ترامب يطلق إجراءات لتصنيف جماعة الإخوان "منظمة إرهابية"    إقليم سطات .. العثور على جثة داخل أحد الآبار    مرشح لرئاسة "الإنتربول" يشيد بالنجاحات المتتالية في التجربة المغربية    برادة: أتولى ممارسة المسؤولية الحكومية في احترام تام للمساطر القانونية    الشرطة القضائية توقف إلياس المالكي بالجديدة    السودان.. قوات الدعم السريع تعلن هدنة إنسانية من طرف واحد لثلاثة أشهر    المنتخب البرتغالي يتخطى البرازيل ويتأهل لنهائي مونديال الناشئين    إدارة السجن المحلي العرجات 1 تنفي دخول السجين محمد زيان في إضراب عن الطعام    بنسعيد : الحكومة لا يحق لها التدخل في شؤون مجلس الصحافة    وفد إماراتي يحل بالحسيمة لبحث فرص الاستثمار السياحي    الPPS يرفع مذكرته إلى الملك لتحيين مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية    إخفاق 7 أكتوبر يعصف بكبار قادة الجيش الإسرائيلي    إضراب وطني يشل بلجيكا ويتسبب في إلغاء رحلات جوية    الرئيس النيجيري يعلن تحرير 38 مختطفا من إحدى الكنائس    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    "اتحاد حماية المستهلكين" يوضح بشأن سلامة زيت الزيتون المغربي    انتخاب سفير المغرب في المملكة المتحدة نائبا لرئيس الدورة ال34 لجمعية المنظمة البحرية الدولية    "تشويه لسمعة البلاد".. بووانو ينتقد تسريبات "لجنة الصحافة" ويتهم الحكومة ب"الشطط"    المنصوري: إعادة بناء أزيد من 53 ألف منزل في المناطق المتضررة من زلزال الحوز    طلبة "العلوم التطبيقية" بأكادير يعتصمون وملفات التحرش والابتزاز تُعاد إلى الواجهة    "لبؤات القاعة" يحصدن أول إنتصار في المونديال أمام الفلبين    سلا .. بنعليلو يدعو إلى ترسيخ ثقافة تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد    أول رد رسمي على "تسريبات المهداوي".. بنسعيد يرفض الإساءة للأخلاق التدبيرية    تداولات إيجابية لبورصة الدار البيضاء    الرباط : افتتاح الدورة التاسعة لمنتدى شمال إفريقيا لحكامة الأنترنت    تعزيز الدبلوماسية البرلمانية في صلب مباحثات الطالبي العلمي ونظيره الكازاخستاني    عقد أولى جلسات محاكمة المتهم في قضية مقتل الفنان "سوليت" بالحسيمة    بنعلي : إفريقيا مطالبة بحماية مواردها وتحويل ثرواتها الجيولوجية لتنمية مستدامة    معركة الاستراتيجيات والطموحات – هل يستطيع برشلونة اختراق دفاع تشيلسي؟    حكيمي يطمئن المغاربة: عدت أقوى... والكان هدف أمامي        الرّمادُ والفَارسُ    محمد صلى الله عليه وسلم في زمن الإنترنت    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ميناء الحسيمة : انخفاض نسبة كمية مفرغات الصيد البحري    دراسة علمية تشير لإمكانية إعادة البصر لمصابي كسل العين        ألونسو: هذه هي الكرة حققنا بداية جيدة والآن النتائج لا تسير كما نتمنى    سيناتور يمينية متطرفة ترتدي "البرقع" بمجلس الشيوخ الأسترالي وتثير ضجة بالبرلمان    إسرائيل ترفع تأهب الدفاع الجوي غداة اغتيالها قياديا ب"حزب الله".. وتستعد لردود فعل    تسوية قضائية تُعيد لحمزة الفيلالي حريته    وفاة الممثل الألماني وأيقونة هوليوود أودو كير عن 81 عاماً    احتجاجات صامتة في الملاعب الألمانية ضد خطط حكومية مقيدة للجماهير    تتويج أبطال وبطلات المغرب للدراجات الجبلية في أجواء ساحرة بلالة تكركوست    مملكة القصب " بمهرجان الدوحة السينمائي في أول عرض له بشمال إفريقيا والشرق الأوسط    المخرج ياسر عاشور في مهرجان الدوحة السينمائي يتحدث عن فيلم "قصتي" حول الفنان جمال سليمان:    لجنة الأفلام في مدينة الإعلام – قطر تُبرم شراكة مع Parrot Analytics لتعزيز استراتيجية الاستثمار في المحتوى    من الديون التقنية إلى سيادة البيانات.. أين تتجه مخاطر الذكاء الاصطناعي؟    تحديد ساعات التدريس من منظور مقارن        دراسة: استخدام الأصابع في الحساب يمهد للتفوق في الرياضيات    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
نشر في الأيام 24 يوم 21 - 11 - 2025


Getty Images
في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1694 وُلد فولتير، واسمه الحقيقي فرانسوا-ماري أرويه، ويعتبر أحد أعمدة عصر التنوير الأوروبي، ورمز من رموز الدفاع عن العقلانية والحرية والتسامح.
