في تطور لافت للمشهد في منطقة البحيرات الكبرى، لم تُمهل الوقائع اتفاقيات السلام الموقعة في واشنطن سوى أيام قليلة قبل أن تتبدد آمال التهدئة. فبرعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جمعت العاصمة الأمريكية قادة رواندا والكونغو الديمقراطية في ديسمبر 2025 على طاولة واحدة، بهدف طي صفحة نزاع مسلّح استمر لأكثر من ثلاثة عقود شرق الكونغو.
الاتفاقيات التي حملت وعودا بوقف دائم لإطلاق النار، ونزع سلاح الجماعات غير الحكومية، ودعم عودة اللاجئين، أثارت عند توقيعها موجة تفاؤل دولية. لكن هذا التفاؤل اصطدم سريعا بواقع ميداني مضطرب، بعدما رصدت تقارير الأممالمتحدة موجة عنف جديدة أعادت المنطقة إلى دائرة الاشتعال.
ثغرة الاتفاق: غياب 23 مارس
رغم أن الاتفاق شمل حكومتي كيغالي وكينشاسا، فإن استبعاد متمردي حركة 23 مارس -القوة العسكرية الأكثر تأثيراً في شرق الكونغو- ترك فجوة كبيرة في هيكل التهدئة. هذه الفجوة استغلّتها الحركة لاستعادة مواقع استراتيجية، في مقدمتها بلدة أوفيرا المحاذية لبوروندي، بعد سلسلة عمليات مكنتها من تثبيت سيطرتها على محور يمتد من غوما إلى ضفاف بحيرة تنجانيقا.
وفي أعقاب هذه التطورات، أعلنت الأممالمتحدة نزوح أكثر من 200 ألف شخص وسقوط عشرات القتلى والمصابين، معظمهم من المدنيين، خلال أسبوع واحد فقط من توقيع اتفاق واشنطن.
اتهامات متبادلة وتوتر إقليمي
زاد الموقف تعقيدا تبادل الاتهامات بين كيغالي وكينشاسا بشأن خرق الهدنة؛ فبينما اتهمت رواندا القوات الكونغولية بمهاجمة مواقعها، ردّت كينشاسا باتهام الجيش الرواندي بدعم تقدم 23 مارس.
هذا التراشق يعكس هشاشة الثقة بين الطرفين، ويهدد بانهيار الاتفاق عند أول احتكاك عسكري.
وفي المقابل، أكدت حركة إم23، عبر متحدثها لورانس كانيوكا، أنها عززت وجودها في أوفيرا، مما يشير إلى قدرة المتمردين على قلب موازين القوة على الأرض بغضّ النظر عن الضغوط الدولية.
المعادن النادرة.. جوهر الصراع
يرى محللون أن جذور النزاع تتعدى الحسابات الأمنية إلى مصالح اقتصادية عميقة؛ فجنوب كيفو يحتضن واحداً من أغنى أحزمة المعادن النادرة في العالم — بما في ذلك الكولتان والذهب — وهي موارد تمثل رهاناً محوريًا لكل الأطراف.
وفي ظل هذا الواقع، تبدو أي تسوية لا تراعي التوازن الاقتصادي والسياسي محكومة بالفشل.
كما يُؤخذ على الإدارة الأمريكية تجاهلها الحوار المباشر مع حركة إم23، مما أفقد الاتفاق آلية تنفيذ شاملة، وعزّز شعور أطراف النزاع بأن التسوية لم تُصمم بناءً على موازين القوة الفعلية في الميدان.
سلام على الورق.. وحرب على الأرض
رغم الطابع "التاريخي" لاتفاقيات واشنطن، فإن الوقائع الجارية في شرق الكونغو تشير إلى أن السلام لا يزال بعيد المنال. فالتوترات الحدودية، وغياب الثقة، ووصول المتمردين إلى مواقع استراتيجية، كلها عوامل تجعل الاتفاق في اختبار صعب.
وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، تُواجه واشنطن تحدياً يتمثل في قدرتها على الدفع باتجاه تنفيذ فعلي للالتزامات، وإشراك الأطراف المؤثرة كافة، وضمان حماية المدنيين في منطقة تُعد من أكثر بؤر العالم هشاشةً واضطراباً.