لقد تحدثت في مقال سابق عن النظام العالمي الجديد وبعض المتغيرات المرتبطة به، بإيجابياتها وسلبياتها، متغيرات فرضت على شعوب دول الجنوب نمطا جديدا من السلوك الفردي والجماعي. إنها قيم النيوليبرالية الجديدة التي اقتحمت وتقتحم كل مجالات الحياة الخاصة والعامة، ولا تترك الوقت الكافي للأفراد والجماعات لتحليل طبيعة مستجداتها وتقييم وقعها على العلاقات البشرية على مستوى الشعب الواحد وما بين الشعوب. إنه واقع جديد جعل العلاقات جنوب-جنوب مكبلة بمصالح دول الشمال في إطار التمثلات الخاصة لهذه الأخيرة لما يسمى بالعلاقات الجيوستراتيجية شمال-جنوب. لقد تعمدت الحديث عن شعوب دول الجنوب لأبرز التفاوت أو الهوة في القدرة الشعبية على إدراك طبيعة المتغيرات والاستعداد مؤسساتيا ومجتمعيا لتحقيق نوع من التكيف الإيجابي معها (تأهيل عبر الانتخابات لأدوار الأسرة والمدرسة والجماعة الترابية والبرلمان والحكومة.....). ما من شك، مصادر القرار في دول الشمال هي الصانعة والقائدة للتحولات الكونية لزمن ما بعد تحطيم جدار برلين، زمن هيأت له هذه الدول الظروف المواتية للرفع من مستوى تحقيق الأهداف المرسومة له، وتتدخل خارج المنطق الإيديولوجي الذي تؤمن به لمواجهة الانزلاقات والهفوات (السماح بتدخل الدولة في الأزمات كنموذج). لقد شمل الإعداد كل المجالات الحيوية التي تكتسح اليوم حياة الأفراد والجماعات، ذكورا وإناثا، أطفالا وشبابا، كهولا وشيوخا، وعلى الخصوص المجالات التربوية والتعليمية والتكنولوجية والثقافية والقانونية والاقتصادية والسياسية.... بالمقابل، تشخيص أوضاع شعوب الجنوب يبين بما لا يفيد الشك وجود حالة مسايرة للأحداث بدون أي دراسة أو تحليل عميق أو تهيئ مسبق، مسايرة تميزها مبادرات كثيرة، تتداخل أحيانا، وتتنافر أحيانا أخرى، بل وتتكرر من خلالها البرامج، مبادرات لا تخضع بالضرورة للتقييم الذي يضمن تفادي الاختلال والاعوجاجات والتكرار ويحدد قيمة التراكمات والمكتسبات ووقعها على حياة المجتمع العامة والخاصة. لقد تم الإعلان عن النظام العالمي الجديد ومجتمعاتنا لا زالت غارقة في "التقليدانية" في الأسرة والمجتمع والسياسة مع تفاقم متزايد للعزوف والإقبال على القراءة، "تقليدانية" تجعل كل ما كتب في شأن التقارع الفكري ما بين الحداثة والتقليد، وعلى رأسهم ما كتبه المفكرون أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز ومحمد أركون... بعيدا كل البعد على الحياة العادية للمواطنين البسطاء. وعندما أتحدث عن البساطة هنا، أبرز بالمقابل تعرض فئات واسعة من شعوب الجنوب، خاصة فئتي الأطفال والشباب، للتأثير السلبي القوي لمصادر المعلومة، بالصورة والصوت، المنبعثة من الأوعية الإعلامية المتعددة والمتنوعة التي تم اختراعها من طرف رواد النظام العالمي الجديد. إن أجيال الشباب والطفولة تعاني اليوم من الحصار المضروب عليها من كل الجهات من طرف هاته المصادر. إنها أجيال بدون حماية لا زالت تعاني من غياب التأطير المؤسساتي، وبالتالي من النجاة من الغرق في مستنقع المعلومة بمختلف ألوانها وأنواعها، منها الجيدة (تتميز بضعف الإقبال) ومنها الرديئة (الأكثر استهلاكا). إن المحيط المباشر