وُلد وسط قيود سياسية ودينية خانقة، لكنه اختار منذ شبابه أن يجعل من قلمه سلاحاً يواجه به التعصب والجمود، ولم يكن مجرد كاتب بارع أو صاحب أسلوب ساخر، بل كان مشروعاً فكرياً كاملاً يقف في صف الحرية والعقل، ويصرّ على أن الكلمة قادرة على فضح الاستبداد مهما اشتدّت قبضته.
وأمضى فولتير حياته بين السجون والمنافي والمحافل الفكرية، لكنه لم يتراجع يوماً عن معاركه لأجل التسامح وحقوق الإنسان، وحين عاد إلى باريس في أواخر أيامه، كان قد أصبح أيقونة ثقافية تعترف بعظمتها أوروبا كلها.
* أكاديمي بريطاني يعثر على رسائل لفولتير بالإنجليزية
* حقائق عن فرنسا
البدايات
تقول دائرة المعارف البريطانية إنه وُلِد في أسرة من الطبقة الوسطى، ولم يكن يحمل أي مودة لوالده الذي كان يعمل موثقاً في وقت من الأوقات، وعمل لاحقاً في ديوان الحسابات، ولا لشقيقه الأكبر أرمان، وهو يكاد لا عرف شيء عن والدته التي لم يتحدث عنها كثيراً بعد أن فقدها وهو في السابعة من عمره. ويبدو أنه أصبح متمرداً في وقت مبكر على سلطة الأسرة.
وتلقى فولتير تعليماً جيداً إذ التحق بمدرسة اليسوعيين "لويس لوغران" حيث تلقى تعليماً كلاسيكياً في اللغات والأدب، وهو تعليم سيظهر أثره لاحقاً في براعته البلاغية وشغفه بالسخرية.
ورغم تقديره للذوق الكلاسيكي الذي غرسته فيه الكلية، فإن التعليم الديني الذي قدّمه الآباء لم يثر في نفسه إلا الشك والسخرية. وقد شهد السنوات الأخيرة من حكم لويس الرابع عشر، ولم ينسَ أبدا الكوارث الاقتصادية والعسكرية لعام 1709 ولا فظائع الاضطهاد الديني. ومع ذلك، احتفظ بدرجة من الإعجاب بالحاكم، وبقي مقتنعاً بأن الملوك المستنيرين هم الوكلاء الضروريون للتقدم.
ومع أن أباه كان يرغب في أن يصبح محامياً، اتجه فولتير منذ شبابه نحو الأدب والكتابة الساخرة، فقرر عدم دراسة القانون بعد مغادرته الكلية. وعندما عمل سكرتيراً في السفارة الفرنسية في لاهاي، وقع في غرام ابنة مغامر، ولخوفه من فضيحة، أعاده السفير الفرنسي إلى باريس.
Getty Imagesبورتريه لفولتير أثناء دراسته
وفي باريس ارتاد محافل المفكرين الأحرار، وكان مصدر السخرية والفكاهة في المجتمع الباريسي، وكانت أقواله الطريفة تُنقل على نطاق واسع، لكن عندما تجرأ على السخرية من الوصي على العرش ، دوق أورليان، اعتُقل وأُرسل إلى سجن الباستيل في عام 1717.
