لماذا يلازمنا ذلك الشعور المبهم والمحزن كلما وقفنا وجها لوجه أمام السرعة، وكأن أشياء تحدث أمامنا، بعيدا عنا، دون أن نكون هناك لنراها؟ القطارات والطائرات والصواريخ والسواتل والمركبات الفضائية تعبر إلى «اللامكان»، ونحن في الغالب محصورين في المكان، في الأرض، في الزمن الذي يتدفق علينا ببطء، كثيفا وثقيلا، وبجسد مقشور. هذا ما يعلمنا الدرس الفيزيائي (إنشتاين). لكن، هل تتناغم حقيقتنا، ككتل بشرية، مع السرعة.. مع ذلك الخيال الفيزيائي الضوئي، مع الأمام الغامض والمخيف؟ يقول محمود درويش: «سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك»، والرؤية هنا لذة، استمتاع، لقاء، محاورة؛ أما البطء فهو السرير.. وفي اختفاء السرير ألم. «لم اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟»، هكذا يقول ميلان كونديرا في رواية «البطء». لقد رحلوا.. سافروا بسرعة، وأخذتهم القطارات التي لها ماض كالح مع العبيد، ومع تهريب الحيوانات المفترسة، ومع الباحثين عن الذهب.. رحلوا، ولم يدركوا أن الحياة تتطلب وقتا أطول مع البطء. لم يحذروا من الأخاديد والفراغات، وقفزوا من الأسفل نحو جاذبية الأعلى.. جاذبية المبهم. كانوا يحتاجون، فعلا، إلى معسكر تدريب لعقد صداقة مع البطء، والتحرر من طغيان الزمن. ذلك أنّ إيقاعات حيواتنا الحاليّة، كما يقول إدغار موران، قائمة على سباقات دائمة. ف»السّرعةُ والعجلة والتّرحال الذّهنيّ يجعلنا نعيش على إيقاع جارف. يجب أن نجعل أنفسنا أسيادا على الزّمن، على هذه الثّروة الأكثر قيمة من المال كما كان سينيك. يقول: ومثلما توجد حركة «الأكلة البطيئة» ينبغي كذلك نشر «الزّمن البطيء»، و»السّفر البطيء» و»العمل البطيء» و»المدينة البطيئة». من المهمّ أكثر أن يعيش المرء حياته على أن يجري وراءها. ويتطلّب امتلاك الزّمن من جديد تنظيما جديدا للحياة، ولوسائل النّقل ولإيقاعات الدّراسة وإيقاعات الحياة في آن واحد. وهذا يفترض أيضا أن نعيد اكتشاف معنى «استمتع بيومك « : تعلّم العيش «هنا والآن»، كما دعا إلى ذلك الحكماء القدامى. إنّ إصلاح الحياة يدعو إلى تباطئ معمَّم، إلى الثّناء على البطء. فالتّوقّف عن الجري هي طريقة لاستعادة زمننا الدّاخليّ.» لقد نجحت فلسفة البُطء، حتى الآن، في استقطاب 104 مدينة في 16 بلدا مختلفا، من بينها بلجيكا وإسبانيا والنرويج وبريطانيا وبولندا. حيث «تحلزن» السكان، وانسحبوا من لعبة الأيادي المتعاركة، وفضلوا العيش في رؤوسهم، بعيدا عن أكياس الهواء المستعملة، وعن شبكات اللاشيء التي قد تنتهي بهم إلى السرعة.. إلى المبهم.. إلى الموت غير الرحيم.. إلى ذلك الذي يجعل الحياة بكاملها مجرد كيس قش اندلعت فيه النيران دفعة واحدة.. وفي رمشة عين. إن التحيز إلى البطء معناه أن تعطل لحظة مضغ الغبار.. أن يستوي وجودك على السرير، على الاستمتاع، لا على ترقب الزوال.. «ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لا يسأم».. فالسأم هنا تهافت نحو السرعة، وهرب من التكرار، رغم أن البطء ليس تكرارا، بل على العكس تماما.. هو تعليب واع لما يحدث، وما قد حدث. ف»الذاكرة هي البطء، والنسيان هو السرعة»، كما يقول كونديرا.. وهذا يعني أن ما نعيشه حاليا هو إفراط أعمى في النسيان.