تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    مباحثات تجمع العلمي ونياغ في الرباط    أخنوش: تنمية الصحراء المغربية تجسد السيادة وترسخ الإنصاف المجالي    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الأحزاب السياسية تشيد بالمقاربة التشاركية للملك محمد السادس من أجل تفصيل وتحيين مبادرة الحكم الذاتي    رفض البوليساريو الانخراط بالمسار السياسي يعمق عزلة الطرح الانفصالي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    تلاميذ ثانوية الرواضي يحتجون ضد تدهور الأوضاع داخل المؤسسة والداخلية    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«فورين بوليسي»: الطريق إلى الخلف.. نحو حربٍ عالمية ثالثة

في العقد الأول من القرن العشرين، تنبأت أذكى عقول العالم بأن عصر صراعات القوى الكُبرى انتهى إلى غير رجعة. مع الثورات في وسائل التواصل والانتقال، ارتبطت الشعوب ببعضها وتقاربت الدول اقتصاديًا. بعدها بأربعة أعوام، اندلعت الحرب الأكثر تدميرًا في التاريخ، وتلتها حربٌ عالمية ثانية بعد عقود قليلة.
الآن، يبدو الوضع على الساحة العالمية أشبه بما كان عليه قبل الانهيارات السابقة للنظم العالمية. تتزايد طموحات روسيا والصين في تعديل النظام العالمي بما يتوافق مع مصالحهما، في حين يُصاب العالم الديمقراطي بالوهن، وتتخاذل إرادته عن تسيّد الساحة العالمية.
في العقد الأول من القرن العشرين، تنبأت أذكى عقول العالم بأن عصر صراعات القوى الكُبرى انتهى إلى غير رجعة. مع الثورات في وسائل التواصل والانتقال، ارتبطت الشعوب ببعضها وتقاربت الدول اقتصاديًا. بعدها بأربعة أعوام، اندلعت الحرب الأكثر تدميرًا في التاريخ، وتلتها حربٌ عالمية ثانية بعد عقود قليلة.
الآن، يبدو الوضع على الساحة العالمية أشبه بما كان عليه قبل الانهيارات السابقة للنظم العالمية. تتزايد طموحات روسيا والصين في تعديل النظام العالمي بما يتوافق مع مصالحهما، في حين يُصاب العالم الديمقراطي بالوهن، وتتخاذل إرادته عن تسيّد الساحة العالمية.
ومع تصاعد هذين الخطين، فإننا سنصل إلى لحظة ينهار فيها النظام العالمي القائم، ويسقط العالم في هوّة الأناركية الوحشية، بتكلفة هائلة في الأموال والأرواح، والآمال والحريات. متى يحدث الانهيار؟ من المُستحيل أن نعرف. ربما بعد 3 أعوام أو 15 عامًا. لكن من الواضح أننا على الطريق.
عن شبح الحرب العالمية الثالثة، يكتب «بوب كاجان»، المؤرّخ والمؤلّف الأمريكي، بمجلّة «فورين بوليسي».
القوى التصحيحية
القوى التصحيحية Revisionist Powers هي قوىً تشعر بالسخط تجاه النظام العالمي، وتؤمن بأنّ مصالحها الاستراتيجية والإقليمية تكمن في تغييره. لم يخلُ التاريخ من القوى التصحيحية الطموحة التي حاربت النظام العالمي؛ ألمانيا واليابان من أبرز الأمثلة في الحرب العالمية الأخيرة.
في عالم اليوم، أبرز القوى الساعية إلى قلب النظام العالمي رأسًا على عقب هي الصين وروسيا. وفقًا ل«كاجان»، كلاهما يسعى إلى استعادة الهيمنة الإقليمية التي تمتعت بها سابقًا. بالنسبة للصين، يعني هذا الهيمنة على دول شرق آسيا، وانصياع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا لإرادة بكين، وتحرّكها بما يتسّق مع تفضيلات الصين الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. وبالنسبة لروسيا، فالغنيمة هي وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا، والتي لطالما اعتبرتها موسكو جزءًا من إمبراطوريتها أو دائرة نفوذها. ما تسعى إليه بكين وموسكو هو تصحيح ذلك التوزيع الظالم للقوة ومناطق النفوذ والشرق في النظام العالمي ما بعد الحرب.
