لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت أول اللقاءات، مع مولاي العربي الشابي، كما تؤكد ابنته زينة الشابي، تتم في بيت عائلة السيد حسن الكغاط، ولم تلتق والدها رفقة أختها فاطم وأخيها لحسن سوى يوم الإثنين 7 ماي 1956، 24 ساعة بعد إطلاق سراحه. جاء من حملهم من ثانوية الليمون ومدرسة جسوس، حيث يدرسون، إلى بيت تلك العائلة، لأن والدهم ووالدتهم في انتظارهم هناك. كانت فرحة لا توصف تؤكد زينة، التي تذكر أنه حين دخلوا جميعهم، كان والدهم محاطا بجمهرة كبيرة من الضيوف، وأنهم بالكاد تمكنوا من معانقته. كان الدمع يفيض من أعينهم الصغيرة، بينما مولاي العربي يحضنهم كلهم دفعة واحدة، ويقبل رؤوسهم واحدا واحدا (علما أن مولاي لحسن ومولاي عبد القادر قد سبق وتمكنا مرة، في بداية سنة 1956، من زيارة والدهما في السجن بالقنيطرة، حيث التقطت لهما صورة معه في ساحته). عاد مولاي العربي وزوجته "مدام مولاي" إلى شقتهما بالدارالبيضاء، حيث استعاد بطلنا نشاطه السياسي الوطني ضمن حزب الإستقلال، مثلما فوجئ بهدية قدمها له أصدقاؤه وزملاؤه من التجار السوسيين، عبارة عن سيارة جديدة "أوبيل"، وأيضا فيلا صغيرة جديدة بحي "فرانس فيل"، عرفانا منهم لما قدمه من تضحيات لصالح وطنه وبلده. فيما بقي أبناؤه الثلاثة الكبار بمدارسهم الداخلية بالرباط، مع تغيير أساسي، هو أنه حتى نهاية السنة الدراسية في آخر شهر يونيو، قد أصبحوا يعودون كل نهاية أسبوع إلى بيت العائلة بالدارالبيضاء. ويعيدهم مولاي العربي يوم الإثنين إلى الرباط، كونه أصبح مداوما على الحضور إلى المقر المركزي للحزب هناك، لأنه كلف بمهمة المفتش العام لحزب الإستقلال بكامل فرنسا، لتتبع شبكة العلاقات من العمال والتجار المغاربة المهاجرين هناك. وهي المهمة، التي سلخت من حياته شهورا عدة، وتطلبت منه سفريات متعددة، عبر الطائرة، بين المغرب وفرنسا، إلى أن تعرضت زوجته "مدام مولاي" سنة 1957، لإجهاض كاد يودي بحياتها (كان مولاي العربي حينها قد انتقل رفقة عائلته للسكن في مسكنه الجديد، بفيلا فرانس فيل)، فقرر أن يطلب من رفاقه في قيادة الحزب أن يعفوه من مهامه الخارجية تلك، لأنه لم يتمكن منذ سنوات من أن يتتبع تربية أبنائه الذين كبروا في غفلة منه. من التفاصيل، التي حكاها لي الوطني محمد بنسعيد آيت يدر، حدث زيارته رفقة مولاي العربي وعبد العزيز الماسي لمدينة أكادير مباشرة بعد إطلاق سراحه وعودة الماسي من المنطقة الخليفية بالشمال، وقد كان ذلك في شهر يونيو من سنة 1956. حيث استقبلوا استقبال الأبطال في موكب شعبي ممتد لكلمترات، أشرف على تنظيمه رفاقهم في الحزب حينها، الحاج أحمد أخنوش (والد وزير الفلاحة الحالي عزيز أخنوش)، عباس القباج (والد رئيس المجلس البلدي الحالي لأكادير طارق القباج) ومحمد البعقيلي. مؤكدا أنه كان استقبالا شعبيا تاريخيا ضخما، بقي في ذاكرة السوسيين لسنوات. كان قرار قادة المقاومة وجيش التحرير، بالتنسيق مع الشهيد المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري والدكتور الخطيب، مباشرة بعد إعلان استقلال المغرب في 2 مارس 1956، هو الإتفاق مع الملك الوطني محمد الخامس، على