بنعليلو يدعو إلى ترسيخ ثقافة تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد    مراكش.. رئيس الأنتربول يشيد بالنموذج المغربي في دعم الأمن الدولي والانفتاح والتعاون تحت قيادة الملك محمد سادس    المنتخب المغربي للسيدات داخل القاعة يفوز على نظيره الفلبيني    عقد أولى جلسات محاكمة المتهم في قضية مقتل الفنان "سوليت" بالحسيمة    حكيمي يطمئن المغاربة: عدت أقوى... والكان هدف أمامي    العلم تطلق زاوية "يوميات الكان" لمواكبة كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025    منشور لأخنوش يقر منحة للتشغيل تبلغ 17% من الدخل السنوي في قطاع ترحيل الخدمات        الرّمادُ والفَارسُ    محمد صلى الله عليه وسلم في زمن الإنترنت    الحافظ يترأس اشغال الدورة العادية للمجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بسيدي قاسم    ليلى بنعلي: المغرب يكرس موقعه كقطب إفريقي لقيادة التحول الاستراتيجي في المعادن    " الاتحاد الوطني للشغل": تسريبات لجنة الأخلاقيات تكشف خطيرة وتضرب في عمق التنظيم الذاتي للمهنة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    اتحاد حماية المستهلكين: منتوج زيت الزيتون المغربي سليم وآمن للاستهلاك    فيرمين لوبيس.. اختبار جديد لإظهار أن تشلسي كان مخطئاً في عدم ضمه    ميناء الحسيمة : انخفاض نسبة كمية مفرغات الصيد البحري    دراسة علمية تشير لإمكانية إعادة البصر لمصابي كسل العين                وقفة احتجاجية بتطوان تضامنا مع فلسطين والسودان ورفضا للتطبيع    اعتداء على أستاذة حامل يشعل غضب الجامعة الحرة للتعليم بأولاد فرج والتنظيم النقابي يحمّل المديرية الإقليمية المسؤولية    إسرائيل ترفع تأهب الدفاع الجوي غداة اغتيالها قياديا ب"حزب الله".. وتستعد لردود فعل    احتجاجات صامتة في الملاعب الألمانية ضد خطط حكومية مقيدة للجماهير    ألونسو: هذه هي الكرة حققنا بداية جيدة والآن النتائج لا تسير كما نتمنى    سيناتور يمينية متطرفة ترتدي "البرقع" بمجلس الشيوخ الأسترالي وتثير ضجة بالبرلمان    إقالة وتوبيخ ضباط إسرائيليين كبار بسبب الفشل في توقع هجوم 7 أكتوبر    الجيش السوداني يرفض اقتراح اللجنة الرباعية لوقف إطلاق النار ويصفها ب"غير محايدة"    بغلاف ‬مالي ‬يصل ‬إلى ‬6.‬4 ‬مليون ‬درهم.. ‬إطلاق ‬خطة ‬استراتيجية ‬لمواجهة ‬‮«‬ضغط ‬السكن‮»‬    إجراءات ‬مشددة ‬تواكب ‬انطلاق ‬اختبارات ‬ولوج ‬مهن ‬التدريس ‬بالمغرب ‬    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع        واشنطن ‬تكثف ‬حضورها ‬بالداخلة ‬تمهيداً ‬لافتتاح ‬القنصلية ‬الأمريكية    تسوية قضائية تُعيد لحمزة الفيلالي حريته    وفاة الممثل الألماني وأيقونة هوليوود أودو كير عن 81 عاماً    المغرب ‬قطب ‬للإشعاع ‬الإفريقي ‬ولبناء ‬المستقبل ‬الواعد ‬للقارة ‬السمراء    جمعية التحدي تدق ناقوس الخطر بشأن تفاقم العنف ضد النساء وتجدد مطالبتها بإصلاح تشريعي شامل    تتويج أبطال وبطلات المغرب للدراجات الجبلية في أجواء ساحرة بلالة تكركوست    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    إطلاق دفعة جديدة من أقمار ستارلينك الأمريكية    من الديون التقنية إلى سيادة البيانات.. أين تتجه مخاطر الذكاء الاصطناعي؟    "منتدى الزهراء" ينتخب مكتبه الجديد خلال جمعه العام بالرباط    مملكة القصب " بمهرجان الدوحة السينمائي في أول عرض له بشمال إفريقيا والشرق الأوسط    المخرج ياسر عاشور في مهرجان الدوحة السينمائي يتحدث عن فيلم "قصتي" حول الفنان جمال سليمان:    لجنة الأفلام في مدينة الإعلام – قطر تُبرم شراكة مع Parrot Analytics لتعزيز استراتيجية الاستثمار في المحتوى        تحديد ساعات التدريس من منظور مقارن    العثور على ستيني جثة هامدة داخل منزله بالمدينة العتيقة لطنجة        دراسة: استخدام الأصابع في الحساب يمهد للتفوق في الرياضيات    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد صلى الله عليه وسلم في زمن الإنترنت
نشر في هسبريس يوم 24 - 11 - 2025

في كتابها "محمد في العصر الرقمي" (Muhammad in the Digital Age) تقتحم الباحثة الأميركية رقية ياسمين خان منطقة شائكة حيث يتحول النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى موضوع لنقاش بلا حدود، تتقاطع فيه الأسئلة التاريخية مع رهانات الحاضر الرقمي. فالوسائط الجديدة، من الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي إلى الصورة والفيلم والتعليق الجماهيري، أعادت تشكيل صورة النبي في المخيالين الإسلامي والغربي، وجعلتها ساحة مفتوحة للصراع والتأويل والتوظيف السياسي.