كذلك تشعر موسكو وبكين بتهديدٍ بالغ الخطورة، يتمثّل في القوى الديمقراطية التي تتسيّد النظام الدولي، والأنظمة الديمقراطية على حدودهما. فالقوى الأوتوقراطية، منذ أيام «كليمنس فون مترينش»، تخاف عدوى الليبرالية. ومجرّد وجود الديمقراطيات على حدودها، والتدفق المعلوماتي العالمي الحرّ الذي لا يمكنها التحكّم فيه، والاتصال الخطير بين رأسمالية السوق الحرّ والحريّة السياسية – كلّها تهديداتٍ لأنظمة حاكمة تأسست على إخضاع القوى المسببّة للاضطراب داخل أراضيها.
لكن القوتين التصحيحيتين ابتعدتا حتى الآن عن مواجهة النظام العالمي مباشرة. والسبب هو القوة العسكرية والاقتصادية التي تتمتّع بها الولايات المتّحدة وحلفاؤها. على الصين مواجهة تحالفٍ بين الولايات المتّحدة، وبين قوى إقليمية قويّة تربطها مصالح استراتيجية مشتركة – من ضمنها اليابان، والهند وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى دولٍ أصغر، مثل فيتنام وأستراليا. أمّا روسيا فعليها مواجهة حلف الناتو بكل قوّته العسكرية. يُمكن للقوى التصحيحية أن تحرز نصرًا مبكّرًا في النزاع، مثل الإخضاع الصيني لتايوان، لكنّها ستضطر إلى الصمود أمام القدرات الإنتاجية لمجموعة من دول العالم الأكثر ثراءً وتقدمًا تقنيًا، بالإضافة إلى الإقصاء من الأسواق الأجنبية التي يعتمد عليها اقتصادها.
يعني هذا أن أي تحرّكٍ عنيفٍ من قِبل الصين أو روسيا كان يهدّد مباشرة بسقوط النظام نتيجة للهجمات المرتدّة، وهو ما وصفه العالم السياسي «ويليام وولفورث» بالاستقرار المتأصل في النظام أحادي القطب: تسعى القوى الإقليمية إلى تغيير الوضع القائم، فتلجأ الدول المجاورة إلى القوة العظمى الأمريكية البعيدة من أجل احتواء الطموحات التصحيحية. هكذا اضطرّت الصين وروسيا في السابق إلى المُشاركة في النظام العالمي وتحقيق المكاسب من خلاله، بدلًا من الانقلاب عليه.
الأعمدة تتهاوى
النظام القائم إذن لا يعتمد فقط على القوة الأمريكية، وإنما ترابط العالم الديمقراطي وتماسكه. وبينما وجب على الولايات المتّحدة لعب دور الضامن الرئيس في النظام العالمي الحالي، فإن جوهره الأيديولوجي والاقتصادي – أي ديمقراطيات أوروبا وشرق آسيا والأطلنطي – وجب أن يظل على ترابطه، وثقته.
لكن نظرة على الأوضاع العالمية الحالية تُظهر تصدّع النظام الديمقراطي بصورةٍ خطيرة. الأوضاع الاقتصادية، وعودة القومية والقبلية بقوة إلى الساحة، في مُقابل ضعف القيادة السياسية وعدم استجابة الأحزاب السياسية الرئيسة، كلّها أنتجت أزمة ثقة ليس فقط في الديمقراطية، وإنما في المشروع التنويري الليبرالي كلّه، كما يسمّيه «كاجان». هو مشروعٌ يُعلي مبادئ الإنسانية المشتركة والحقوق الفردية فوق الخلافات العرقية والإثنية والدينية والقومية والقبلية. مشروعٌ تطلّع إلى اعتمادية اقتصادية متبادلة تخلق مصالح مشتركة عابرة للحدود، وإلى مؤسسات دولية تسوي الخلافات وتسهّل التعاون بين الأمم.