لهذه الأجيال، أجيال لم يتم إعدادها بالشكل المطلوب لتفادي ما سميناه ب"الإغراق" والتعامل الإيجابي مع ما ينبعث من عالم الأجهزة الإلكترونية من برامج وفقرات وصور وكلمات، أصبح اليوم فضاء غير متحكم فيه، وبالتالي أصبح عاجزا على فرض نوع من القيم الثقافية العقلانية الضامنة للتنشئة المناسبة أو المطلوبة (نظريا). إن عدم الوعي بهذا المعطى، أضعف قدرة أجيال الشباب والأطفال على "استغلال" المعلومة الجيدة للرفع من الوعي والمردودية المجتمعية، وأصبحوا اليوم ضحايا المسايرة غير المدروسة السالفة الذكر، مسايرة لا يمكن أن تقودهم إلا إلى الابتلاء بتعودات جديدة لكن غير نافعة أو تكاد تحول اللوحة، والتي يمكن نعتها بالفنية كالأفلام التي يرفضها رواد التقليد لتجسيدها الملموس لبعض الممارسات المجتمعية اليومية، إلى وضعية مرضية، وضعية نفسية عليلة جسدها تقرير المندوبية السامية للتخطيط بالأرقام الملموسة، ووصفها المتتبعون بوضعية الإدمان على التلفاز والانترنيت والكلام الساقط والعنف المستشري والتوتر النفسي في الشارع العام. وهنا، ونحن نتابع ما يكتب إعلاميا في موضوع الأمن، لا يمكن لنا إلا أن نصفق لما صدر من مؤسسات الأمن الوطني من تعليمات ودوريات داعية إلى اليقظة والتدخل السريع لتصحيح الأوضاع وضمان استقرار وطمأنينة حياة الأسر وسلامة أفرادها الجسدية (انه جهد لمسناه في شهر رمضان في كل المدن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة). إن الأوضاع الثقافية التقليدية، خصوصا ذات الطبيعة القمعية، التي ميزت ولا زالت تميز حياة عدد كبير من الأسر المغربية، تدفع الأبناء، إناثا وذكورا، إلى البحث عن المنافذ الممكنة لممارسة الحرية في العالم الافتراضي. إنه العالم الذي أصبح ملتصقا بهم بواسطة حواسيبهم وهواتفهم النقالة إلى درجة أصبح هاجس التعلم والقراءة والتراكم اليومي للمعارف بعيدا كل البعد عن أولويات الفعل اليومي لدى فئات عريضة من الأطفال والشباب. إنه وباء العصر، وباء "الإدمان" على التكنولوجيا (الشاط والتلفاز) وضعف التركيز في زمن العولمة، وباء تتعقد أوصافه يوما بعد يوم إلى درجة أصبح الحديث عن ملامسة وجود عجز واضح لدى فئات عريضة من الآباء والأمهات للتحكم في تدبير شؤون الأسرة المغربية. فمسألة عقلنة العلاقة ما بين مكونات الأسرة أصبح أمرا شديد الصعوبة والتعقيد. لقد أصبح جيل التكنولوجيات الحديثة محاصرا من كل الجهات وفي كل الأوقات (24 ساعة/24 ساعة) بالصور والكلمات الغزيرة. إن الاعتماد على السمع والبصر في جزء كبير من الحياة اليومية لهاته الأجيال أفقدها القدرة على التعبير الكتابي السليم وعلى التفكير العميق والمبادرات الذهنية، وفرض عليها ميولات نفسية تغلب عليها الممارسات اليومية الروتينية، والتلقائية في تقبل الجاهز (بعد إعداده من طرف الغير)، وخلق في نفسيتها نوع من المقاومة اللاإرادية لبذل الجهد الذهني والنفسي والبدني المطلوب لبناء المستقبل. لقد اقترنت حالات الإدمان بظهور ما يسمى بصراع الأجيال، صراع تمارس من خلاله أجيال الشباب والطفولة الضغوطات المختلفة الواحدة تلو الأخرى على الأسرة، الشيء الذي يدفع الآباء والأمهات إلى القيام بردود فعل قد تكون