سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    ميارة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    إسبانيا تُطارد مغربيا متهما في جريمة قتل ضابطين بالحرس المدني    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    احتفاء بموظفي مؤسسة السجن في أزيلال    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    الإيسيسكو تحتضن ندوة ثقافية حول مكانة المرأة في الحضارة اليمنية    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي        المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«فورين بوليسي»: الطريق إلى الخلف.. نحو حربٍ عالمية ثالثة

في العقد الأول من القرن العشرين، تنبأت أذكى عقول العالم بأن عصر صراعات القوى الكُبرى انتهى إلى غير رجعة. مع الثورات في وسائل التواصل والانتقال، ارتبطت الشعوب ببعضها وتقاربت الدول اقتصاديًا. بعدها بأربعة أعوام، اندلعت الحرب الأكثر تدميرًا في التاريخ، وتلتها حربٌ عالمية ثانية بعد عقود قليلة.
الآن، يبدو الوضع على الساحة العالمية أشبه بما كان عليه قبل الانهيارات السابقة للنظم العالمية. تتزايد طموحات روسيا والصين في تعديل النظام العالمي بما يتوافق مع مصالحهما، في حين يُصاب العالم الديمقراطي بالوهن، وتتخاذل إرادته عن تسيّد الساحة العالمية.
في العقد الأول من القرن العشرين، تنبأت أذكى عقول العالم بأن عصر صراعات القوى الكُبرى انتهى إلى غير رجعة. مع الثورات في وسائل التواصل والانتقال، ارتبطت الشعوب ببعضها وتقاربت الدول اقتصاديًا. بعدها بأربعة أعوام، اندلعت الحرب الأكثر تدميرًا في التاريخ، وتلتها حربٌ عالمية ثانية بعد عقود قليلة.
الآن، يبدو الوضع على الساحة العالمية أشبه بما كان عليه قبل الانهيارات السابقة للنظم العالمية. تتزايد طموحات روسيا والصين في تعديل النظام العالمي بما يتوافق مع مصالحهما، في حين يُصاب العالم الديمقراطي بالوهن، وتتخاذل إرادته عن تسيّد الساحة العالمية.
ومع تصاعد هذين الخطين، فإننا سنصل إلى لحظة ينهار فيها النظام العالمي القائم، ويسقط العالم في هوّة الأناركية الوحشية، بتكلفة هائلة في الأموال والأرواح، والآمال والحريات. متى يحدث الانهيار؟ من المُستحيل أن نعرف. ربما بعد 3 أعوام أو 15 عامًا. لكن من الواضح أننا على الطريق.
عن شبح الحرب العالمية الثالثة، يكتب «بوب كاجان»، المؤرّخ والمؤلّف الأمريكي، بمجلّة «فورين بوليسي».
القوى التصحيحية
القوى التصحيحية Revisionist Powers هي قوىً تشعر بالسخط تجاه النظام العالمي، وتؤمن بأنّ مصالحها الاستراتيجية والإقليمية تكمن في تغييره. لم يخلُ التاريخ من القوى التصحيحية الطموحة التي حاربت النظام العالمي؛ ألمانيا واليابان من أبرز الأمثلة في الحرب العالمية الأخيرة.
في عالم اليوم، أبرز القوى الساعية إلى قلب النظام العالمي رأسًا على عقب هي الصين وروسيا. وفقًا ل«كاجان»، كلاهما يسعى إلى استعادة الهيمنة الإقليمية التي تمتعت بها سابقًا. بالنسبة للصين، يعني هذا الهيمنة على دول شرق آسيا، وانصياع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا لإرادة بكين، وتحرّكها بما يتسّق مع تفضيلات الصين الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. وبالنسبة لروسيا، فالغنيمة هي وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا، والتي لطالما اعتبرتها موسكو جزءًا من إمبراطوريتها أو دائرة نفوذها. ما تسعى إليه بكين وموسكو هو تصحيح ذلك التوزيع الظالم للقوة ومناطق النفوذ والشرق في النظام العالمي ما بعد الحرب.