عوضًأ عن ذلك، شهِد العقد الماضي صعود القبلية والقومية، والتركيز المُتزايد على «الآخر» في كل المجتمعات، وفقدان الثقة في الحكومات، وفي النظام الرأسمالية، وفي الديمقراطية. ما نشهده الآن، وفقًا ل«كاجان»، هو نقيض «نهاية التاريخ» التي تنبأ بها «فرانسيس فوكوياما».
التاريخ عاد لينتقم، ومعه عادت كل الجوانب المُظلمة من النفس البشرية، ومن ضمنها التوق البشري الدائم إلى قائدٍ قوي يأتي بالهداية الحازمة في زمنٍ من الارتباك والتفكك.
ربّما كانت أزمة مشروع التنوير ظاهرة حتمية متكررة، ناشئة عن العيوب المتأصلة في الرأسمالية والديمقراطية. يرجع «كاجان» إلى ثلاثينات القرن الماضي، عندما أدّت الأزمة الاقتصادية والقومية الصاعدة بالكثيرين إلى الشكّ في كون الديمقراطية والرأسمالية أفضل من بدائل مثل الفاشية والشيوعية. وليست مصادفة أن أزمة الثقة صاحبها انهيارٌ في النظام الاستراتيجي أفضى إلى الحرب العالمية الثانية.
كان السؤال حينها هو ما إذا كانت الولايات المتّحدة، بصفتها قوة عظمى خارجية، ستُلقي بثقلها من أجل الحفاظ على نظامٍ لم تعُد بريطانيا وفرنسا قادرتين على إقامته، أو مستعدّتين لذلك. والسؤال الآن، هو ما إذا كانت الولايات المتّحدة مستعدّة للاستمرار في إقامة النظام العالمي الذي صنعته، والذي يعتمد كليًا على القوة الأمريكية، أو ما إذا كان الأمريكيون على استعداد للمخاطرة – إن كانوا يفقهون المخاطرة أصلًا – بالسماح بانهيار النظام العالمي إلى هوة الفوضى والنزاع.
نسيان
يقول «كاجان» إن الوقت ما زال مبكرًا لمعرفة تأثير رئاسة دونالد ترامب على المشهد العالمي. ومع ذلك، تُشير العلامات المبكّرة إلى أن الإدارة الجديدة ستسرّع من الخطى في اتجاه الأزمة عوضًا عن إبطائها أو عكسها. موقف إدارة ترامب من روسيا لا يُمكن إلا أن يزيد من جرأة فلاديمير بوتين، ومناصبة الصين العداء ستؤدي ببكين على الأرجح إلى اختبار عزم الإدارة الجديدة عسكريًا.
لكن الشكّ في الاستعداد الأمريكي للتخلّي عن النظام العالمي لم يأتِ مع ترامب، وإنما سبق باراك أوباما نفسه. 25 عامًا مرّت بعد انتهاء الحرب الباردة كانت كافية لتُنسي الكثير من الأمريكيين الأسباب وراء اضطلاع الولايات المتّحدة بهذا الدور غير العادي. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدا توجه «العودة إلى الوضع الطبيعي» في انتخابات 1920 الأمريكية بريئًا وآمنًا، لكن هذه السياسات التي يصفها كاجان ب«الأنانية» ساعدت في تآكل الإرادة البريطانية والفرنسية في مواجه ألمانيا، تهيئة الساحة للاضطرابات التي تمخّضت فيما بعد عن الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن الولايات المتّحدة كانت الدولة الوحيدة القوية بما فيه الكفاية للعب دور صانع السلام في أوروبا وآسيا.