تعيين عدد من الوطنيين والمقاومين في مهام إدارية بمختلف مناطق المغرب، حتى يغطوا الفراغ الذي سيحدثه انسحاب الإدارة الإستعمارية، خاصة في المناطق الأهلية بالبوادي المغربية. من هنا جاء تعيين عبد العزيز الماسي قائدا ممتازا على إقليمتزنيت، وتعيين محمد منصور عاملا على الحسيمة وتعيين الغالي العراقي عاملا على مدينة فاس. ومما تؤكده عائلة مولاي العربي الشابي، أنه قد عرض عليه أمام الملك الوطني محمد الخامس منصب قائد بإحدى أقاليم سوس، لكنه اعتذر، لأنه لا يريد أن يضطر إلى مواجهة أهل بلده بمنطق ما تقتضيه شروط ممارسة السلطة الإدارية، مما قد يؤثر على علاقته بالكثير منهم. مثلما، أنه لم يخلق أصلا للعمل المكتبي الإداري، وأنه رجل ميدان، والمجال الوحيد الذي يتقنه مهنيا هو مجال التجارة. فقبل اعتذاره. في سنة 1957، قرر وزير الأشغال العمومية ضمن الحكومة الثانية لمبارك البكاي بعد الإستقلال (التي استمرت بين 1956 و 1958)، الأستاذ امحمد الدويري، صديق مولاي العربي الشابي الذي كان يعرفه منذ كان يزوره ببيته في مدينة سانتيتيان، وهو طالب في فرنسا في نهاية الأربعينات، باتفاق مع قادة حزب الإستقلال، وبمباركة من الملك الوطني محمد الخامس، أن يمنح لمولاي العربي الشابي، رخصة نقل لحافلات رابطة بين الدارالبيضاء ومدينة كلميم، هي التي اشتهرت إلى اليوم بالجنوب المغربي ب "خطوط مولاي العربي". وهي الحافلات التي حرص بطلنا على أن يجعلها أحسن من حافلات الإستعمار الفرنسي بمسافات، من نوع "مرسيديس" الألمانية، ذات 38 مقعدا فقط. مع تعيين سائقين في كل رحلة، يتناوبان على السياقة، طيلة مسافة 750 كلمترا بين الدارالبيضاء وكلميم. بل، وأن يقرر إجراء لم يكن يعمل به أبدا من قبل في ذلك القطاع، هو احترام ساعة المغادرة (السابعة مساء من الدارالبيضاء والسابعة مساء في نفس اليوم من كلميم. أي حافلة تخرج من هنا وحافلة تغادر من هناك)، سواء بيعت أوراق كل مقاعد الحافلة أو لم تبع. فاحترام الزبون وتقديم الخدمة المثلى له هي في المقام الأول عند مولاي العربي الشابي. كانت النتيجة المباشرة لذلك، أن كل رحلاته تكون مملوءة عن آخرها، لأنها رحلات منظمة ومنضبطة في توقيتها، سواء في ساعة المغادرة، في أماكن التوقف، أو في ساعة الوصول. واضح أن للجدية ثمنا لا يخطؤه ذكاء الناس. هنا لابد من التذكير بأمرين. أولها، حين عرف أن وزارة الأشغال العمومية منحت رخصة نقل لمولاي العربي، سيزوره تاجر كبير من سوس، يعرف سيرة بطلنا جيدا، ويعرف أنه لا يملك ما يشتري به أية حافلة. جلس إليه، وأخرج من قب جلبابه شيكا موقعا على بياض، وقال لمولاي العربي: "اذهب واشتري الحافلات التي تحتاج. وحين تستطيع، رد لي نقودي". لكن مولاي اعتذر من الرجل، وطلب منه بالمقابل أن يضمنه فقط عند البنك لمنحه قرضا بنكيا، وهو ما قام به فعلا. الرجل الفاضل الذي قام بذلك، إسمه الحاج علي الهواري، واحد من كبار تجار سوس. حقا الرجولة لا تقدر بثمن. فيما ثاني الأمور، التي أخبرني بها الوطني محمد بنسعيد آيت يدر، هو أنه ابتداء من سنة 1957، ومع تأسيس مدرسة أبناء الصحراء الغربية المغربية بدار التوزاني بالدارالبيضاء، ظل