كذلك تشعر موسكو وبكين بتهديدٍ بالغ الخطورة، يتمثّل في القوى الديمقراطية التي تتسيّد النظام الدولي، والأنظمة الديمقراطية على حدودهما. فالقوى الأوتوقراطية، منذ أيام «كليمنس فون مترينش»، تخاف عدوى الليبرالية. ومجرّد وجود الديمقراطيات على حدودها، والتدفق المعلوماتي العالمي الحرّ الذي لا يمكنها التحكّم فيه، والاتصال الخطير بين رأسمالية السوق الحرّ والحريّة السياسية – كلّها تهديداتٍ لأنظمة حاكمة تأسست على إخضاع القوى المسببّة للاضطراب داخل أراضيها.
لكن القوتين التصحيحيتين ابتعدتا حتى الآن عن مواجهة النظام العالمي مباشرة. والسبب هو القوة العسكرية والاقتصادية التي تتمتّع بها الولايات المتّحدة وحلفاؤها. على الصين مواجهة تحالفٍ بين الولايات المتّحدة، وبين قوى إقليمية قويّة تربطها مصالح استراتيجية مشتركة – من ضمنها اليابان، والهند وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى دولٍ أصغر، مثل فيتنام وأستراليا. أمّا روسيا فعليها مواجهة حلف الناتو بكل قوّته العسكرية. يُمكن للقوى التصحيحية أن تحرز نصرًا مبكّرًا في النزاع، مثل الإخضاع الصيني لتايوان، لكنّها ستضطر إلى الصمود أمام القدرات الإنتاجية لمجموعة من دول العالم الأكثر ثراءً وتقدمًا تقنيًا، بالإضافة إلى الإقصاء من الأسواق الأجنبية التي يعتمد عليها اقتصادها.
يعني هذا أن أي تحرّكٍ عنيفٍ من قِبل الصين أو روسيا كان يهدّد مباشرة بسقوط النظام نتيجة للهجمات المرتدّة، وهو ما وصفه العالم السياسي «ويليام وولفورث» بالاستقرار المتأصل في النظام أحادي القطب: تسعى القوى الإقليمية إلى تغيير الوضع القائم، فتلجأ الدول المجاورة إلى القوة العظمى الأمريكية البعيدة من أجل احتواء الطموحات التصحيحية. هكذا اضطرّت الصين وروسيا في السابق إلى المُشاركة في النظام العالمي وتحقيق المكاسب من خلاله، بدلًا من الانقلاب عليه.
الأعمدة تتهاوى
النظام القائم إذن لا يعتمد فقط على القوة الأمريكية، وإنما ترابط العالم الديمقراطي وتماسكه. وبينما وجب على الولايات المتّحدة لعب دور الضامن الرئيس في النظام العالمي الحالي، فإن جوهره الأيديولوجي والاقتصادي – أي ديمقراطيات أوروبا وشرق آسيا والأطلنطي – وجب أن يظل على ترابطه، وثقته.
لكن نظرة على الأوضاع العالمية الحالية تُظهر تصدّع النظام الديمقراطي بصورةٍ خطيرة. الأوضاع الاقتصادية، وعودة القومية والقبلية بقوة إلى الساحة، في مُقابل ضعف القيادة السياسية وعدم استجابة الأحزاب السياسية الرئيسة، كلّها أنتجت أزمة ثقة ليس فقط في الديمقراطية، وإنما في المشروع التنويري الليبرالي كلّه، كما يسمّيه «كاجان». هو مشروعٌ يُعلي مبادئ الإنسانية المشتركة والحقوق الفردية فوق الخلافات العرقية والإثنية والدينية والقومية والقبلية. مشروعٌ تطلّع إلى اعتمادية اقتصادية متبادلة تخلق مصالح مشتركة عابرة للحدود، وإلى مؤسسات دولية تسوي الخلافات وتسهّل التعاون بين الأمم.