من الصعب على جيل الألفية أن يفهم الأهمية الباقية للهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أو أن يتعلّم شيئًا عنها من كتب المدرسة الثانوية والجامعة، والتي يصفها «كاجان» بأنها مهووسة بالإشارة إلى شرور الاستعمارية الأمريكية. نتيجة لذلك، نفد صبر الرأي العام الأمريكي المُطالب بتحمّل صعوبات الدور العالمي وتكاليفه الباهظة. وبينما لم تفلح الحروب الفاشلة السابقة، في كوريا عام 1950 وفي فييتنام في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكذلك الأزمات الاقتصادية والركود التضخمي في منتصف وأواخر السبعينات – لم تفلح في تأليب الأمريكيين على التدخّل في شؤون العالم، فإن الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان، والأزمة الاقتصادية في 2008، نجحت في ذلك.
في عهد باراك أوباما، كانت الاستراتيجية الأساسية تجاه التدخّل العالمي هي الخندقة. كانت استجابة إدارة أوباما لفشل إدارة بوش في العراق وأفغانستان هي تقليص النفوذ الأمريكي الخارجي بدلًا من استعادته. والمحاولة المبكّرة ل«إعادة ضبط» العلاقات مع روسيا كانت الضربة الأولى لسمعة الولايات المتّحدة باعتبارها حليفًا يمكن الاعتماد عليه، إذ جاءت بعد الغزو الروسي لجورجيا مباشرة، وعلى حساب حلفاء الولايات المتحدة في وسط أوروبا، وفي وقتٍ كانت السياسات الروسية تجاه الغرب – وممارسات بوتين القمعية تجاه شعبه – تزداد قسوة.
ثمّ جاءت الاستجابة غير اللائقة من الغرب تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا والاستيلاء على القرم، لتُشير إلى عزوف الإدارة الأمريكية عن إجبار روسيا على التراجع في منطقة فوذها. وفي سوريا، استدعت الإدارة الأمريكية التدخّل الروسي من خلال سلبيتها، ولم تفعل أي شيءٍ لتثبيط ذلك التدخّل، لتعزّز الانطباع المُتزايد بأن أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط، ذلك الانطباع الذي خلقه الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، والذي يصفه «كاجان» بأنه كان «غير ضروري، وأرعن».
هذا الانسحاب من الشرق الأوسط لم يعزّز من موقف روسيا وفقط، وإنما شجّعت سياسة الخندقة كذلك النفوذ الصيني في شرق آسيا. لم يغب عن أنظار دول شرق آسيا الاتفاقية النووية الإيرانية، وفشل الإدارة الأمريكية في التمسّك بتهديداتها باستخدام القوة ضد الرئيس السوري بشار الأسد. وهكذا بدأ حلفاء الولايات المتّحدة في آسيا يتساءلون: هل من الممكن الاعتماد على الولايات المتّحدة في مواجهة التحدّي الصيني؟
الطبيعة تبغض الفراغ
والفراغ الذي خلقته «الخندقة» الأمريكية من المحتّم شغله. يقول «كاجان» إن هناك خرافة شائعة في الديمقراطيات الليبرالية، تقضي بأن القوى التصحيحية يُمكن ترويضها عن طريق الإذعان لمتطلباتها، لكن العكس هو الصحيح. كلّما شعرت القوى التصحيحية بالأمان، زاد طموحها في تغيير النظام بما يخدم مصالحها. هكذا لم تكتفِ روسيا والصين بالأمان الذي تتمتّعان به من الهجمات الخارجية في ظل المظام العالمي الحالي، وإنما ازدادت عدوانيتهما في الضغط باتجاه مصالحهما، في مواجهة مقاومة أمريكية متخاذلة عن المعتاد.
