويمكننا إذا ما استعرنا عبارة شهيرة لهايدجر أن نقول: «إن الذات هي مأوى الهوية والاختلاف»:
الهوية الاختلاف
إسمان للرابطة نفسها
فكهما هو رسم لولب
رسم لولب مطاطي في الجسم
هو الحركة في المنفى
الانتفاء في الآخر بوحشية
هو الانفتاح على الاختلاف الذي لا رجوع فيه(36)
ألا يعني الأمر هنا، تجاوزا للثنائيات التي دأب الفكر الميتافيزيقي على استخدامها (هوية / اختلاف، حركة / سكون، منفى / استقرار ...الخ)؟
أليست عملية ثني الهوية داخل الاختلاف، هي إزالة لكل تراتبية وجودية بين المتعالي والمحايث، بين الحضور والغياب، وإعلان عن الاختلاف الأنطولوجي؟
مشروع / غير مشروع
خير / شر
حضور / غياب
قانون / خرق
الفاصل بين الاثنين تساوق يتأرجح
لا تأسرنك هذه المطابقات الباردة
انفتح على اللعب المتناقض...(37)
فبينما يؤسس الفكر الميتافيزيقي منطقه على التقابل الرافض لكل تشابه أو تكامل بين الأضداد، يدعونا الخطيبي إلى الانفتاح على اللعب المتناقض على لعبة الاختلاف، التي تعمل على تكسير البنيات العتيقة، بنيات الفكر الميتافيزيقي، وتساهم في فك هيكله والزيادة في تصدعاته وإزالة حدوده، وسياجاته عبر اللعب بالكلمات الذي يسمح بالتحرر من «أسر المطابقات الباردة»:
مارس وأنت تلعب الفن الدوار(38)
فلعبة الاختلاف هي فسحة وتأجيل ودوران، عبر حركة تمتزج فيها عناصر متغايرة وغير متجانسة: «حركة وتعاقب بين المتعدد والواحد، بين المتغاير والتجانس، بين الكائن واللاكائن، بين الفارغ «والمملوء»، وأخيرا بين الذكر والأنثى، لتشكيل الكائن الخنثى، الكائن الموحد والمنقسم إلى ما لا نهاية».(39)
ها هنا تحدث القطيعة مع منطق الهوية وعدم التناقض، ويصبح الازدواج (ازدواجية الثقافة والجنس والكينونة) هو عنوان الاختلاف الذي يؤدي إلى قيام المعرفة اليتيمة:
العالم كله يعبد الهوية
العالم كله يبحث عن الأصل
وأنا أعلم المعرفة اليتيمة.(40)
وهي المعرفة التي تهتم بالتيه والفراغ والمتعة والعشق والموت والترحال، وترتبط فيها الكتابة بالوشم وفن الخط والرقص والموسيقى:
أن تعرف هو أن تحس بقوى أربع
قوة الحرف تذهب من العلامة إلى تلاشيها
قوة الخط تستأصل اليد من الجذر
الرقص والحركة يحرقان جسدك
والغناء والموسيقى يقيسان إمكانك.(41)
معرفة هي بمثابة نفي للذات في الآخر وفناء فيه إلى حد الامحاء، حيث لا يعود هناك تمييز بين الحضور والغياب أو البعد والقرب، وحيث تصبح عتمة الموت مصاحبة لمتعة الفناء، عبر حركة ارتعاشية، مترنحة، يكتبها الجسد تحت راية الاختلاف الذي لا رجوع فيه:»فلتخترق أيها الاختلاف فكر هذا القرن ذهابا وإيابا، فلنا قرون أخرى نعلن احتفالنا فيها، قبل أن نطير في ليل الزمن، منبع كل اختلاف معاند».(42)
5- عن المثنى وجرح الاسم
سمة أخرى تأخذ منبعها من اللغة، وبالضبط من تلك الوضعية المفارقة والمزدوجة لما يسميه الخطيبي (la bi-langue): «إن تجربة الازدواج التي تخترق نصه، تكون شكلا جذريا للوجود».(43)
فالوجود المزدوج والكلام المزدوج والفكر المزدوج هي لحظات هذه الأنطولوجيا المؤجلة دوما أبدا... عبرها يحكي لنا المؤلف وجود حياة حكم عليها بالتمزق والجرح منذ البداية، منذ التسمية، واستمرت حاملة لهذا الوشم طيلة حياتها ومازالت من منابع تلك اللغات المتعددة تنكسر كل هوية، منذ الأصل، وتتشدر في اختلافات مرآتية عاكسة، لا يمكن أن يرى فيها المرء سوى جانبا من ذاته، لا يمكنه أن يلحقه بالجانب الآخر كجزء منه. ذات حاملة لذاتها أو الأصح لذواتها تتراوح فيما بين بين (Un entre deux) باحثة عن كل تقاطع ممكن. «فالوجود واللاوجود من الأمور المتقاطعة التي يمكن تنسيقها، لأن ازدواجية اللغة تغير من موقع الذات باستمرار».(44) تغير منه إلى حدود الفراغ أو النسيان أو فيما بين بين؛ «فالآخر يوجد داخل الوجود، والوجود يتواجد داخل الآخر وبفضل هذا التداخل تحفر ازدواجية اللغة ثنايا فارغة داخل الكيان الأنطولوجي».(45)
صفة «الما بين بين»، هذه نلمسها في علاقة اللغة الأم بلغة أخرى.