إما بمثابة استقالة متدرجة عن المهام (التربوي والتأطيري) أو بمثابة ردود فعل قمعية عنيفة. إنه وضع مقلق أصبح يطبع نمط عيش أجيال المستقبل، أجيال ملتصقة أكثر بالحاسوب والتلفاز، المرتبطين بالشبكات المعلوماتية للتواصل، وبالشبكات الاجتماعية المتنوعة إلى درجة أصبح عالمهم عالما غريبا بالنسبة للآباء والأمهات. إن ميول الأجيال إلى الترفيه والتواصل الآني بالصوت والصورة (الشاط) خلق هوة كبيرة بين الأهداف التربوية والتعليمية المرجوة والواقع المعاش، هوة ميزتها البارزة هو ابتعاد واضح عن القراءة والكتاب (الورقي)، وصعوبة واضحة لدى هذه الفئات في تعاملها مع الاختبارات الكتابية جراء ميولها إلى الشفوي الجاهز. إن رفع شعار الكفاءة والمهارة من طرف الباطرونا الوطنية والعالمية بدون أي مخططات إستراتيجية للتأهيل النفسي والمعرفي للمرور من الاعتماد على القوة الجسمانية في العمل إلى القوة الذهنية، ساهم بشكل كبير في ظهور ردود فعل انغلاقية وتعبيرات عنيفة في مجتمعات الجنوب، تعبيرات استغلتها بعض الجهات المعروفة لنشر قيم الظلامية والماضوية الرافضة لتراكمات التاريخ وناكرة لها، جهات لا تكل ولا تمل من إصدار الدعوات إلى توقيف الزمن الذي يتحداها من كل المناحي والعودة إلى نقطة الصفر. إن مجتمعات الجنوب تعيش في مخاض تكريس هذا النوع من التوجهات في الممارسة اليومية لعدد كبير من الأطفال والشباب. فبعدما تجند المفكرون والسياسيون إلى البحث عن السبل والمنافذ المواتية للاستفادة من مرحلة الانفتاح لخلق نوع من الفطام لتربية الأم (عبد الله العروي) ، وبالتالي الابتعاد بشكل ملموس عن النزعة الحيوانية عند الإنسان، تمت ملامسة وجود منطق آخر يضع سعادة الإنسان الغربي من أولوية الأولويات ولو على حساب شعوب الجنوب. هذه الأخيرة التي أصبحت متعايشة مع إيديولوجية "الشحن" (شحن العقول)، ومع الفوضى في الحياة الخاصة والعامة. ففي بلادنا كنموذج، نتابع كيف أصبحت الشوارع والأزقة في كل أحياء المدن فضاء للضوضاء والكلام الساقط، فضاء تنتشر فيه كل أشكال ممارسات العنف التي لا يمكن تحملها. فنتيجة لغياب الوعي الأسري بضرورة تفريغ الطاقات الكبيرة المخزونة لدى الأطفال والشباب في الفضاءات الملائمة (النوادي الرياضية، دور الشباب، دور الثقافة،...)، نلمس نوع من الاستقلالية لدى الأسرة، استقلالية سببها عجز واضح لدى أولياء الأمر لتأطير الأجيال عن قرب وباستمرار... فنسب الإدمان على الانترنيت (الشاط)، وعلى المخدرات، وعلى العنف اللفظي والجسدي ترتفع يوما بعد يوم، ترتفع وواقع الأمر القانوني (الحكومة) والسياسي المحلي لا نجد فيه من يفكر في خطة إستراتيجية مندمجة في مجال الطفولة والشباب تقوي الشراكة ما بين الجماعات الترابية والأسرة والمدرسة والمؤسسات ذات الاختصاص،.... لكن، "ردو البال"، "هاد" عدم الاهتمام بالأجيال، وعدم التفكير في المنابت الصالحة التنويرية (الأسرة والمدرسة)، يسهل عملية "الزرع" العشوائي، ويكثر من عدد الأطفال المتخلى عنهم وعمليات الإجهاض السري والإجرام المتنوع، والنزاعات المجتمعية ما بين الأفراد والجماعات، ويكثر الضوضاء والعنف في الشارع العام، ويسهل شراء الذمم في الانتخابات، ويفتح