عوضًأ عن ذلك، شهِد العقد الماضي صعود القبلية والقومية، والتركيز المُتزايد على «الآخر» في كل المجتمعات، وفقدان الثقة في الحكومات، وفي النظام الرأسمالية، وفي الديمقراطية. ما نشهده الآن، وفقًا ل«كاجان»، هو نقيض «نهاية التاريخ» التي تنبأ بها «فرانسيس فوكوياما».
التاريخ عاد لينتقم، ومعه عادت كل الجوانب المُظلمة من النفس البشرية، ومن ضمنها التوق البشري الدائم إلى قائدٍ قوي يأتي بالهداية الحازمة في زمنٍ من الارتباك والتفكك.
ربّما كانت أزمة مشروع التنوير ظاهرة حتمية متكررة، ناشئة عن العيوب المتأصلة في الرأسمالية والديمقراطية. يرجع «كاجان» إلى ثلاثينات القرن الماضي، عندما أدّت الأزمة الاقتصادية والقومية الصاعدة بالكثيرين إلى الشكّ في كون الديمقراطية والرأسمالية أفضل من بدائل مثل الفاشية والشيوعية. وليست مصادفة أن أزمة الثقة صاحبها انهيارٌ في النظام الاستراتيجي أفضى إلى الحرب العالمية الثانية.
كان السؤال حينها هو ما إذا كانت الولايات المتّحدة، بصفتها قوة عظمى خارجية، ستُلقي بثقلها من أجل الحفاظ على نظامٍ لم تعُد بريطانيا وفرنسا قادرتين على إقامته، أو مستعدّتين لذلك. والسؤال الآن، هو ما إذا كانت الولايات المتّحدة مستعدّة للاستمرار في إقامة النظام العالمي الذي صنعته، والذي يعتمد كليًا على القوة الأمريكية، أو ما إذا كان الأمريكيون على استعداد للمخاطرة – إن كانوا يفقهون المخاطرة أصلًا – بالسماح بانهيار النظام العالمي إلى هوة الفوضى والنزاع.
نسيان
يقول «كاجان» إن الوقت ما زال مبكرًا لمعرفة تأثير رئاسة دونالد ترامب على المشهد العالمي. ومع ذلك، تُشير العلامات المبكّرة إلى أن الإدارة الجديدة ستسرّع من الخطى في اتجاه الأزمة عوضًا عن إبطائها أو عكسها. موقف إدارة ترامب من روسيا لا يُمكن إلا أن يزيد من جرأة فلاديمير بوتين، ومناصبة الصين العداء ستؤدي ببكين على الأرجح إلى اختبار عزم الإدارة الجديدة عسكريًا.
لكن الشكّ في الاستعداد الأمريكي للتخلّي عن النظام العالمي لم يأتِ مع ترامب، وإنما سبق باراك أوباما نفسه. 25 عامًا مرّت بعد انتهاء الحرب الباردة كانت كافية لتُنسي الكثير من الأمريكيين الأسباب وراء اضطلاع الولايات المتّحدة بهذا الدور غير العادي. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدا توجه «العودة إلى الوضع الطبيعي» في انتخابات 1920 الأمريكية بريئًا وآمنًا، لكن هذه السياسات التي يصفها كاجان ب«الأنانية» ساعدت في تآكل الإرادة البريطانية والفرنسية في مواجه ألمانيا، تهيئة الساحة للاضطرابات التي تمخّضت فيما بعد عن الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن الولايات المتّحدة كانت الدولة الوحيدة القوية بما فيه الكفاية للعب دور صانع السلام في أوروبا وآسيا.
