الكثير منا يعتقد أن الصين تقف على الحياد إن لم يكن يؤمن أن الصين تدعم قضايانا الوطنية والتحررية في مواجهة الغطرسة الصهيو- أمريكية، أو يؤمن أنها يمكن أن تكون بديلا مناسبا للنظام الغربي المهيمن والظالم. لكن الدكتورة رازان شوامرة الأكاديمية الفلسطينية المتخصصة في الشأن الصيني، لها رأي آخر يناقض كل هذه القناعات، وما تقدمه من معطيات ومعلومات كفيل بأن يغير قناعات الكثيرين فيما يتعلق بالصين كدولة تنافس الغرب اقتصاديا وعسكريا.
فالعلاقة بين الصين وإسرائيل ليست هامشية، بل هي علاقة تعاون استراتيجي يمتد في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والدفاع. وهي علاقة تشي بتحالف صامت يتجاوز المصالح الظرفية، ليشارك في إعادة تشكيل النظام الدولي الذي يُراد أن تتزعم فيه الصين المشهد العالمي كبديل للولايات المتحدة.
والمفارقة أن هذا السيناريو يشبه ما فعلته إسرائيل من قبل، حين غيّرت تحالفها من بريطانيا – الدولة التي منحتها وعد بلفور ومهّدت لقيامها – إلى الولاياتالمتحدة التي ورثت موقع الإمبراطورية البريطانية في النظام الدولي. واليوم، يبدو أن إسرائيل تستعد لسيناريو مشابه مع الصين، تحسبًا ليوم تتراجع فيه واشنطن عن عرش القوة.
بينما يرى كثيرون في الصين قوة صاعدة تقف على الحياد في الصراعات الدولية، تكشف وثائق ومواقف تاريخية أن علاقتها بالحركة الصهيونية تعود إلى بدايات القرن العشرين. فالصين – التي تُقدَّم اليوم كبديل محتمل للهيمنة الأمريكية – قدّمت دعمًا مبكرًا لمشروع إقامة وطن قومي لليهود، فيما وصفته الأكاديمية الفلسطينية الدكتورة رزان شوامرة ب "وعد بلفور الصيني"، وذلك خلال لقائها ضمن برنامج قدمته قناة "عربي بوسط، تحت عنوان: ما لا يروى عن علاقة الصين بالصهيونية! الوجه الحقيقي لموقف الصين من فلسطين | بودكاست عربي بوست، قبل عدة أشهر.
فما حقيقة هذا الدعم؟ وكيف تحوّل إلى شراكة استراتيجية في الحاضر؟
في عام 1920، بعث عزرا خضوري، رئيس جمعية شنغهاي الصهيونية، رسالة إلى صن يات-سين، أول رئيس لجمهورية الصين، يطلب فيها تأييد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مستندًا إلى وعد بلفور البريطاني عام 1917.
وردّ صن يات سين برسالة مشجعة، وصف فيها الحركة الصهيونية بأنها "إحدى أعظم الحركات في عصرنا"، وأشاد بمسعاها لإحياء "أمة يهودية عريقة أسهمت في الحضارة الإنسانية". هذا الموقف، كما تصفه شوامرة، يمثل أول اعتراف رسمي صيني بالحركة الصهيونية، ومن هنا جاء وصفها له ب "وعد بلفور الصيني".
دعم ميداني وتمويل مبكر
في عشرينيات القرن الماضي، افتُتحت مكاتب صهيونية في الصين، وفي الأربعينيات طلب مردخاي أولمرت – والد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت – دعماً مالياً وعسكرياً من مسؤولين صينيين.
وبحلول عام 1947، تلقت الحركة الصهيونية تمويلاً من الصين، وأُرسلت مجموعات يهودية مدربة عسكريًا من الصين إلى فلسطين بأسلحة زوّدهم بها عسكريون صينيون.
هذه الوقائع تشير إلى أن الصين لم تكن مجرد متفرج على الأحداث، بل شريك فاعل في تأسيس الكيان الصهيوني والمأساة التي تلت ذلك عام 1948.