المجال للفقهاء للركوب على الوضع القائم لرفع أصواتهم في مختلف المنابر مرددين "اتقوا الله يا عباد الله".... الخوف كل الخوف، إخواني أخواتي، هو أن يتقوى وقع هذه التداعيات إلى درجة قد تؤدي إلى إضعاف الأداء المؤسساتي (ضرب معايير الاختيار السليم للنخب والأفكار ليحل محلها المال والخطابات العقائدية ...). وهنا لا بد أن نذكر الأجيال الجديدة، أن الامتحان كان لدى الآباء والأمهات المتفوقين دراسيا، وهم تلاميذ أو طلبة، بمثابة موعد لبناء مستقبل. وكان هذا الموعد مرتبطا بالقولة "عند الامتحان يعز المرء أو يهان". ونظرا لشدة الخوف على المستقبل، كان الإعداد لهذا اليوم يتم ليل نهار وعلى طول السنة، وكان رائجا عند هذا الجيل ما يسمى ب"الليالي البيضاء" في العمل والتبيان والاستظهار. كانت الأوراق البيضاء عند هذا الجيل لا تكفي لانجاز الواجبات التعليمية إلى درجة تم اللجوء إلى شراء أوراق تعليب الزبدة بالكيلو. فبعد العمل الطويل والمضني على السبورات في المنازل والأقسام، كان اللجوء إلى الطبيعة أو الأضواء الكاشفة في الليل بمثابة عادة من أجل "حفظ" الدروس ومراجعتها وهضمها. ونتيجة للتعود على الجدية في العمل، كان عدد كبير من الآباء والأمهات، ولا زالوا، يناضلون بل ويقاومون، من أجل سعادة ورفاهية الأجيال الجديدة. وهنا، وبالرغم من كون ما سأقوله ذا طابع شخصي نوعا ما، وجدتني مضطرا لأذكر به القارئ. إنها لحظة من اللحظات التي أثرت في نفسي كثيرا. كانت النخب الاتحادية بمدينة سيدي سليمان جالسة إلى جانب الكاتب الأول السابق عبد الواحد الراضي يتبادلون الحديث عن التنظيم والسياسة (الانتخابات والعمل الميداني بعد الاكتساح الذي حققه الحزب في الانتخابات البرلمانية 2002 حيث حصل على أكثر من 29 ألف صوت)، وأشار أحد الحاضرين إلي، وأنا وقتئذ أمينا للشبيبة الاتحادية، قائلا للراضي "ها هو المهندس"، وكان جواب عبد الواحد سريعا "راه ماعطاهالو حتى واحد". الجيل السابق، وهم آباء وأمهات جيل الخمسينات والستينات، لم تكن ظروفهم مواتية، لكنهم صنعوا لأنفسهم فضاءات للمراجعة في الطبيعة والمدرسة والثانوية والأضواء الكاشفة. لقد كانت مراجعهم كتبا بالية يشترونها من "الجوطية"، لقد دخلت التكنولوجيات الحديثة الزاخرة بالمعلومة إلى حياتهم بعدما أصبحوا آباء أو أمهات.... وعليه، وحبا في وطنهم، فهم يطالبون اليوم بضرورة تأطير الأجيال الجديدة لتقوية الروابط ما بين طبقة الأغنياء والطبقة الوسطى والقوات الشعبية، تقوية يجب أن يكون أساسها الاستحقاق والمساواة وذات طبيعة من شأنها تسهيل صعود أبناء الطبقة السفلى إلى الوسطى، وأبناء هذه الأخيرة إلى العليا ("بلا برجات يعني بلا حواجز مصطنعة والفاهم يفهم"). فإذا كان المغرب، يسير تحت قيادة العهد الجديد بسرعة كبيرة في مجال المشاريع الكبرى الخالقة لمناصب الشغل (البنية التحتية ومجال التصنيع والتكوين)، فإن الخوف، من التراجعات المؤسساتية والثقافية والتهديدات التي تستهدف الرأسمال اللامادي الذي حققه المغاربة أصبح حقيقة واضحة، حقيقة تتطلب استعدادا مؤسساتيا ومجتمعيا للعودة بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم بخطوتين إلى الأمام.