في كتابها "محمد في العصر الرقمي" (Muhammad in the Digital Age) تقتحم الباحثة الأميركية رقية ياسمين خان منطقة شائكة حيث يتحول النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى موضوع لنقاش بلا حدود، تتقاطع فيه الأسئلة التاريخية مع رهانات الحاضر الرقمي. فالوسائط الجديدة، من الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي إلى الصورة والفيلم والتعليق الجماهيري، أعادت تشكيل صورة النبي في المخيالين الإسلامي والغربي، وجعلتها ساحة مفتوحة للصراع والتأويل والتوظيف السياسي. يكشف الكتاب، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية الغربية، أن تمثيل النبي محمد في الإعلام المعاصر لا يقتصر على النقل السطحي، إنما يتصادى مع نتاج تفاعل معقد بين سلطة الصورة وسرعة التداول والحمولات الأيديولوجية، حيث باتت المنصات الرقمية فضاء يعبر فيه المسلمون وغير المسلمين عن مواقفهم دفاعاً أو نقداً أو إعادة قراءة، وتتقاطع في قلبه قضايا الهوية والتمثيل والعنصرية والإسلاموفوبيا، خاصة بعد منعطف 11 سبتمبر وما تلاه من حروب وسرديات أمنية. رقية ياسمين خان تطرح في كتابها مشكلات التوتر الدائم بين حرية التعبير وحرمة الرموز الدينية، متى يصبح النقد ازدراءً، ومتى يتحول الدفاع عن "الحق في الإساءة" إلى أداة استفزاز لجماعات بعينها، وكيف تكرس وسائل الإعلام العالمية صورة "المسلم الآخر" ضمن نمطية بصرية لا فكاك منها. وفي سياق متواز تتناول الباحثة الأمريكية دور النساء في إعادة تقديم زوجات النبي، خصوصاً عائشة، كأيقونات للتأويلات المتباينة بين النسوية الإسلامية والتشدد المحافظ، بما يكشف قدرة الصورة الرقمية على أن تكون في آن أداة تمكين ومجال تضليل. ولا يكتفي العمل بتحليل الخطاب الإعلامي، بل يتوغل في تاريخية المعرفة، فيسائل كيف غيرت الأدوات الرقمية طرائق دراسة أصول الإسلام، من المخطوطات إلى التأريخ المبكر والدراسات القرآنية، لتصبح المعرفة نفسها جزءاً من شبكة خوارزمية تتحكم في إنتاج الحقيقة الدينية. تبلغ مقاربة الكتاب ذروتها في الفصل الذي كتبه تانر إدس، إذ يتقصى خطاب "الملحدين الجدد" أمثال ريتشارد دوكينز وسام هاريس وكريستوفر هيتشنز الذين جعلوا الإسلام، وبالأخص شخصية النبي محمد، خصماً نموذجياً لإبراز تفوق العقل العلمي على الإيمان الديني. يشرح إدس كيف حول هؤلاء اسم النبي إلى رمز كلي يختزل فيه الإسلام كله، بحيث يصبح نقد محمد نقداً للدين برمته وللمسلمين أجمعين، معتمدين على آليات متكررة مثل التجسيد الشخصي بتقديم النبي كشخصية تاريخية يمكن الطعن في أخلاقيتها بالتركيز على الحروب وتعدد الزوجات وزواج عائشة، والانتقائية النصية عبر اقتطاع آيات أو أحاديث من سياقها وإغفال التراث التأويلي والفقهي الطويل، إضافة إلى الربط السياسي الذي يزاوج الإسلام بالعنف المعاصر كداعش و11 سبتمبر لتبرير فكرة "الخطر الحضاري". هنا يتقاطع ما يسميه ميشيل فوكو "نظام الخطاب" الذي يمارس سلطة معرفية تقصي الخطابات الدينية بزعم العقلانية، مع ما حذر منه هابرماس حول "العقل الأداتي" الذي يتحول من أفق تواصلي إلى أداة هيمنة ثقافية. ويتساءل إدس إن كان نقد