يكشف الكتاب، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية الغربية، أن تمثيل النبي محمد في الإعلام المعاصر لا يقتصر على النقل السطحي، إنما يتصادى مع نتاج تفاعل معقد بين سلطة الصورة وسرعة التداول والحمولات الأيديولوجية، حيث باتت المنصات الرقمية فضاء يعبر فيه المسلمون وغير المسلمين عن مواقفهم دفاعاً أو نقداً أو إعادة قراءة، وتتقاطع في قلبه قضايا الهوية والتمثيل والعنصرية والإسلاموفوبيا، خاصة بعد منعطف 11 سبتمبر وما تلاه من حروب وسرديات أمنية.
رقية ياسمين خان تطرح في كتابها مشكلات التوتر الدائم بين حرية التعبير وحرمة الرموز الدينية، متى يصبح النقد ازدراءً، ومتى يتحول الدفاع عن "الحق في الإساءة" إلى أداة استفزاز لجماعات بعينها، وكيف تكرس وسائل الإعلام العالمية صورة "المسلم الآخر" ضمن نمطية بصرية لا فكاك منها. وفي سياق متواز تتناول الباحثة الأمريكية دور النساء في إعادة تقديم زوجات النبي، خصوصاً عائشة، كأيقونات للتأويلات المتباينة بين النسوية الإسلامية والتشدد المحافظ، بما يكشف قدرة الصورة الرقمية على أن تكون في آن أداة تمكين ومجال تضليل.
ولا يكتفي العمل بتحليل الخطاب الإعلامي، بل يتوغل في تاريخية المعرفة، فيسائل كيف غيرت الأدوات الرقمية طرائق دراسة أصول الإسلام، من المخطوطات إلى التأريخ المبكر والدراسات القرآنية، لتصبح المعرفة نفسها جزءاً من شبكة خوارزمية تتحكم في إنتاج الحقيقة الدينية.
تبلغ مقاربة الكتاب ذروتها في الفصل الذي كتبه تانر إدس، إذ يتقصى خطاب "الملحدين الجدد" أمثال ريتشارد دوكينز وسام هاريس وكريستوفر هيتشنز الذين جعلوا الإسلام، وبالأخص شخصية النبي محمد، خصماً نموذجياً لإبراز تفوق العقل العلمي على الإيمان الديني. يشرح إدس كيف حول هؤلاء اسم النبي إلى رمز كلي يختزل فيه الإسلام كله، بحيث يصبح نقد محمد نقداً للدين برمته وللمسلمين أجمعين، معتمدين على آليات متكررة مثل التجسيد الشخصي بتقديم النبي كشخصية تاريخية يمكن الطعن في أخلاقيتها بالتركيز على الحروب وتعدد الزوجات وزواج عائشة، والانتقائية النصية عبر اقتطاع آيات أو أحاديث من سياقها وإغفال التراث التأويلي والفقهي الطويل، إضافة إلى الربط السياسي الذي يزاوج الإسلام بالعنف المعاصر كداعش و11 سبتمبر لتبرير فكرة "الخطر الحضاري". هنا يتقاطع ما يسميه ميشيل فوكو "نظام الخطاب" الذي يمارس سلطة معرفية تقصي الخطابات الدينية بزعم العقلانية، مع ما حذر منه هابرماس حول "العقل الأداتي" الذي يتحول من أفق تواصلي إلى أداة هيمنة ثقافية.