يُلاحظ «كاجان» اختلافًا كبيرًا في طرق القوتين التصحيحيتين الرئيستين. الصين حتى الآن هي الأكثر حذرًا وصبرًا، تسعى إلى بسط نفوذها ببطء من خلال قوتها الاقتصادية العُظمى، مستخدمة القوة العسكرية المتنامية كمصدرٍ للردع والتخويف الإقليمي، لكن من الخطأ افتراض أن الصين ستستمرّ طويلًا في تجنّب الاستخدام المباشر للقوة العسكرية. يقول «كاجان» إن القوى التصحيحية دائمًا ما تستخدم قدراتها العسكرية المتنامية في اللحظة التي تعتقد فيها بأن المنافع المحتملة تفوق المخاطر والتكاليف. وتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها ضد الحلفاء الآسيويين إنما يُقلل من هذه المخاطر، وبالتالي يزيد من احتمالية استخدام القوة في تحقيق أهداف بكين، وكذلك يقرّب بين الصين وبين دول شرق آسيا.
أمّا روسيا، فبالرغم من أنّها الأصغر إلا أنّها الأكثر عدوانية، وحققت نجاحًا أكبر من الصين في تقويض النظام العالمي. بعد جورجيا وأوكرانيا، والاستجابة الغربية الضعيفة، تلقّت موسكو إشارة الانسحاب، وسارعت بالإدلاء بثقلها العسكري في سوريا. استغلّت هيمنتها على أسواق الطاقة الأوروبية، واستخدمت الحرب السيبرانية ضد جيرانها، لكن الانتصار الأكبر الذي حققته روسيا هو تحقيق هدف تقسيم الغرب وخلخلة استقراره. من خلال تدخّلها في الأنظمة السياسية الديمقراطية، وحرب المعلومات التي شنّتها بضراوة، ودورها في زيادة تدفق اللاجئين من سوريا إلى أوروبا، استطاعت روسيا زعزعة الثقة في الأنظمة والأحزاب السياسية القائمة.
ومن المُغري دائمًا في مثل هذه الأوقات الاعتقاد بأن التعاون المُشترك من الممكن أن يُطفئ نيران التنافسية الجيوسياسية. هو مقترحٌ يُطرح ويُسعى إلى تنفيذه دومًا عندما تُحاول القوى المهيمنة مواجهة تحديات القوى التصحيحية الساخطة، لكنّه نادرًا ما ينجح. قلّما ترضى القوى التصحيحية بأقلّ من الاستسلام الكامل. لم ترض اليابان بالاستحواذ على منشوريا، ولم ترض ألمانيا باحتلال تشيكوسلوفاكيا، ولم ترض روسيا بالقرم. هذه الدول وضعت، وتضع، أعينها على دائرة نفوذ أكبر بكثير مما يمكنها أن تقنع به القوى الديمقراطية، وهنا تقوم الحرب.
لذا، ينتهي «كاجان» إلى أن منح القوى التصحيحية مجالاتٍ أوسع لممارسة نفوذها ليس وصفة لتحقيق السلام والاستقرار، وإنما دعوة إلى النزاع المحتوم. وينبّه إلى أن الولايات المتّحدة لا يمكن أن تمنع الصين من تنمية قوتها الاقتصادية، ولا ينبغي لها ذلك، كما لا ينبغي لها أن تتمنى انهيارًا روسيًا. التنافس بين القوى العظمى في أغلب المجالات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية أمرٌ محمود.
إلا أن التنافس العسكري والاستراتيجي أمرٌ آخر. ولن يكون هناك توازنٌ مستقر للقوى في أوروبا أو آسيا بدون الولايات المتّحدة. يمكننا الحديث عن «القوة الناعمة» و«القوة الذكية»، إلا أنّ قيمتها كانت وستظل دائمًا محدودة في مواجهة القوة العسكرية الفجّة. بدون استعدادٍ أمريكي للاضطلاع بالدور الذي لن تقوم به قوة أخرى، سينهار النظام العالمي تحت وطأة تنافس العسكري بين القوى الإقليمية، مشابهٍ للتنافس الذي شهده العالم في نهاية القرن التاسع عشر. كانت نتيجة الانهيار الأول حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، وربّما تكون نتيجة هذا الانهيار المرتقب حربًا عالمية ثالثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.