ستصبح الخوذة التي يرتديها أصحاب الدراجات النارية لضرورة حماية رؤوسهم ضروريةً للمبدع بعد أن دخلنا مرحلة الاعتداءات المباشرة على المبدعين، بتكسير رؤوسهم وإدانتهم أمام المحاكم، بدل حماية القانون لهم. أيكون في الحكم الذي صدر على الكاتب الروائي المغربي: عزيز بن حدوش، أمام محكمة ورزازات إعلاناً على مرحلة جديدة لكبح الإبداع المغربي وتحجيمه بإدانته أمام مجتمع لا يقرأ؟ أم هل هو تحذير للكتاب حتى لا يخوض إبداعهم في الكشف عن عيوب المجتمع الأخلاقية والسياسية والاجتماعية؟ أم هل هو دفع بالرواية حتى تسكت ولا تقول شيئاً أو تهتم بتصوير جانب من حياة أو واقع إنساني؟ لقد قام مجد الكتابة السردية منذ البدء على الاعترافات والجرأة على مواجهة الذات، وقد كانت تلك الاعترافات صادقة في تصوير عيوب الفرد وفضح آفات المجتمع،حتى صح في نظر جميع ذوي الاختصاص، أن نتلمس الأوضاع الحقيقية للمجتمع ، في ما صوره الأدب لا في ما نقله التاريخ العام. فحسبنا أن نقرأ «اعترافات جان جاك روسو لنرى صورة الفرد في نقائه الصادق، حتى وهو يتكلم عن جوانب اعتبرها شريرة في حياته أو ذاته، في أوضاع إنسانية مختلفة بين ضعف وقوة، ويكفينا لمعرفة صورة المجتمع الفرنسي أن نقرأ بلزاك مثلاً، ولمعرفة عمق حياة مجتمع القاهرة لنا أن نقرأ نجيب محفوظ ، وليس أروع من صورة الدارالبيضاء في رواية «بيضة الديك» للكاتب المغربي المرحوم محمد زفزاف،وكذا صورتها زمن اضطرام العمل الوطني فيها في أربعينات القرن الماضي في رواية «الريح الشتوية» لمبارك ربيع أو صورة عموم المنطقة الشمالية الغربية من المغرب ومدينة شفشاون خاصة في رواية «عودة المعلمْ الزيْن» للشاعر المغربي محمد الميموني، مع كل ما عمد إليه من كشف وفضح الذين يختفون في مسوح رجال الدين من سدنة الأضرحة، وفضح أول صور المنحرفين عما كانت تطمح إليه جميع فئات الشعب المغرب من رجال السلطة والمسؤولين. ليست هذه إلا أمثلة عما اضطلع به الأدب السردي المغربي، فهل على روائيينا أن ينجو بجلودهم، وأن ينزاحوا بعيداً عن تصوير المجتمع، فعندي أنه حتى لو فكر الناس في استبدال الحيوان بالشخصيات الإنسانية لتعرض كتابنا أيضاً إلى القتل والمتابعة، ويكفينا من الماضي ابن المقفع في «كليلة ودمنة» مثالاً. وإذا كان من أساطير الكتابة الشعرية العربية الاعتقاد أن وراء كل شاعر شيطاناً، فإنه يصح اليوم أن نقول دون أن ننسب ذلك إلى أسطورة أو فكر خرافي: «إن وراء كل كاتب روائي أو قصصي شبح قاتل يلوح بسيف يتهدد رأسه»، لا يوقر هذا القاتل (الذي لا يقرأ في الغالب) شيخاً فانياً مثل نجيب محفوظ، أو مبدعاً شاباً مثل عزيز بن حدوش. إن في هذا جانباً من عظمة الكتابة، وكشفاً عن مفارقة: أمة اقرأ التي لا تقرأ، والتي تحافظ على الكتاب المقدس تلاوة لا فهماً، وإثباتا لأهمية الكتابة، ودفعا لكل مجانية يمكن أن توصم بها، أو عبثية يمكن نعت ممارسيها به. ومن هنا أيضاً أهمية تلك الإشارة التي كان يثبتها الكتاب في زمن سابق إلى أن عملهم محض تخييل، وأن كل تشابه بين أي شخصية من شخصياته إنما هو مجرد مصادفة، ورغم حداثة إقبالي على كتابة القصة القصيرة، فقد بدأت أتحسس عنقي، لاعتقاد أشخاص أنني أتقصدهم بالكتابة عنهم. وفضح أسرارهم، إذ يجدون صورتهم في بعض ما أكتب، فيضطربون، ويقلقون، ولا يفكرون في رد الفعل بأية وسيلة للمراجعة أو المناقشة، وإنما بالشروع المباشر في عدوان لكتم صوت كاتب قد يمون جهر بعيوبهم أو قدم صوراً لا علاقة لها بفضح أو ما أشبه ذلك. فماذا يريدون من وراء هذا العدوان؟ لقد وجب أن تتخذ كافة الإجراءات لحماية مبدعينا، روائيين كانوا أم شعراء أم ممن يختارون أية وسيلة تعبير، حتى لا نترك أي كاتب أو مبدع أو مفكر، أو مثقف مهتم بالشأن العام، لمصيره يتحسس رأسه، منتظراً اللحظة التي سيهوي فيها، سيف أي قاتل مأجور، لا يعرف حتى كيف يقرأ لسوء حظ المبدعين. أفتريدون أن ينتهي الإبداع السردي والروائي إلى ما سبق أن انتهى إليه الشعر الذي أصبح مجرد هلوسات ومعميات ومبهمات، تفوق ما عرفناه لدى السورياليين الأصلاء، إلا ما رحم ربي، ليفر القارئ هذه المرة من قراءة أي أدب أو فن أو إبداع، إلى المخدرات أو الاكتفاء بالكلمات المتقاطعة في أحسن الحالات؟ فعلى الناس إما أن يرثوا لكم، أيها الكتاب، لأنكم لا تقولوا شيئاً، أو يدينونكم فيكسروا رؤوسكم ويناصرهم في ذلك القضاء بإدانتكم لاختياركم الإبداعي يا أيها المبدعون «المساكين». ما علينا جميعا إلا الاحتماء بقناع حديدي شأننا حين نركب دراجة نارية من أي حجم، في زمن لا تعامل الإبداع في بلادنا إلا رؤوس من حديد.