حيث يتم نسيان الأولى دون نسيانها حقا، يتم تركها في طرسها الذي يبقى ثانويا هناك وراء الورقة البيضاء؛ وحين تملأ الورقة أو تسود يتم تضعيف الطرس إلى حدود الفصام. إن هذه الازدواجية اللغوية (على مستوى العلامة والكتابة) تنقل لا محالة إلى مستوى الفكر وطرائق التعبير عنه، فكل فكر واحد هو في العمق عدة مشارب وتوجهات، إنه فكر يعيش بتقاطع مشاربه وتضعيفها داخل ثناياه.
وهناك سمة ثالثة تأخذ ملمحها من الأدب والسرد والمتخيل بصفة عامة. فهذا المنحى الإبداعي المنبعث من نص واحد مكثف، والمتشذر إلى نصوص عدة متعددة، يشكل بؤرة واحدة «لا نعثر فيها على ما يستجيب للفهم الأرسطي في أشكال السرد.»(46)
إن الذاكرة الموشومة، بالإضافة إلى كونها سيرة ذاتية، فهي سيرة فلسفية. تحاول تلمس الذاتي والموضوعي في آن واحد(47)، لتؤسس منهما ذلك التصور الأنطولوجي المتميز. فالاسم جرح يرقى إلى الجرح الأصلي، إلى حركة سيدنا إبراهيم، تلك الحركة التي وسمت ووشمت الوجود العربي بازدواجية الموت والحياة ووضعته في طي ازدواجية للضياع... ضياع الهوية المؤجلة وضياع الأنطولوجيا المؤجلة... ضياع وتأجيل منظورا إليهما كانزياح ضروري لتحقيق عين الذات. إذ أن اسم عين الذات، تسميته وتوقيعه كوخز الأثر يؤشر على طبيعة الوجود.
وجود أندروجيني أو وجود المثنى (بدل أن نقول الخنثى)، جسد مطلق لاذكوري ولا أنثوي، جسد يجمع الازدواج في بدئه قبل أن ينشطر ... فهو مبدأ كل انشطار، أي مبدأ جرح الوجود «لأن المثنى دوما جرح» ينفتح على الموجود كما ينفتح على العدم، يمنح الحياة كما يمنح الموت. فهو جسد مضاعف إني أسمي أندروجين هذه الإحاطة الافتتانية للوجود، هذا الظهور في الظهور للرجل والمرأة إلى حدود الامحاء اللانهائي ، أجل أندروجين عشيق أزلي لكليهما».(48) إنه/إنها، تقسيم وتوحيد، جسد وروح... إلى حدود الوجود واللا وجود أو النويز (Noise) كسديم غير منظم للخلق والإبداع (ميشيل سير).(49)
تجل آخر نلحظه من خلال الخط العربي (الخطية / الفن بصفة عامة). هذا الأخير يمكن وصفه بالإسراري؛ فهو يظهر ما يقول بالقدر الذي يخفيه، ينتقل من اللا مرئي إلى المرئي وعكسيا. ودون أن نصل إلى المستوى الصوفي في تجربته مع الحرف وكتابته، نبقى عند حدود الخطية ومظهرها. فما هو أثر الحرف كأثر حينما يظهر على سطح الورقة؟ إذا كان الإسلام ميتافيزيقيا يتأسس على الصوت فهو لا يذل الكتابة ولا ينظر إليها نظرة انحطاط وتبعية بل على العكس من ذلك وانطلاقا منها كما هي في القرآن الكريم، يمكن للأشكال الأخرى الفنية أن تتم وتعبر عن مقاصدها...وإذا كان الإسلام يحطم الأصنام ويرفض التجسيد، فإنه تحاشى الفن التصوري دون أن يحاشيه كلية ويفنيه.