من الصعب على جيل الألفية أن يفهم الأهمية الباقية للهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو أن يتعلّم شيئًا عنها من كتب المدرسة الثانوية والجامعة، والتي يصفها «كاجان» بأنها مهووسة بالإشارة إلى شرور الاستعمارية الأمريكية. نتيجة لذلك، نفد صبر الرأي العام الأمريكي المُطالب بتحمّل صعوبات الدور العالمي وتكاليفه الباهظة. وبينما لم تفلح الحروب الفاشلة السابقة، في كوريا عام 1950 وفي فييتنام في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكذلك الأزمات الاقتصادية والركود التضخمي في منتصف وأواخر السبعينات – لم تفلح في تأليب الأمريكيين على التدخّل في شؤون العالم، فإن الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان، والأزمة الاقتصادية في 2008، نجحت في ذلك.
في عهد باراك أوباما، كانت الاستراتيجية الأساسية تجاه التدخّل العالمي هي الخندقة. كانت استجابة إدارة أوباما لفشل إدارة بوش في العراق وأفغانستان هي تقليص النفوذ الأمريكي الخارجي بدلًا من استعادته. والمحاولة المبكّرة ل«إعادة ضبط» العلاقات مع روسيا كانت الضربة الأولى لسمعة الولايات المتّحدة باعتبارها حليفًا يمكن الاعتماد عليه، إذ جاءت بعد الغزو الروسي لجورجيا مباشرة، وعلى حساب حلفاء الولايات المتحدة في وسط أوروبا، وفي وقتٍ كانت السياسات الروسية تجاه الغرب – وممارسات بوتين القمعية تجاه شعبه – تزداد قسوة.
ثمّ جاءت الاستجابة غير اللائقة من الغرب تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا والاستيلاء على القرم، لتُشير إلى عزوف الإدارة الأمريكية عن إجبار روسيا على التراجع في منطقة فوذها. وفي سوريا، استدعت الإدارة الأمريكية التدخّل الروسي من خلال سلبيتها، ولم تفعل أي شيءٍ لتثبيط ذلك التدخّل، لتعزّز الانطباع المُتزايد بأن أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط، ذلك الانطباع الذي خلقه الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، والذي يصفه «كاجان» بأنه كان «غير ضروري، وأرعن».
هذا الانسحاب من الشرق الأوسط لم يعزّز من موقف روسيا وفقط، وإنما شجّعت سياسة الخندقة كذلك النفوذ الصيني في شرق آسيا. لم يغب عن أنظار دول شرق آسيا الاتفاقية النووية الإيرانية، وفشل الإدارة الأمريكية في التمسّك بتهديداتها باستخدام القوة ضد الرئيس السوري بشار الأسد. وهكذا بدأ حلفاء الولايات المتّحدة في آسيا يتساءلون: هل من الممكن الاعتماد على الولايات المتّحدة في مواجهة التحدّي الصيني؟
الطبيعة تبغض الفراغ
والفراغ الذي خلقته «الخندقة» الأمريكية من المحتّم شغله. يقول «كاجان» إن هناك خرافة شائعة في الديمقراطيات الليبرالية، تقضي بأن القوى التصحيحية يُمكن ترويضها عن طريق الإذعان لمتطلباتها، لكن العكس هو الصحيح. كلّما شعرت القوى التصحيحية بالأمان، زاد طموحها في تغيير النظام بما يخدم مصالحها. هكذا لم تكتفِ روسيا والصين بالأمان الذي تتمتّعان به من الهجمات الخارجية في ظل المظام العالمي الحالي، وإنما ازدادت عدوانيتهما في الضغط باتجاه مصالحهما، في مواجهة مقاومة أمريكية متخاذلة عن المعتاد.
