احتفاء بجزء من ذاكرتنا الثقافية المشتركة ، واستحضارا لعطاءات مبدعينا وإسهامهم في إثراء رصيدنا الابداعي الوطني والعربي، نستعيد، في هذه الزاوية، أسماء مغربية رحلت عنا ماديا وجسديا، لكنها لاتزال تترسخ بيننا كعنوان للإبداعية المغربية، وللكتابة والفن المفتوحين على الحياة والمستقبل. 1 لا يخلو الكلام عن الأصدقاء من لذة نعثر على مصدرها في معنى الرحيل، في معنى الفقد.. وللكلام عنهم أيضاً مرارته التي نجدها ضاربة العمق في كلمات معدودة تحاول التوغل نحو العالق بالذكرى لتكتشف أن أقصى ما يمكن أن تجود به هو الفتات. في هذه الكلمة، المقتضبة جداً، محاولة للاقتراب، جهد الإمكان، وجه إنسان التقيته لأكثر من فترة فكان العناق الأخوي مدوياً في أعماقنا. 2 يعرف المقربون في الإنسان محمد باطما أنه كان دائماً مستعداً للسخاء بكل شيء من أجل أن يظفر بلقاء أخوي، إنساني الى أبعد الحدود مع كل ما يجري وما يدور من حوله. كان الراحل سخياً وهو يخطو، بتواضع الأجلاء، في عالم الزجل الذي غناه أمامنا بكل احترام وتقدير وحب. كان محمد باطما جبهة قوية ضد ما في الميوعة من وضاعة، ما فيها من مسخ رهيب، تملّكه الحرص الشديد على نقاء الكلمة والفعل. شيَّد بينهما جسراً للتآخي. وفي هذا ما يكفي كي يبدو في وجه كل من عرفه إنساناً محترماً يعرف جيداً معنى وجه الحياء الوقور الذي يعوز أشباه الوجوه. 3 بكل وضوح أجد في شخصية الفنان محمد باطما جل الصفات التي تدل على من ينتمي لعالم الفن، بدايتها هذه التلقائية الهائلة الحاضرة بكل قوتها في خفة روحه. ما كان الرجل في يوم ما ثقيلا على أحد. عاش بخفة وبمثلها انسحب، يدرك الذين جالسوه كثيراً أنه يملك قدرة عجيبة على الاتصال. يتكلم حين يبدو له أن تمة ما يمكن قوله. يتكلم كلما بدا له، ذلك أمراً ضرورياً. الرجل خصم كبير للمهووسين بأوهام الواجهة وما أكثرهم في زمننا هذا. في الصفات الدالة عليه، بشكل لافت للنظر، عناقه الحار لحب الحياة. أليس هو الذي أودى بحياته في عز ربيعها؟ عاش الفنان محمد باطما مفتوناً بحب خجله. هذا الحب هو الذي جعل منه إنساناً حافظ طوال حياته، القصيرة جداً، على توازنه بين ما هو عادي وما هو استثنائي في شخصيته. إنه التوازن الذي يملكه إلا هذا الإنسان الذي يرعى، دوماً أبداً، ذرة نبل فيه. 4 أرى وجه محمد باطما يصرخ بشدة حدث هذا ذات يوم أمامي في وجه من لا يعنيه في شيء أن يحيا بكرامته، بشرفه ونبله، أرى وجه هذا الفنان الشامخ بإنسانيته في أعين وجوه بادلته المحبة التي أخلص كثيراً لحقيقتها وظل وفياً لها حتى لحظة رحيله الفاجع. وجه هذا الصديق وجهٌ وديعٌ جداً لا ينسى أبداً أن يتوسَّد عنقه كل ما حاول شبح الميوعه أن يزحف باتجاه ما في الروح من نقاء مدّ إنساني بهيج. هذه الزاوية يعدها الزميل حسن نرايس