وحده فصل الدين عن الدولة، مكّن "العدالة والتنمية" و "أردوغان" من الوصول إلى الحكم. من قيادة بلد مكنهم من ذلك، في بلد قادت مؤسسة الجيش فيه، وعلى امتداد عقود طويلة، جزء مهما من تفاصيل ما يسمى ب (الديمقراطية) التركية قبل أردوغان، حدثت انقلابات كثيرة في تركيا، كما حدثت في السودان التي يرأسها "البشير" العسكري الإسلاموي، الذي ... تخلص بسرعة من "رفيق دربه" ومنظر حركته الانقلابية، الراحل "الترابي" ... تماما كما يفعل اليوم "أردوغان" مع رفيق دربه السابق "غولن". التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وما يسمى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي "يبث" فتاواه من "استديوهات قطر" برئاسة القرضاوي ومن معه، لم يفتوا في انقلاب البشير بالسودان، ولم يفتوا في تنكيل البشير برفيق دربه السابق ومعارضه الراحل "حسن الترابي" وسجنه عدة مرات... لم يفعلوا ذلك كما فعلوا مع "مسرحية" الانقلاب التركي الفاشل، الذي "أفتوا" بحرمانيته واعتباره من الكبائر.
في تركيا، كما في السودان، كما في كل جغرافيات الاستغلال السياسي للدين، تبقى الديمقراطية، مجرد "حديث ضعيف" يتم اللجوء إليه فقط، حين يكون "الإسلامويون" في موقع ضعف. حين يكتشفون أن اللعبة قد لا تكون في صالحهم ... مباشرة بعد زوال الخطر، تتحول الديمقراطية عندهم، إلى مرادف وحيد ل "الأغلبية" ول "الانتخابات" فقط لا غير.
لم يكن على أردوغان في النهاية، أن ينتظر طويلا. مباشرة بعد فشل "أقصر مسلسل في تاريخ (الدراما) التركية" الذي سمي محاولة انقلابية، عاد أردوغان ومن معه، للغتهم الأصل. عاد أردوغان... لمواصلة لعبته الأصل.
قبل "محاولة الانقلاب" عليه، كان أردوغان والعدالة والتنمية، وباسم الأغلبية، يغلقون المواقع الإخبارية، والقنوات التلفزية والإذاعية ويطردون القضاة ويفصلون المحققين والموظفين ورجال التعليم ويحاكمون الشباب المعارض ويواجهون المظاهرات بالعنف... بعد محاولة الانقلاب عليه... واصل أردوغان مسلسله لا يهم أردوغان في الأصل، أن يحاكم أو حتى أن ينتقم من الذين حاولوا الانقلاب عليه ما يهمه الآن... هو التخلص من معارضيه. كل معارضيه
قضاة، صحافيون، رجال تعليم، موظفون، معارضون... كل شيء ممكن باسم الانقلاب كل شيء قابل للتصفية
ما يقترفه أردوغان ومن معه اليوم بتركيا، أمر جيد في النهاية. أمر جيد، لأنه من جهة، يكشف عن عنوان قديم للإسلام السياسي، هو أن السلطة أسبق من الدولة، وأن الولاء للجماعة أسبق من الولاء للوطن، وأن الديمقراطية هي مطلب الجماعات السياسية الدينية، فقط حين تكون في موقف ضعف... حين تتسلط، لا مكان عندها سوى للجبرية. ... ما يقترفه أردوغان ومن معه اليوم، من تنكيل بالمعارضين (وليس الانقلابيين فقط) ومن منع صلاة الجنازة على مسلمين، وسجن واعتقال وطرد لمواطنين من وظائفهم... كل هذا، هو أمر مفيد لمن لا يزال يبحث في شوك الاستغلال السياسي للدين، عن قنفذ أملس. ... ما يقترفه أردوغان ومن معه اليوم، أمر مفيد، لأنه يقدم دليلا آخر، على فشل نموذج "التحكم" باسم الدين... لأنه سيدفع بتركيا نحو الحسم في هويتها الملغزة منذ عقود، والتقرير نهائيا في مصيرها، بين علمانية حملت الإسلاميين إلى الحكم، أو إسلاميين يعتبرون تصفية كل المعارضين، واجبا دينيا من أجل الحكم.
في النهاية... أضحكني كثيرا ما قاله رئيس الحكومة والعدالة التنمية في المغرب. بنكيران، قال ما معناه إن أردوغان لم يتعلم شيئا من الراحل الحسن الثاني بخصوص التعامل مع الانقلابيين ... ما فات بنكيران هنا، أن أردوغان، لم يتعلم بالتأكيد شيئا من الراحل الحسن الثاني، ولكن الأصل في الحكاية، أن... أردوغان والعدالة والتنمية (التركي) وكل فصائل الإسلام السياسوي وكل تعبيرات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين... لم يتعلموا شيئا من تاريخهم أصلا. لم يتعلموا أن الديمقراطية ليست "زواج متعة" ينتهي بإدراك اللذة/السلطة أن الديمقراطية... ليست مجرد تصويت وانتخابات وأغلبية... ما فات أردوغان وبنكيران و"عدالتيهما وتنميتيهما" ... أن التاريخ يقول ببساطة: إنه في الدول التي تفصل دينها عن سياستها، يمكن للإسلام السياسي أن يصل إلى الحكم وإنه... في جغرافيات الإسلام السياسي، لا مكان للغة حرية خارج ما يفعله أردوغان اليوم بمعارضيه
أمر مثير آخر حضرت بعض تفاصيله خلال مسرحية المحاولة الانقلابية في تركيا... بعض أنصار بنكيران وأردوغان ... لم يترددوا في الانتصار لكلمة أردوغان التي قال فيها: "من تدعمه الجوامع، لن تهزمه المدافع" بكل وعيهم... اعترفوا ببساطة هنا، أن السياسة التي يعرفون، هي تلك التي تستمد شرعيتها ووجودها من الجوامع/الدين أن... السياسة عندهم، تستعمل المقدس والمشترك
فقط... حين يكونون في موقف ضعف، سيقولون لنا، نحن لسنا جماعة دينية، ونحن لا نستغل الدين في السياسة فقط ... حين يكونون في موقف ضعف، يتذكرون أن الديمقراطية ليست كفرا، لأنها على الأقل، تسمح لهم بالوجود، بالمعارضة... بالوصول إلى الحكم
... ما يفعله أردوغان بالأتراك اليوم، هو أمر جيد رغم بشاعته هو فقط يذكرنا، بأن تركيا اليوم، عادت مع أردوغان لتحمل بكل بساطة، لقبها السابق الذي كان عنوان انهيار إمبراطورية العثمانيين... "الرجل المريض" الرجل المريض الذي ينتقم وينكل بمعارضيه... كي يقدم لهم في نفس الوقت، أجمل هدية كي يثبت لهم... أن الاستغلال السياسي للدين، هو المرض الذي أسقط إمبراطورية العثمانيين... وهو الذي سيسقط أردوغان والتنظيم العالمي للإخوان ... كي يثبت لهم، أن أشباه أردوغان... استطاعوا العيش ... والحكم، بفضل فصل الدين عن الدولة. لكن... أشباه أردوغان قطعا، لن يمنحوا... نفس الفرصة لخصومهم.