ويتساءل إدس إن كان نقد النبوة مشروعاً فلسفياً بمعزل عن التسييس، أم أنه يتحول في سياق ما بعد 11 سبتمبر وحروب أفغانستان والعراق إلى أداة داخل ماكينة صراع حضاري. اللافت أن الخطاب الإلحادي الجديد يندر أن يفسح المجال لصوت المفكرين المسلمين الذين يقدمون قراءات عقلانية نقدية من الداخل، مما يكرس تعميماً يهمل التنوع الهائل في تاريخ الإسلام وفكره، من المعتزلة إلى الفلاسفة المسلمين الذين أسسوا لعقل حواري كان يمكن أن يثري النقاش لو أتيح له الحضور.
ويبرز هنا بعد سوسيولوجي مهم، حيث إن التكنولوجيا الرقمية حولت الجدل الديني إلى فرجة جماهيرية، إذ ينتشر مقطع مجتزأ أسرع من أي رد علمي أو تأويلي، فيتقدم "الفيديو الفيروسي" على الفكرة التي يفترض أن يشرحها، لتتجلى مشكلة السلطة الخوارزمية التي تعيد تشكيل الحقيقة وتوجه الرأي العام.
أمام هذا المشهد يدعو النص إلى بناء خطاب إسلامي رقمي جديد لا يكتفي بردود الأفعال ولا يقع في فخ الاستقطاب، بل يستعيد تقاليد عقلانية إسلامية ويستثمر المنصات نفسها لإنتاج معرفة تاريخية نقدية تكسر الاحتكار الإلحادي لصورة النبي وتعيدها إلى ساحة الحوار الفلسفي. وهكذا يكشف الفصل أن العداء للإسلام في خطاب الملحدين الجدد ليس مجرد موقف فكري ضد الدين، بل هو إنتاج سياسي وثقافي مدعوم بالتكنولوجيا، ما يفرض أسئلة ملحة: كيف نوازن بين حرية نقد الأديان وحق المؤمنين في عدم التعرض للتنميط؟ وكيف نضمن ألا يتحول النقد إلى أداة استعمار معرفي أو قمع متبادل؟.
إن صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تقتصر في الفضاء الرقمي على السردية التاريخية، بل تمتد إلى حقل صراع رمزي عالمي تتقاطع فيه السياسة بالدين والعقل بالخوارزم والحرية بالهيمنة، وفي هذا التماس الشائك يكمن التحدي الفلسفي الأكبر: إعادة امتلاك القدرة على إنتاج معنى يتجاوز الاستقطاب ويؤسس لحوار كوني لا يقصي أحداً.
في نهاية هذا الاستكشاف الرقمي، يظل سؤال الخلود الرمزي للنبي صلى الله عليه وسلم وحضوره في فضاءات الإنترنت معلقاً في الهواء، منفتحين على أسئلة قلقة ومتوترة، من بينها:
هل يمكن للرقمنة أن تعيد تشكيل المقدس دون أن تشوهه؟ وهل النقد والفرجة الرقمية قادران على العيش جنباً إلى جنب مع الاحترام والتأمل العميق؟ أم أن كل صورة، وكل مقطع، وكل تعليق، يظل محكوماً بسلسلة من التحويلات التي تجعل الحقيقة دائمة الزوال، والرموز مفتوحة على الاستيلاء والتجزئة؟.
أما السؤال الأعمق والأكثر تفلسفاً وراهنية فهو: كيف يمكن للعقل أن يلامس الإيمان، والحرية أن تسائل السلطة، والرمز أن يبقى حياً في زمن تتراقص فيه الحقائق على شاشات الضوء؟.
ربما تكون الإجابة عن كنه ذلك، في القدرة على الاستمرار في طرح الأسئلة، وعلى أن يكون النقاش الرقمي نفسه مساحة للتأمل، ومسلكاً نحو فهم يتجاوز الاستقطاب، ويعيد للرمز حضوره الحي في وجدان البشرية، بلا قيد، بلا استيلاء، وبلا اختزال.
*كتاب "محمد في العصر الرقمي" (بالإنجليزية: Muhammad in the Digital Age)
المؤلف: رقية ياسمين خان (Ruqayya Yasmine Khan)
الناشر: دار جامعة تكساس للنشر (University of Texas Press)
تاريخ النشر: 15 نوفمبر 2015
عدد الصفحات: 256 صفحة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.