الصين والكيان بعد نكبة غزة بعد قرن تقريبًا، تعود المؤشرات لتكشف استمرار التعاون، فخلال الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر 2023، ذكرت الدكتورة شوامرة أن الصين صدّرت ما قيمته 19 مليار دولار من الموارد إلى الكيان الصهيوني، متجاوزة الدعم الأمريكي المعلن (9 مليارات دولار).
هذا الدعم الاقتصادي الضخم، في ذروة العدوان، ينسف الصورة المتداولة عن "الحياد الصيني" أو "التعاطف مع الفلسطينيين"، ويُظهر أن بكين تسعى لتغذية السوق الإسرائيلية حتى أثناء الحرب. استثمارات في المستوطنات.
بحسب تقرير صادر عن الأممالمتحدة، توجد عشر شركات صينية، ثمانٍ منها حكومية، تعمل داخل المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية.
من بين أبرز هذه الاستثمارات:
شركة تنوفا (56% منها مملوك للصين) التي تبيع أكثر من 70% من منتجاتها داخل المستوطنات. مشروع 22 خط مواصلات بين مستوطنات القدس ومدن الكيان، فازت به شركات صينية عام 2021. استحواذ الصين على شركة "أهافا" لمستحضرات التجميل رغم موقعها في مستوطنة بالأغوار. تمويل قدمته شركة "ها آدما" الصينية لمستوطني غلاف غزة خلال الحرب الأخيرة. كل هذه المعطيات تكشف أن الصين ليست مجرد شريك اقتصادي للكيان، بل مستثمر في منظومته الاستيطانية.
تعاون تكنولوجي وخطاب سياسي منحاز تُعد إسرائيل اليوم شريكًا تكنولوجيًا أساسيًا للصين، حيث تمتلك خمس ممثليات داخلها، إضافة إلى حرم جامعي ومراكز أبحاث مشتركة.
أما سياسيًا، فتبنّت بكين خطابًا متقاطعًا مع الرواية الصهيونية، متجنبة توصيف الاحتلال أو الإبادة. وفي نوفمبر 2024، كتب السفير الصيني في إيلات المحتلة مقالًا يتحدث فيه عن "فصل جديد من التعاون بين الصين وإسرائيل".
اللافت أنه دان عملية 7 أكتوبر دون أي إشارة إلى جرائم غزة أو جذور الصراع الاستعماري.
الحياد المنحاز
منذ تطبيع العلاقات عام 1992، تنتهج الصين سياسة "الحياد المنحاز"، فتتحدث عن "أمن الطرفين" وتتجنب لوم الاحتلال.
في مقترحها ذي النقاط الخمس عام 1989، تجاهلت القانون الدولي الذي يُحمّل الكيان مسؤولية حماية المدنيين، وركّزت بدلًا من ذلك على "ضمان الأمن المتبادل".
كما أنها تتجنب دعم إيران أو المقاومة الفلسطينية خشية إغضاب واشنطن، ما يؤكد أن مصالحها الاستراتيجية تتقدم على أي التزام أخلاقي.
خلاصة:
خلافًا للانطباع السائد عربيًا بأن الصين داعمة للقضية الفلسطينية أو تقف على الحياد، تُظهر الوقائع أن العلاقة بين الصين والحركة الصهيونية قديمة ومتجددة: من "وعد بلفور الصيني" عام 1920، مرورًا بالدعم العسكري قبيل نكبة 1948، وصولًا إلى الاستثمارات في المستوطنات وتجاهل جرائم غزة. تسعى بكين اليوم لأن تحل محل واشنطن في قيادة النظام الدولي، فيما تراهن إسرائيل على الحليف الصاعد كما راهنت من قبل على بريطانيا ثم أمريكا. إنه تحالف مصلحي جديد، تتبدل فيه الوجوه لكن يظل الثمن الباهظ يُدفع من قبل مُلاَّك الأرض العربية ومقاومتها الباسلة.