النبوة مشروعاً فلسفياً بمعزل عن التسييس، أم أنه يتحول في سياق ما بعد 11 سبتمبر وحروب أفغانستان والعراق إلى أداة داخل ماكينة صراع حضاري. اللافت أن الخطاب الإلحادي الجديد يندر أن يفسح المجال لصوت المفكرين المسلمين الذين يقدمون قراءات عقلانية نقدية من الداخل، مما يكرس تعميماً يهمل التنوع الهائل في تاريخ الإسلام وفكره، من المعتزلة إلى الفلاسفة المسلمين الذين أسسوا لعقل حواري كان يمكن أن يثري النقاش لو أتيح له الحضور. ويبرز هنا بعد سوسيولوجي مهم، حيث إن التكنولوجيا الرقمية حولت الجدل الديني إلى فرجة جماهيرية، إذ ينتشر مقطع مجتزأ أسرع من أي رد علمي أو تأويلي، فيتقدم "الفيديو الفيروسي" على الفكرة التي يفترض أن يشرحها، لتتجلى مشكلة السلطة الخوارزمية التي تعيد تشكيل الحقيقة وتوجه الرأي العام. أمام هذا المشهد يدعو النص إلى بناء خطاب إسلامي رقمي جديد لا يكتفي بردود الأفعال ولا يقع في فخ الاستقطاب، بل يستعيد تقاليد عقلانية إسلامية ويستثمر المنصات نفسها لإنتاج معرفة تاريخية نقدية تكسر الاحتكار الإلحادي لصورة النبي وتعيدها إلى ساحة الحوار الفلسفي. وهكذا يكشف الفصل أن العداء للإسلام في خطاب الملحدين الجدد ليس مجرد موقف فكري ضد الدين، بل هو إنتاج سياسي وثقافي مدعوم بالتكنولوجيا، ما يفرض أسئلة ملحة: كيف نوازن بين حرية نقد الأديان وحق المؤمنين في عدم التعرض للتنميط؟ وكيف نضمن ألا يتحول النقد إلى أداة استعمار معرفي أو قمع متبادل؟. إن صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تقتصر في الفضاء الرقمي على السردية التاريخية، بل تمتد إلى حقل صراع رمزي عالمي تتقاطع فيه السياسة بالدين والعقل بالخوارزم والحرية بالهيمنة، وفي هذا التماس الشائك يكمن التحدي الفلسفي الأكبر: إعادة امتلاك القدرة على إنتاج معنى يتجاوز الاستقطاب ويؤسس لحوار كوني لا يقصي أحداً. في نهاية هذا الاستكشاف الرقمي، يظل سؤال الخلود الرمزي للنبي صلى الله عليه وسلم وحضوره في فضاءات الإنترنت معلقاً في الهواء، منفتحين على أسئلة قلقة ومتوترة، من بينها: هل يمكن للرقمنة أن تعيد تشكيل المقدس دون أن تشوهه؟ وهل النقد والفرجة الرقمية قادران على العيش جنباً إلى جنب مع الاحترام والتأمل العميق؟ أم أن كل صورة، وكل مقطع، وكل تعليق، يظل محكوماً بسلسلة من التحويلات التي تجعل الحقيقة دائمة الزوال، والرموز مفتوحة على الاستيلاء والتجزئة؟. أما السؤال الأعمق والأكثر تفلسفاً وراهنية فهو: كيف يمكن للعقل أن يلامس الإيمان، والحرية أن تسائل السلطة، والرمز أن يبقى حياً في زمن تتراقص فيه الحقائق على شاشات الضوء؟. ربما تكون الإجابة عن كنه ذلك، في القدرة على الاستمرار في طرح الأسئلة، وعلى أن يكون النقاش الرقمي نفسه مساحة للتأمل، ومسلكاً نحو فهم يتجاوز الاستقطاب، ويعيد للرمز حضوره الحي في وجدان البشرية، بلا قيد، بلا استيلاء، وبلا اختزال. *كتاب "محمد في العصر الرقمي" (بالإنجليزية: Muhammad in the Digital Age) المؤلف: رقية ياسمين خان (Ruqayya Yasmine Khan) الناشر: دار جامعة تكساس للنشر (University of Texas Press) تاريخ النشر: 15 نوفمبر 2015 عدد الصفحات: 256 صفحة