يُلاحظ «كاجان» اختلافًا كبيرًا في طرق القوتين التصحيحيتين الرئيستين. الصين حتى الآن هي الأكثر حذرًا وصبرًا، تسعى إلى بسط نفوذها ببطء من خلال قوتها الاقتصادية العُظمى، مستخدمة القوة العسكرية المتنامية كمصدرٍ للردع والتخويف الإقليمي، لكن من الخطأ افتراض أن الصين ستستمرّ طويلًا في تجنّب الاستخدام المباشر للقوة العسكرية. يقول «كاجان» إن القوى التصحيحية دائمًا ما تستخدم قدراتها العسكرية المتنامية في اللحظة التي تعتقد فيها بأن المنافع المحتملة تفوق المخاطر والتكاليف. وتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها ضد الحلفاء الآسيويين إنما يُقلل من هذه المخاطر، وبالتالي يزيد من احتمالية استخدام القوة في تحقيق أهداف بكين، وكذلك يقرّب بين الصين وبين دول شرق آسيا.
أمّا روسيا، فبالرغم من أنّها الأصغر إلا أنّها الأكثر عدوانية، وحققت نجاحًا أكبر من الصين في تقويض النظام العالمي. بعد جورجيا وأوكرانيا، والاستجابة الغربية الضعيفة، تلقّت موسكو إشارة الانسحاب، وسارعت بالإدلاء بثقلها العسكري في سوريا. استغلّت هيمنتها على أسواق الطاقة الأوروبية، واستخدمت الحرب السيبرانية ضد جيرانها، لكن الانتصار الأكبر الذي حققته روسيا هو تحقيق هدف تقسيم الغرب وخلخلة استقراره. من خلال تدخّلها في الأنظمة السياسية الديمقراطية، وحرب المعلومات التي شنّتها بضراوة، ودورها في زيادة تدفق اللاجئين من سوريا إلى أوروبا، استطاعت روسيا زعزعة الثقة في الأنظمة والأحزاب السياسية القائمة.
ومن المُغري دائمًا في مثل هذه الأوقات الاعتقاد بأن التعاون المُشترك من الممكن أن يُطفئ نيران التنافسية الجيوسياسية. هو مقترحٌ يُطرح ويُسعى إلى تنفيذه دومًا عندما تُحاول القوى المهيمنة مواجهة تحديات القوى التصحيحية الساخطة، لكنّه نادرًا ما ينجح. قلّما ترضى القوى التصحيحية بأقلّ من الاستسلام الكامل. لم ترض اليابان بالاستحواذ على منشوريا، ولم ترض ألمانيا باحتلال تشيكوسلوفاكيا، ولم ترض روسيا بالقرم. هذه الدول وضعت، وتضع، أعينها على دائرة نفوذ أكبر بكثير مما يمكنها أن تقنع به القوى الديمقراطية، وهنا تقوم الحرب.
لذا، ينتهي «كاجان» إلى أن منح القوى التصحيحية مجالاتٍ أوسع لممارسة نفوذها ليس وصفة لتحقيق السلام والاستقرار، وإنما دعوة إلى النزاع المحتوم. وينبّه إلى أن الولايات المتّحدة لا يمكن أن تمنع الصين من تنمية قوتها الاقتصادية، ولا ينبغي لها ذلك، كما لا ينبغي لها أن تتمنى انهيارًا روسيًا. التنافس بين القوى العظمى في أغلب المجالات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية أمرٌ محمود.
إلا أن التنافس العسكري والاستراتيجي أمرٌ آخر. ولن يكون هناك توازنٌ مستقر للقوى في أوروبا أو آسيا بدون الولايات المتّحدة. يمكننا الحديث عن «القوة الناعمة» و«القوة الذكية»، إلا أنّ قيمتها كانت وستظل دائمًا محدودة في مواجهة القوة العسكرية الفجّة. بدون استعدادٍ أمريكي للاضطلاع بالدور الذي لن تقوم به قوة أخرى، سينهار النظام العالمي تحت وطأة تنافس العسكري بين القوى الإقليمية، مشابهٍ للتنافس الذي شهده العالم في نهاية القرن التاسع عشر. كانت نتيجة الانهيار الأول حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، وربّما تكون نتيجة هذا الانهيار المرتقب حربًا عالمية ثالثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.