كل التلاميذ الصحراويين، يسافرون مجانا لسنوات، على متن خطوط مولاي العربي الشابي، التي كانت بعنوان 116 زنقة ميتز بالدارالبيضاء. علما أنه أصر على أن يكتب على جوانب حافلاته إسم "سريع الجنوب مرسيديس" (مرسيديس هنا لا يقصد به إسم الشركة الألمانية بل الإسم الإسباني الثاني لزوجته "مدام مولاي" التي اسمها الكامل هو جوزيفينا مرسيديس إليستيا دوتيل. وكان دوما يمازحها قائلا: "لقد كتبت الحافلات باسمك"). كان صهره، فديريكو إليستيا، قد توفي فجأة، قبل ذلك، في شهر يونيو 1956، بسبب أزمة قلبية. مما شكل صدمة في العائلة، لم تترك فرحة إطلاق سراحه أن تكتمل. خاصة أن زوجته "مدام مولاي" قد تأثرت كثيرا وصغارها بخبر الوفاة، وأيضا بسبب المكانة التي كان يخصه بها صهره ذاك، الذي لا يتردد في وصفه أمام باقي أصهاره وأزواج بناته، قائلا لهم: "مولاي العربي إبني، وليس مثلكم". هذا ما دفع مولاي العربي أن يحمل عائلته كلها، الزوجة والأبناء، ويتوجه صوب بلاد الباسك، ومدينة سان سيباستيان لتقديم العزاء ومواساة والدة "مدام مولاي" وشقيقاتها وأزواجهن. قبل أن تقرر العائلة العودة صيف 1957 لقضاء العطلة هناك وكذا في الجنوب الإسباني بإقليم الأندلس حيث اكتشف هو والأبناء عظمة الآثار الحضارية المغربية الأندلسية القديمة بقرطبة وغرناطة وإشبيلية. بل إن حارس مسجد قرطبة العتيق والقديم، الإسباني، بعد أن عرف جزء من قصة مولاي العربي وزوجته ذات الأصول الباسكية، سيسمح له بالصلاة في نفس المحراب الذي صلى فيه شهورا قليلة قبل ذلك، الملك الوطني محمد الخامس. كانت لحظة مفعمة بدموع، تحكي ابنته زينة الشابي. فقد كانت ذلك هدية متميزة لوالدها في ذلك المكان المثقل بالتاريخ. في سنة 1959، سيحدث تحول آخر في حياة مولاي العربي الشابي الشتوكي السياسية، متساوق مع التحول السياسي الذي حدث في حزب الإستقلال، حين حدث انشقاق داخل أقوى أحزاب الحركة الوطنية ذاك، تزعمه القادة الشباب من اليسار (المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، الفقيه البصري، عبد الرحمان اليوسفي، عبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق، وكلهم من كبار أصدقائه ورفاقه). كان مكان مولاي العربي، رغم قوة علاقته مع كل من أحمد بلافريج والحاج عمر بنعبد الجليل وامحمد الدويري، هو ضمن الحركة الإتحادية الجديدة، التي أصبح من ركائزها الأساسية، العامل في الظل، لكن بدور محوري مؤثر وحاسم. كان مولاي العربي قد اشترى، سنة قبل ذلك، ضيعة فلاحية كبيرة في طريق الرباط قرب المحمدية بمنطقة "بوطويلة"، جوار الشلالات، مخصصة لزراعة الورود وتصديرها، بفضل قرض من البنك سنة 1958 (لكنه باعها سنة 1959). أتبعها، بفضل إصرار من وكالة عقارية فرنسية، بالدارالبيضاء، بالمغامرة لشراء ضيعة ثانية أكبر، جنوب الدارالبيضاء قرب حد السوالم، في بداية سنة 1958، عبر قرض بنكي ثالث، تصل مساحتهاإلى 19 هكتارا. وهي الضيعة التي ستكون مكانا لأغلب الإجتماعات السرية للقيادة الإتحادية الجديدة، قبل إعلان التأسيس بسينما الكواكب بالدارالبيضاء، وبعده حتى سنة 1965. + هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.