وكان السجن بالنسبة إليه تجربة قاسية لكنها محورية، ففيه أدرك أن الكلمة قد تصبح خطراً على صاحبها، لكنه لم يتراجع، بل ازداد قناعة بأن قلمه يجب أن يكون أداة لمحاسبة السلطة.
وخلف واجهته البشوشة، كان فولتير جاداً في جوهره، وكرّس نفسه لتعلّم الأدب.
وفي عام 1718، بعد نجاح مسرحيته الأولى "أوديب"، حظي بالإشادة كخليفة للمسرحي الكلاسيكي الكبير جان راسين، ومنذ ذلك الحين اعتمد اسم "فولتير"، ولا يزال أصل هذا الاسم المستعار غير مؤكد.
وإلى جانب الأدب كان يُعد فيلسوفا، وأعلن عن إلحاده في صالونات المثقفين، مما أثار فضول وصدمة المتدينين.
وأصبح مهتما بإنجلترا، البلد الذي كان يتسامح مع حرية الفكر، وزار زعيم التوريين (المحافظين)، فيسكُنت بولينغبروك، المنفي في فرنسا، وهو سياسي وخطيب وفيلسوف كان فولتير يعجب به إلى درجة أنه قارن بينه وبين شيشرون، وبتوجيه من بولينغبروك، تعلم اللغة الإنجليزية ليتمكن من قراءة الأعمال الفلسفية لجون لوك.
وتعزز تطوره الفكري نتيجة حادث، فبعد شجار مع أحد أعضاء إحدى الأسر الفرنسية البارزة، والذي سخر من اسمه، تعرّض للضرب، وأُخذ إلى سجن الباستيل، ثم نُقل إلى كاليه في 5 مايو/ آيار من عام 1726، ومنها انطلق إلى لندن.
في إنجلترا
Getty Images
وكانت هذه الرحلة نقطة تحول جذرية في حياته الفكرية، وهي واحدة من أهم المحطات التي تذكرها دائرة المعارف البريطانية، فقد رأى فولتير في إنجلترا مجتمعاً مختلفاً تماماً عن فرنسا حيث وجد نظاماً سياسياً ملكياً لكنه محدود بمؤسسات قوية، ووجد برلماناً يناقش ويختلف ويتخذ قرارات، ووجد صحافة أكثر حرية، ووجد قدراً ملحوظاً من التسامح الديني مقارنة بفرنسا الكاثوليكية المتشددة.
وخلال إقامة دامت أكثر من عامين، نجح فولتير في تعلم اللغة الإنجليزية، فكتب مذكراته بها، وظل قادراً على التحدث والكتابة بها بطلاقة حتى نهاية حياته.
وقد التقى بأدباء إنجليز مثل ألكسندر بوب، وجوناثان سويفت، وويليام كونغريف، وبفلاسفة مثل جورج بيركلي، كما التقى اللاهوتي صموئيل كلارك. ورغم أنه حظي في البداية برعاية بولينغبروك بعد عودته من المنفى، إلا أنه يبدو أنه دخل في خلاف مع زعيم التوريين، فتوجه إلى السير روبرت والبول والليبراليين.
وأعجب فولتير بالليبرالية التي تتميز بها المؤسسات الإنجليزية، وكان يغار من جرأة الإنجليز في مناقشة القضايا الدينية والفلسفية، وكان مقتنعاً بأن الإنجليز، لا سيما السير إسحاق نيوتن وجون لوك، في طليعة الفكر العلمي بسبب حريتهم الشخصية.
كما اعتقد أن الأمة الإنجليزية التي تتكون من التجار والبحارة مدينّة بانتصاراتها على لويس الرابع عشر لمزاياها الاقتصادية، وخلص إلى أن فرنسا حتى في الأدب يمكنها أن تتعلم شيئاً من إنجلترا، فقد كانت تجربته مع المسرح الشكسبيري مذهلة حيث أُعجب بطاقة الشخصيات وقوة الحبكات الدرامية.
وعندما عاد فولتير إلى فرنسا في نهاية عام 1728 أو بداية عام 1729، قرر تقديم إنجلترا كنموذج لمواطنيه، وقد تعزز موقعه الاجتماعي بعد العودة، وبدأ ببناء ثروة هائلة ضمنت له الاستقلال المالي.
