"حينما التحقت بالديوان، كنت أصغر عضو فيه، وجدت أمامي شخصيات تجر وراءها تاريخا من الممارسة السياسية، وعلى إلمام تام بالتقاليد المخزنية... لذا قضيت أشهرا أسمع وألاحظ ولا أتكلم إلا قليلا، كان هدفي أن أستفيد من خبرة هؤلاء في مستويات متعددة. كان عملهم منظما بشكل دقيق، وكنت أتابع تصرفاتهم بإمعان، كيف يتحدثون فيما بينهم؟ ثم كيف يتحدثون في لقاءاتهم مع جلالة الملك؟ لم يكن اندماجي في محيط الديوان الملكي أمرا سهلا، لقد كان ينظر إلى في بداية الأمر بعين الريبة. كنت أحس أنهم يتساءلون في أعماقهم: من أين جاء هذا الريفي، يقتحك أسوار الرباط...هم يعرفونني وزيرا في تشكيلات حكومية مختلفة، ولكن أن أخترق هذا المحيط الضيق والقريب من الملك، فذاك شأن آخر!".
هي عبارات دالة لبنعلي المنصوري، الوزير الذي شغل عدة مناصب وزارية في السبعينات قبل أن يصبح واحدا من أعضاء الديوان الملكي الذي دخل إليه في أكتوبر 1985، بعد أن سحب إسمه في آخر لحظة من لائحة حكومة المعطي بوعبيد المعدلة في نفس الوقت، بعد رفض أحمد عصمان لاستوزاره باسم حزبه التجمع الوطني للأحرار.
"الأيام" نشرت بشكل حصري أهم مضامين مذكرات المنصوري بنعلي المكلف بمهمة بالديوان الملكي، والتي سيتم نشرها عبر حلقات:
"حينما كنت وزيرا للنقل، صاحبت جلالة الملك في زيارة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. كانت زيارة طويلة في مدتها خلال هذه الزيارة لم تتجاوز إقامتي هناك سوى أسبوعين اثنين، في حين امتدت إقامة جلالة الملك لأيام أخر، تمت خلالها أنشطة متعددة، منها استقباله لممثلي الجالية اليهودية المغربية، الذي تم في مدينة نيويورك.
ومن الأشياء التي لفتت نظري في هذا اللقاء، صورة يهودية مغربية، أجهشت بالبكاء وهي تستمع إلى كلمة جلالة الملك التي ألقاها في هذا المجمع، والتي تضمنت الحض على إبقاء تلك الروابط التي تجمع بين هذه الجالية ووطنهم المغرب.
استقبل خلالها بعض رؤساء الدول الذين حضروا اجتماع الجمعية العامة لمنظمة الأممالمتحدة، وسفراء بعض الدول العربية، وكذا مجموعة من رجال الأعمال الأمريكيين، كان من بينهم دونالد ترامب Donald TRUMP الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية، خلال الفترة الممتدة من 2017 إلى 2021.
ولما كان الملك الحسن الثاني معتزا بأصالته المغربية، فإن مظاهرها تصاحبه أينما حل وارتحل من ذلك، ما تبدى لي في هذه الزيارة إلى الديار الأمريكية، حيث كانت إقامتنا في أحد فنادق مدينة نيويورك. لكن داخل هذا الفندق وفي الجناح المخصص لجلالة الملك، تشعر وكأنك في وطنك، بما يحيط بهذا الجناح من طقوس مغربية صرف، بدءا من نظام التغذية المتبع فالطباخون مغاربة ويشكلون أحد عناصر الوفد المرافق للملك، ويُخصص الفندق جانبا داخل مطبخه للطباخين المغاربة، الذين يتفننون في تهييء أطعمة مغربية للملك والوفد المرافق له.
كان الملك الحسن الثاني عاشقا ل"العود" وما يفوح منه من رائحة عطرة، وما يُشيعه في الفضاء من نفس له في النفس دبيب، دون أن يغيب عنا ما يضفيه هذا البخور من أجواء روحانية على الفضاء الذي ينتشر فيه.
ذات ليلة حوالي الساعة الواحدة صباحا، ونحن في الصالون مع الملك الحسن الثاني، عمل المكلفون من المخازنية على إطلاق بخور "العود"، وطبيعي أن سحابة من الدخان ستتصاعد بطيبها إلى الأعلى. فإذا بأجهزة الإنذار في الفندق تطلق صغيرها. تحركت إدارة الفندق بسرعة على أساس أن هناك حريق شب في أحد الأجنحة. هرع رجال المطافئ إلى المكان، كل هذه الجلبة، ونحن في جناحنا، حتى إذا تصاعد الضجيج انتبهنا إلى ما يجري.
لقد تبين أن سحابة "العود"، وما تصاعد من دخان كان سببا في إطلاق جهاز الإنذار ضد الحرائق ذلك الصفير الذي استنفر إدارة الفندق، وتم استدعاء رجال الوقاية المكلفة بإطفاء الحرائق! وأدت هذه الحركة إلى خروج من كان بداخل غرف الفندق للاستطلاع. ما كانت حرائق! إنما هو عطر عود تعالى في جناح ملكي، بأحد فنادق نيويورك!".