حينما كنا أطفالا صغارا، كان القمر يزورنا قبل مغيب الشمس، ويسكن قريتنا مضيئا ليلنا الطويل دون ضجر أو ملل. حينما كنا أطفالا صغارا، كانت النجوم تظلل خوفنا وتحرس أحلامنا الصغيرة. وكانت أمي تعد خبز "السحور"على ضوء "المشبوح "، ست نجمات بالتمام والكمال استقطبتهن جاذبية الحب إلى مكان قصي هناك في السماء قبل موعد آذان الفجر بساعة تقريبا. حينما كنا أطفالا صغارا، كانت الشمس تتربع على عرشها في السماء الرابعة صيفا، وتتوارى إلى الخلف الأعلى لتستقر في السماء السابعة، حينما تحل" لْيالي حياني "والأجواء الباردة مثل الشاي البائت في براد ب "نونة حمراء ". حينما كنا أطفالا صغارا، كانت أحلامنا بسيطة وصافية بلون قلوبنا، وبلون الطبيعة مثل الشواطيء الهادئة، كما كان يحكي لنا "ابا جيلالي" البحار، الذي قضى جل حياته في صيد الأسماك. حينما كنا أطفالا صغارا، كان للحياة معنًى، وكانت الأم بالنسبة للمغاربة تشكل ومازالت "ركنا سادسا" من أركان الإسلام ،هكذا بوأها مجتمعنا هذه المكانة. فهي والمعلمَ سواء. أكان مدرسا أم فقيها. كلاهما يشكل مدرسة حقيقية. ولا يهم إن كانت الأم "مربية دجاج" أو خادمة في حقول الآخرين، تكد وتجد من أجل اللقمة الحلال لأبنائها. وكانت مقدرة ومعتبرة من طرف الجميع قبل أن تتغير المفاهيم. فهي تعمل كل شيء حلال، من أجل أبنائها. ومن أجل تعليمهم. وكما يقول فلاحو الشاوية " تضرب السروية ". للأسف، الآن يريد البعض أن يسوّق صورة مشوهة..مغلوطة..سيئة..ضبابية للأم المغربية. ولنا في هذا المضمار أن نستحضر ما دبّجه مدير نشر "أخبار اليوم"، توفيق بوعشرين الذي لم يتوفق في انتقاده لزعيم البام إلياس العمري. طبعا من حق بوعشرين أن ينتقد كيفما بدا له، لكن أن يوظف المقدس/الأم توظيفا غير موفّق في لعبه الصغير هذا، فهذا ما لا يجوز ولاحق له فيه، مهما كان له من مؤاخذات على غريمه. نقولها بصراحة ومن غير تحيز: بوعشرين أخطأ خطأ جر ويجر عليه انتقادات ومؤاخذات كان في غنى عنها، ولا شك ستغير نظرات كثير من القراء تجاهه اليوم وغدا. فنعته غريمه بأنه هو "ابن مربية الدجاج"، لم يكن يقدر عواقب ردود الفعل القوية والشاجبة لوصفه المعلوم بمواقع التواصل الاجتماعي بغض النظر عن الاستغلالات الممكنة. بكل فخر، أستحضر - في هذا السياق - "حناتي" الحاجة عائشة رحمها الله، هذه المرأة التي عاشت من أجل الآخرين. و أتذكر أيضا كيف كانت تربي الدجاج والأبقار.. وكيف وظفت كل شيء من أجل اليتامى والأرامل وكذا المعتقلين السياسيين. أتذكر وأنا طفل كيف كانت تحمل القفة كل يوم أربعاء وتمتطي في الصباح الباكر "كار عربيات" من أولاد سعيد، متجهة إلى كراج علال، ومن ثمة إلى القنيطرة، حيث ابن أختها المشتري بلعباس، المعتقل السياسي في السجن هناك رفقة زملائه من المحكوم عليهم بالمؤبد والمحدد، سواء من مجموعة "إلى الأمام" التي كان يتزعمها ابراهام السرفاتي أو غيرهم. رغم بساطتها، لم يكن وعي "حناتي"السياسي آنذاك نابعا من أطروحة سياسية بقدر ما كان نابعا من القلب والإحساس "الكبدة" كما يقول المغاربة. وهناك ربطت علاقات مع كل المعتقلين. وأتذكر بالمناسبة، سنة 1989 حين تم الإفراج عن المشتري بلعباس ورفاقه.. كيف أن الحاجة عائشة احتفت بهذا الإفراج، ورقصت كثيرا برفقة المناضلة الفذة ثريا السقاط وماما آسية الوديع رحمهما الله، ومازالت صورتهن أمام عينيّ إلى الآن. هذه هي أمهاتنا، نعتز بهن جميعا بمن فيهن والدة الزميل بوعشرين. هناك خطوط حمراء يتعين على الجميع ألا يتجاوزها مهما كانت الخلافات. هكذا كنا وكان مجتمعنا وحينما لم نعد كذلك، لم يعد القمر يأتي في موعده ولا الشمس تدفع الفراشات للرقص، لم تعد السماء كما عهدناها بنجومها العذراء الممتدة على حد البصر، ولم تعد لغة القلب نافذة ومتداولة، حينما كنا أطفالا صغارا، كان الكبار كبارا .