وحاول إحياء المسرح التراجيدي من خلال تقليد شكسبير بشكل دقيق وحذر، وكان ذلك في مسرحية "بروتوس"، التي بدأ كتابتها في لندن وأرفقها برسالة إلى ميلورد بولينغبروك،و لم تحقق هذه المسرحية سوى نجاحاً محدوداً في عام 1730، أما "موت قيصر" فعُرضت فقط في إحدى الكليات عام 1735.
ومع ذلك، حققت مسرحية "ألزاير" نجاحا باهراً، فقد أسرت المسرحية، التي يقوم فيها الحاكم أوروسمان بطعن سجينه المسيحي "ألزاير" بدافع الغيرة، الجمهور بموضوعها الغريب والمثير، و تدور أحداث المسرحية في ليما ببيرو زمن الغزو الإسباني.
وفي الوقت نفسه، اتجه فولتير إلى نوع أدبي جديد وهو التاريخ، ففي لندن تعرف على فابريس، وهو رفيق سابق للملك السويدي شارل الثاني عشر، وكان اهتمامه بالشخصية الاستثنائية لهذا الجنرال الكبير دافعاً له لكتابة سيرة"تاريخ شارل الثاني عشر" في عام 1731، وهو سرد تاريخي موثق بعناية، يُقرأ بأسلوب يشبه الرواية.
"الرسائل الفلسفية"
وكان فولتير كاتباً غزير الإنتاج، وقد بدأت الأفكار الفلسفية تفرض نفسها أثناء كتابته حيث جلبت مآثر ملك السويد الخراب، في حين أن منافسه بطرس الأكبر أسس روسيا، تاركاً وراءه إمبراطورية واسعة ومتحضرة، فالرجال العظماء ليسوا محاربين فحسب، بل يعززون الحضارة، وهو استنتاج يتوافق مع مثال إنجلترا.
* روسيا وأوكرانيا: من هو بطرس الأكبر الذي "يسير بوتين على نهجه"؟
Getty Images
وكان هذا الخط الفكري ما حققه فولتير بعد تأمل طويل في عمل قصير حاد الذكاء وهو "الرسائل الفلسفية" في عام 1734، فهذه الرسائل الخيالية هي في الأساس برهان على الآثار الحميدة للتسامح الديني، وتُقارن بين علم النفس التجريبي لجون لوك وبين التأملات الافتراضية لرينيه ديكارت.
وبعد أن قام بشرح النظام السياسي الإنجليزي، وتجاره، وأدبه، وشكسبير شبه المجهول في فرنسا، اختتم فولتير بهجوم على عالم الرياضيات والفيلسوف الديني الفرنسي باسكال، فغاية الحياة ليست بلوغ السماء عبر التوبة، بل ضمان السعادة لجميع البشر من خلال التقدم في العلوم والفنون.
وبات هذا الكتاب الصغير اللامع يشكّل علامة فارقة في تاريخ الفكر، فهو لا يجسّد فلسفة القرن الثامن عشر فحسب، بل يحدّد أيضاً الاتجاه الأساسي للعقل الحديث.
وتبع نشر هذا العمل الذي تحدّث بصراحة ضد المؤسسة الدينية والسياسية فضيحة كبيرة، وعندما صدرت مذكرة اعتقال بحقه في مايو/ آيار من عام 1734، لجأ فولتير إلى قصر مدام دو شاتليه في سيريه بمنطقة شامبانيا، وبدأت عندئذ علاقته بهذه المرأة الشابة والذكية بشكل استثنائي، وعاش معها في القصر الذي جدد بناؤه على نفقته الخاصة.
وكانت مدام دو شاتليه مولعة بالعلوم والميتافيزيقا، وقد أثرت على أعمال فولتير في هذا الاتجاه، فقد تم إنشاء "معرض" أو مختبر للعلوم الطبيعية في القصر، وكتبا مذكرة عن طبيعة النار لاجتماع الأكاديمية الفرنسية للعلوم.
وبينما كانت مدام دو شاتليه تتعلم اللغة الإنجليزية لترجمة أعمال نيوتن وكتاب "حكاية النحل" لبيرنار دو ماندفيل، قام فولتير بتعميم تلك الاكتشافات العلمية الإنجليزية التي لم تكن معروفة إلا لقلة من العقول المتقدمة في فرنسا في كتابه "عناصر فلسفة نيوتن" في عام 1738.