فالخطية أو الكتبة (Calligraphie) التي تلائم وتوالي اللغة العربية وحروفها ، هي التي يسميها الخطيبي «خطية الجذور»(50) ويشبهها بتلك الشجرة الماليزية الضخمة، التي تعود فروعها خارج الجذع إلى الأرض وتنغرس فيه بكل ثبات واحتداد. خطية تجمع بين جذورها وفروعها،تنغرس عميقا في الأرض كما تعود إلى الانغراس بعد علوها بعيدا في الأرض...».(51) خطية تعكس لنا فجر الفن بعودتها إلى الجذور الأولى كالوشم. وتضع هنا كل محاولة تجسيدية على المستوى الفني أمام اختيارين هما: أولا تجسيد العالم من خلال نظرية الانعكاس؛ وثانيا اقتلاع مجموعة من الصور من الفراغ (ميتافيزيقا الفراغ).
إن محاولة تجسيد ما لا يجسد ورؤية ما لا يرى، هي مهمة الفن عامة والخطية على الخصوص «اللغة تحمي الجذور في حين تعمل الخطية على إبرازها وانبثاقها».(52)
وأخيرا كيف يمكن الحديث عن أنطولوجيا مؤجلة؟
إن بنية التأجيل والإبعاد ترفض الحضور والتحيين، فكيف أمكن الإمساك بملامح غلالة
الحرف والوجود؟ ذلك هو رهان عملنا هذا
. هوامش
(1)- هذا التأجيل سمة بارزة في كتابات الخطييبي و يكفي للبرهنة عليه ذكر هذه الإحالات
- هذا الفكر اللسني للحركة يقتضي معالجة تنظيرية وتصنيفية.
Maghreb pluriel, SMER DENOEL 1983, p. 182
- «كل شيء يبقى خاضعا للتأمل والتفكير: إنها أسئلة صامتة وثاوية في ذواتنا «. نفس المرجع ص. 12.
- «ما ينبغي (وهو واجب الفكر المغاير) هو توسيع حرية تفكيرنا وإدراج عدة اعتبارات استراتيجية في حواراتنا وإقصاء المطلقات اللاهوتية وهذا لا يكفي» . نفس المرجع ص، 33.
(2)- Cf. Maghreb Pluriel, Op. Cit, p. 23
- (3)عبد الكبير الخطيبي، المغرب المتعدد ، مرجع سابق، ص. 41 الهامش.
(4)-مفهوم نحت له تقريبا كل من اهتم بأعمال الخطيبي معنى خاصا: أنظر، محمد نور الدين أفاية في كتابه الهوية والاختلاف، إفريقيا الشرق ص. 85 و 109 . وكاظم جهاد في ترجمته للمصارع الطبقي، دار توبقال 1986 الهامش ص. 82. حيث يلاحظ هذا الأخير بأن المفردة intraitable تتمتع بمعان عدة فهي ما لا يمكن معالجته ولا تذويبه ولا احتواؤه ولا اختزاله، كما تعني المعاند والمتصلب وصعب المراس والمشاكس والحرون. ولا شك أن جميع هذه المعاني وفروقاتها الظلية يجب أن تكون موظفة هنا في القراءة.
(5)- A. Khatibi, J. Hassoun » le même livre «. col. L?Eclat, 1985, p. 34
(6)- A. Khatibi, Maghreb pluriel Op. Cit. P . 182.
(7)- Ibid, pp . 139 ? 140.
(8)- Ibid, p. 26
(8)- Ibid, p. 27
(9) - Ibid, p . 28.
(10)- Ibid, pp .32-33.
(11)- Ibid, p . 37.
(12)- Ibid, p . 134.
(13)- Ibid, p. 196
(14)- A. Khatibi, Maghreb pluriel, Op. Cit, p . 197
(15)-عبد الكبير الخطيبي، مفارقات / الصهيونية. بحث. دار الكلام ص. 143 ? نفس الخيال والهذيان بصدد كلمة
Lettre
والخطية والخيال في » le même livre « مرجع سابق ص .
(16) - عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة محمد بنيس، دار العودة، ص. 138.
(17) A. Khatibi, Maghreb pluriel Op. Cit, pp : 182 ? 183.
(18) ? عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج دار العودة بيروت 1980 ص، 10.
يشير الخطيبي بخصوص حالة المغرب بأن هذا الأخير يرتسم كأفق للفكر وفقا لثلاث تحولات أو لثلاث خطوط كبرى وهي:
-» التراثوية: [ونحن] نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى لاهوت تراثوية. ويشير اللاهوت هنا إلى فكر الواحد الأحد، الموجود كوجود أول وكعلة أولى».
