لا خلاف في القول إن الصحافي حميد المهداوي ظاهرة مغربية ملأت الدنيا وشغلت الناس. فهو ظاهرة من خلال خطابه وأسلوبه، وظاهرة في جرأته في زمن أصبحت فيه الصحافة أو الصحافي المهني كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. إنّه الصحافي الذي يجد نفسه مضطراً في كل مرة إلى الهجوم مضطرا إلى الدفاع، لا تُربكه الضغوط ولا تُسْكِتُه العواقب. وهذا بالضبط ما يجعله في شبهٍ بليغ بحيوان غرير العسل. قبل أن نخوض في الحديث عن المهداوي وغرير العسل، لا بد أن أشير أولاً إلى نقطة مهمة، وهي ما شهدناه في هذه الأيام القريبة من تحوّل حيوان غرير العسل إلى بطل شعبي لدى المغاربة. هذا السلوك لا يمكن النظر إليه بتلك البساطة والسطحية التي ترى في الاحتفاء والإكبار مجرد بوح لحظي أو نوع من "البسط والتقشاب"، بل إنه يضمر في طياته إكباراً شعبياً للضعيف الشجاع في مواجهة من يملكون كل شيء. وكأن الأمر بل هو فعلاً كذلك تنفيس شعبي ولذة جماعية عن حال يشعر فيها المغاربة أنهم أصبحوا يعيشون في "غابة" يظهر فيها البطل بمظهر غرير العسل الشجاع. وهذا تاويل تعطش الناس للزعيم، وتاويل أن الناس في كل مرة يصنعون بطلهم إن على الحقيقة أو على المجاز. إن وجه الشبه، ظاهراً أو باطناً، بين المهداوي وغرير العسل متحققٌ لا جدال فيه ولا سجال. فوجه المهداوي ليس بالوجه الأليف، وصوته ونظرته الحادة توحيان أو تُخفِيان في داخلهما ما مرّ به الرجل من تجارب في بيئته شبه البدوية والقاسية التي نشأ فيها. إنه ليس ذلك الصحافي الذي يولد وفِي فمه ملعقة من ذهب، بل هو ابن الهامش الذي فرض نفسه على العاصمة، وعلى الشعب، بل وعلى الجسم الصحفي والنضالي، حتى تحوّل في نفوس كثيرين إلى رمز للمواجهة والجرأة، تماماً كما يفعل غرير العسل. إنه يمثّل النسخة البشريّة لحيوان غرير العسل. فكما أنّ غرير العسل صغير الحجم ويواجه ما هم أكبر منه، كذلك يفعل المهداوي. والحجم هنا لا يفهم ببعده الجسدي المادي، بل لابد يفهم في بعده الرمزي: حجم الإمكانيات مقابل حجم الخصوم. ومع ذلك يقف الرجل في وجه من يملكون كل شيء، في بيئة أشبه بالغابة؛ غابة يُحاكَم فيها الصحافي المهني والمناضل قبل أن يصل إلى قاعة ا "طباكي" في قصة ماوكلي. لقد كتبت على صفحتي على الفيسبوك ما كنت أسميته ب"ورطة المهداوي"، حين يجد نفسه بعد السجن مضطراً لفتح هاتفه من جديد ومخاطبة المغاربة بنفس خطابه الذي لا يعرف غيره. لكن السؤال المطروح: ماذا يقول لهم؟ هل يفتح هاتفه ليحدثهم حديث عصابة أحمد شرعي، وثقافة العام زين، والتطبيل للفاسدين والنافذين ومغرب الإنجازات لا مغرب التفاوتات .. ومن تمة يضمن القوت ويتغذى على الفتات، وفي ذلك قد ينجح وقد لا ينجح، وقد يتم الانتقام منه وتفريغه من رصيده الشعبي ثم التخلص منه كما فُعل بأشباهه من قبل؟ أم هل يتماهى مع الخطاب الشعبي القائم على القول ب "الملك زين ولي دايرين بيه خايبين" وهو يعلم أن الفساد متغول على الملكية وقادر على الزج به في السجن، ولن ينفعه حينئذ خطابه ولا انتصاره للملكية، التي ترى مصالحها مع من يعتبرهم المهداوي خصومه وفاسدين؟ لقد اختار المهدوي الخيار الثاني، وفي محاولة للموازنة والجمع بين ما لا يجتمع، وتقويم ما لا يستقيم، مع تحمّل الضربات، التي نرى جزءاً منها فيما شهدناه أمس من لجنة الأخلاقيات بخطابها المنحط. وخلاصةُ القول: إن المهداوي ليس نموذجًا للصحافة الهادئة، ولا هو صوتٌ محلّ إجماع. لكنه، في المقابل ليس شخصية يمكن تجاوزها أو القفز عليها. فحضوره ثابت في كل نقاش ونازلة، وحيثما تحدّث انقسم الناس بين من يراه بطلاً وبين من يراه متهوّرًا. وهذه المفارقة، في حدّ ذاتها علامة على تأثيره وعلى حضوره المختلف داخل المشهد الإعلامي. المهداوي ليس صحافيًا عاديًا يكتفي بنقل الخبر ببرودة؛ إنه شخصية مشحونة باندفاعٍ واضح، عنيد وصدامي، أقرب في مزاجه وروحه القتالية إلى غرير العسل الذي لا يتراجع أمام الخصوم مهما كبُر حجمهم. وتشبيه المهداوي بغرير العسل ليس سخريةً ولا تهويلًا، بل هو توصيف رمزي لأسلوبه الاحتجاجي في ممارسة الصحافة. صحافةٌ تقوم على الهجوم لا على الدفاع، على رفع الصوت لا على خفضه، على المواجهة لا على المداراة. وهكذا، يصبح عنوان "المهداوي... غريرُ عسلِ الصحافة" أكثر من مجرد استعارة؛ إنه قراءة في جوهر ظاهرة صوتية: رجلٌ محدود الإمكانيات، لكنه كبير بمعاركه، واسع التأثير بما يثيره من جدل، وبما يتركه من أثر في كل معركة يخوضها.