وفي الوقت نفسه، واصل متابعة دراساته التاريخية، فبدأ كتاب "قرن لويس الرابع عشر"، ورسم مخطوطاً لتاريخ شامل للملوك والحروب والحضارة والعادات، والذي أصبح فيما بعد "مقال عن الأخلاق". وشرع أيضاً في تفسير النصوص الدينية، ففي سيريه، اكتسب فولتير، أثناء صقل معرفته العلمية، الثقافة الموسوعية التي كانت إحدى أبرز سمات عبقريته.
ومع ذلك، لم يكن فولتير بمنأى عن خيبات الأمل، فقد كان لويس الخامس عشر يكرهه، وكانت الفئة الكاثوليكية المتدينة في البلاط معادية له بشدة.
Getty Images
وكان فولتير متهوراً، فعندما خسرت مدام دو شاتليه مبالغ كبيرة على طاولة القمار الخاصة بالملكة، قال لها بالإنجليزية: "أنتِ تلعبين مع المحتالين"، وفُهمت العبارة، فاضطر للاختفاء في قصر ريفي ضيفاً عند دوقة مين في عام 1747.
وبسبب مرضه وإرهاقه من حياته المليئة بالقلق والاضطراب، اكتشف أخيراً الشكل الأدبي الذي يناسب طبعه الحيوي، فكتب حكاياته القصصية "رؤية بابوك" (1748) و"ميمنون" (1749)، واللتان تجادلان التفاؤل الفلسفي لغوتفريد فيلهلم لايبنتز وألكسندر بوب، و"زاديغ" (1747) وهي نوع من السيرة الذاتية الرمزية، فمثل فولتير، يعاني الحكيم البابلي زاديغ الاضطهاد، ويطارده سوء الحظ، وينتهي به المطاف بالشك في العناية الإلهية، كما كتب في عام 1752 "ميكروميغاس" التي تتناول صغر الإنسان مقارنة بالكون.
* ألبير كامو: أديب نوبل الذي وُلد في الجزائر، وتحدثت فلسفته عن عصرنا الحالي
وكانت الأزمة الكبرى في حياته تقترب، ففي عام 1748 في كوميرسي، حيث انضم إلى بلاط ستانيسواف (ملك بولندا السابق)، اكتشف علاقة الحب بين مدام دو شاتليه والشاعر سانت لامبرت، وهي علاقة عاطفية انتهت بشكل مأساوي. وفي 10 سبتمبر/ أيلول من عام 1749، شهد وفاة هذه المرأة النادرة الذكاء أثناء الولادة، والتي كانت على مدى 15 عاماً مرشدة له ومستشارته، فعاد في حالة يأس إلى باريس حيث المنزل الذي عاشا فيه معا، فكان ينهض في الليل ويتجول في الظلام مناديا باسمها.
بعد وفاة مدام دو شاتليه، غادر إلى بروسيا بدعوة من فريدريك الأكبر، لكن إقامته هناك سرعان ما تحولت إلى سلسلة من الصدامات مع علماء البلاط ومع الملك نفسه، مما دفعه إلى الرحيل عام 1753 ليستقر أولا في جنيف في سويسرا، ثم في قريته الشهيرة "فيرني" قرب الحدود السويسرية.
وفي فيرني، عاش حياة شبه مستقلة عن السلطة الفرنسية، وتحوّل منزله هناك إلى ملتقى للفلاسفة والمفكرين والهاربين من الاضطهاد الديني حيث أصبح أشبه بمركز ثقافي قبل وجود مفهوم المراكز الثقافية الحديثة.
وفي تلك المرحلة، كان يكتب رسائل يومية تقريبا يناقش فيها السياسة والدين والفلسفة والتاريخ، ويصف بعض الباحثين تلك المرحلة بأنها العصر الذهبي لفولتير، لأنه كان حراً لأول مرة من أي رقابة مباشرة.