- «السلفية: نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى مذهب سلفي؛ ويشير المذهب هنا إلى أخلاق سلوك سياسي وإلى تربية اجتماعية».
«العقلانية (السياسية، الثقافوية، التاريخانية والاجتماعية): نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى تقنية عقلانية؛ وتشير العقلانية هنا إلى تنظيم العامل بإرادة قوة جديدة تقوم على الوضعية العلمية». نفس المرجع، ص. 71-18.
( 19) - وهو اهتمام ستظل نتائجه مؤجلة إلى حين كما سنرى. ( 20)المرجع السابق ص. 29
(21) - المرجع السابق، ص. 23 ? 24.
(22) - عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج وتفكيك الميتافيزيقا ، مجلة فلسفة، ع 1 ، سنة 1992، ص. 31.
(23)- الخطيبي، النقد المزدوج، مرجع مذكور، ص . 36
( 24)-عبد السلام بن عبد العالي، دراسات في الفكر الفلسفي في المغرب، الخطيبي والفلسفة، حول إستراتيجية النقد المزدوج، دار الطليعة ، بيروت ، ص. 32.
(25) - مفارقات الصهيونية، مرجع سابق ، ص. 113.
(26) - يمكننا القول محاذين في ذلك قول ماسينيون «إن وجود العرب قد بدأ مع دموع هاجر» ذكره الخطيبي في المرجع السابق ص.117.
(27) جون كولر، الفكر الشرقي القديم. ترجمة كامل يوسف حسين، عالم المعرفة، ع 199 ص. 392.
(28) - للمزيد من التفاصيل، انظر المرجع السابق، ص. 285 وما يليها.
(29) - عبد الكبير الخطيبي، المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية، مرجع مذكور ص.: 10.
(30)- المرجع السابق، ص. 11.
(31) - عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج وتفكيك الميتافيزيقا ، مرجع مذكور ، ص. 29.
(32) - عبد الكبير الخطيبي ، النقد المزدوج ، مرجع مذكور، ص. 21.
(33)-وهي لازمة تكررت كثيرا في قصيدة المناضل الطبقي وتحديدا بالصفحات: 11-17-19-30-44-45.
(34) - ذكره محمد الزاهري في مقالته، «الخطيبي فكر الاختلاف وكتابة الجسد»، ضمن المناضل الطبقي، مرجع مذكور، ص.88
(35) - عبد الكبير الخطيبي ، النقد المزدوج، مرجع مذكور، ص. 32.
( 36)-عبد الكبير الخطيبي ، المناضل الطبقي، مرجع مذكور، ص.44
(37) - المرجع السابق، ص. 15.
(38) - نفس المرجع، ص. 19
(39)- محمد الزاهيري، «الخطيبي فكر الاختلاف وكتابة الجسد»، ضمن، المناضل الطبقي، مرجع مذكور، ص. 110.
(40) - محمد الزاهيري، نفس المرجع والصفحة.
(41) - عبد الكبير الخطيبي، «المناضل الطبقي»، نفس المعطيات ، ص. 100
( 42)-المرجع السابق، ص. 25.
(43)- Hassan Wahbi, Les mots de monde, Faculté des lettres, Agadir Ibn Zohr, 1995, p. 67.
(44)- Ibidem ; p. 128.
(45)- Ibid ; p, 156.
(46) - محمد نور الدين أفاية ، «الهوية والاختلاف»، مرجع سابق، ص .83.
(47) - عبد الكبير الخطيبي، «مفارقات الصهيونية»، مرجع مذكور ص. 16.
(48) - حسن وهبي، «كلمات العالم»، مرجع مذكور، ص.78.
( 49) ذكره حسن وهبي في نفس المرجع السابق، ص. 94.
(50) - يجب الرجوع إلى «الاسم العربي الجريح»:
- الوشم كتابة بالنقط
- الرسم الخطي؛ في هذا الإطار يجري الخطيبي تفكيكا مزدوجا: من جهة يفك مفهوم العلامة والدلالة كما بلوره التقليد الغربي منذ دوسوسير، ويفكك من جهة أخرى الخط العربي في علاقته الغامضة بالتصور الديني ويثبت تصورا عربيا فريدا من نوعه، هو ما حاولنا تلمس بعده الأنطولوجي هنا.
(51) A. Khatibi, Maghreb pluriel , Op. cit. p. 213.
(52) Ibid. p . 225.
«العقلانية (السياسية، الثقافوية، التاريخانية والاجتماعية): نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى تقنية عقلانية؛ وتشير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.