وخلال العقود التالية حتى وفاته عام 1778، كتب فولتير أهم أعماله الفلسفية والتاريخية، من بينها "كانديد"، و"القاموس الفلسفي"، وتوغل في كتابة التاريخ العالمي من عهد لويس الرابع عشر إلى عصر بطرس الأكبر، لكنه اشتهر أكثر بنضاله ضد الظلم والتعصب، إذ قاد حملات كبرى لإنصاف ضحايا الاضطهاد الديني مثل عائلة كالاس وسيرفَن، ليصبح في نظر الأوروبيين "ضمير عصر التنوير" بحق.
الوفاة والإرث
عندما عاد فولتير إلى باريس في عام 1778 بعد غيابٍ دام نحو 28 عاما، استقبله الناس استقبال الأبطال حيث امتلأت الشوارع بالمحتفلين، وظهرت عربة فولتير محاطة بجماهير تصفق له كأنه بطل سياسي لا مجرد كاتب.
لكن هذه العودة كانت قصيرة، إذ توفي بعد أشهر قليلة في 30 مايو/ آيار من عام 1778، وقد رفضت الكنيسة دفنه في مقابر باريس بسبب مواقفه من رجال الدين، فدُفن مؤقتاً خارج المدينة، ثم نقلت رفاته لاحقاً إلى "البانثيون"، حيث دُفن العظماء الذين ساهموا في تشكيل الوعي الفرنسي.
Getty Images
من خلال المسرحيات والروايات والمقالات والرسائل، قدّم فولتير رؤية فلسفية واضحة تقوم على العقلانية ورفض الخرافة، وعلى ضرورة الفصل بين السلطة الدينية والسياسية، وعلى إعلاء قيمة التسامح.
* وفاة الكاتب والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي
* عبد الرحمن الكواكبي: قصة صاحب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"
وتصف دائرة المعارف البريطانية فولتير بأنه لم يكن يبحث عن الحقيقة الفلسفية المطلقة بقدر ما كان يبحث عن الدفاع عن الإنسان العادي، فقد كان يعتبر الحرية مسألة مركزية، وكتب مراراً أن حرية التعبير هي أساس كل الحريات، وأن المجتمع الذي يخاف فيه الناس من الكلام هو مجتمع مهدد بالانهيار.
كما كان يدعو إلى إصلاح القضاء ويرفض العقوبات الوحشية التي كانت سائدة في عصره، وتُعد قضية "كالاس" أحد أبرز المواقف العملية لفولتير، فقد اتُهم جان كالاس، وهو بروتستانتي فرنسي، بقتل ابنه لمنعه من اعتناق الكاثوليكية، وحُكم عليه بالإعدام ظلما، وأثارت القضية غضب فولتير، فخاض حملة شرسة استمرت 3 سنوات، كتب خلالها عشرات الرسائل والمقالات التي فضحت التعصب الديني وسوء نظام القضاء، وانتهت الحملة بإعادة فتح القضية وتبرئة الأب لكن بعد وفاته.
ويمتد إرث فولتير اليوم إلى كل حديث عن حرية التعبير، وعن ضرورة حماية الفرد من سلطة الدولة أو سلطة الدين حين تتحولان إلى أدوات قمع، وبهذا المعنى، فإن إرث فولتير لم يكن مجرد أعمال أدبية أو رسائل نقدية، بل روحاً من الشجاعة العقلانية التي مهدت لثورات وتحوّلات كبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه على الرغم من أن عدداً قليلاً فقط من أعماله لا يزال يُقرأ اليوم، فإنه ما يزال يحتفظ بسمعة عالمية بوصفه مناضلاً شجاعاً ضد الطغيان والتعصب والقسوة، ومن خلال قدرته النقدية وروحه الساخرة وحسّه الفكاهي، نشر فولتير بقوة فكرة التقدم التي ظلّت الشعوب من مختلف الأمم تتجاوب معها، وقد امتدت حياته الطويلة عبر السنوات الأخيرة من العصر الكلاسيكي وحتى عشية العصر الثوري، وفي هذا الزمن الانتقالي أثرت أعماله وأنشطته في المسار الذي اتخذته الحضارة الأوروبية.
* كيف عصف الشتاء الروسي القارس بإمبراطورية نابليون بونابرت؟
* هل أسلم نابليون بونابرت سرا في مصر؟
* تعرّف على القديسة المراهقة التي قادت جيوش فرنسا وألهمت الحركات السياسية والنسائية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.