{ ماذا تكتب الآن..؟ أشتغل على ثلاثة أعمال، »من نص الحقيقة إلى حقيقة النص«، »بريد الخيانة« »حرائق الجسد«. أشتغل عليها كلها.. بحسب المزاج، وبحسب الأسئلة التي تأتيني وتتبادر إلى ذهني. لكنني، تفرغت خلال الأسابيع الأخيرة لنص كتبته منذ أربع سنوات، وهو نص سردي (لا أستطيع تجنيسه)، أقرب إلى السيرة الذاتية. { إلى أي حد يسعفك هذا الفصل في الكتابة..؟ لا يمكنني أن أتصور السنة (ولا العمر) إلا فصولا. ومن ثم فالصيف يعني عندي القراءة، والربيع موسم لتجديد الأسئلة وإعادة صياغتها.. والخريف فصل للتأمل وطرح الأسئلة. لا يمكن لهذا الفصل إلا أن يكون ملهما بكل المعايير. وفي هذا الفصل، بالذات، يجد المرء نفسه أقرب إلى ذاته بسبب الصمت الذي يفرضه هذا الموسم. أنا كائن تتلاعب الطبيعة ومواسمها بمزاجه إلى حد لا يمكن أن يتصور.. { أي فصل من فصول السنة يلهمك أكثر..؟ الخريف. وأعتقد أن الخريف، حيث أوجد -أعني الشمال الشرقي الأمريكي- له ميزة خاصة جدا.. فالتحولات التي تعيشها الطبيعة، سرعان ما تكتشف امتداداتها في داخلك. وهي تدعوك إلى أن تعمق نظرتك لقضية »الحياة والموت« وقضية »الوقت والزمن«. كما أن هذا الانعكاس الطبيعي يصل مداه إلى أن تعيش نوعا من السبات Hibernation والصمت . فالبرد يدفعك إلى أن تربط علاقة خاصة مع النار والتدفئة.. والنار ملهمة للغاية. وحين تطل في الخارج وترى الطبيعة تتعرى من أوراقها وحرارتها وصخبها، فإن ذلك لا يمكنه إلا أن يشكل كيمياء يعيد صياغتك وصياغة وجودك وامتداداتك كلها..أعتقد أن الخريف هو الموسم الأكثر أصالة، والأكثر عمقا، بل إنه الموسم الوحيد الذي يدفعك إلى أن تبحث عن مواك في داخلك أنت. { أي شعور يعتريك عندما تنهي نصك..؟ لي علاقة غير طبيعية بكل ما كتبته وما أكتبه. فبقدر ما أشعر بالراحة والخلاص، بقدر ما أدخل في قلق مرضي متعب.. لأنني لم أكتب، بعد، ما أريد وأرغب وأطمح في كتابته. { وأنت تكتب هل تستحضر المتلقي..؟ أهتم بالإبداع، وأهتم بالنقد.. وصار اهتمامي، اليوم، أكثر بما هو فكري. فحين أكتب نصا فأنا أكتبه لنفسي، أفترض المتلقي هو أنا، لذلك أنا لست معنيا بالجنس الأدبي، ولست معنيا بتقاليد كثيرة تخص هذا المجال... وحين أكتب النقد، أستحضر القارئ الذي يتقاطع معي نفس الأفق...أدرك جيدا أنني فوضوي في هذا، ولكنني مدرك أنني لست، في النهاية، إلا مشروع متلق، ومن ثم فإن الرغبة في الكتابة، لا يمكن تصورها إلا فعلا تواصليا مع الذات أولا ثم الآخر. { هل تمارس نوعا من الرقابة على ذاتك وأنت تكتب..؟ يعجبني القول المأثور »بالحق يعرف الرجال لا بالرجال يعرف الحق«. على الإطلاق. أقولها وأكتبها كما أعتقدها، ولا يهمني أن يروق ذلك الآخر أم لا. أكتب ما أعتقده وأومن به، ولست معنيا بردود فعل الآخرين. ولعل مأساة الفرد تكمن في عدم قدرته على تحقيق »الحرية«، التي تظل مجرد مشروع لحلم لا وجود له. والقلق يتضخم ويتعمق في اللحظة التي يعي فيها المرء أنه »يكتب« ويمحو« ثم »يكتب« فيمحو.. لأنه يستطيع التخلص من الرقابة، بكل أنواعها.. ولعل أخطر أنماط الرقابة هي التي تصادفها حين تلج عالم النص... تجد نفسك محاطا بكل السلط، بدءا باللغة وانتهاء ب»الفهم«...ونجاح المبدع أو الباحث يبقى رهين قدرته على »مقاومة« هذا الكم الهائل من السلط التي تشتغل، بوعي أو لاوعي...إنه تاريخ من الترسبات الضخمة للرقابات. ولعل أهم وظائف الكتابة هي البحث عن هوامش للحرية بترصد اشتغال السلط الرقابية..سواء الداخلية، أو الخارجية. { إلى أي حد تعتبر الكتابة مهمة في حياتك..؟ بالنسبة لي لم تعد الكتابة مهمة، فقط، وإنما صارت ضرورة. لم أتوقف يوما عن الكتابة، حتى في اللحظة التي »انحرفت« فيها عن القراءة والكتابة (أقصد في إحدى محطات حياتي). ولكن تجربة الهجرة تجعل من فعل الكتابة أمرا آخر تماما. لا أعتقد أن الفرد الذي يعيش في وطنه وفضائه ينتابه نفس الإلحاح والرغبة، اللهم الذي يحيا منفاه الداخلي، بل وضرورة الكتابة. إنها المنقذ الوحيد من الشتات الذي يحياه الإنسان الرحالة في التاريخ. فحين تفقد الأرض، ويصبح اللامكان هو مكانك، ويصبح الزمن منفلتا من قبضتك.. يتضخم شعورك بالفقدان، وتفقد كل شيء... تاريخك، وحاضرك، ومستقبلك، وتصبح ذاكرتك الفردية مهددة بالضياع ... آنذاك ليس لك من ملجأ ولا وطن سوى الكتابة.. وحتى حين تقرأ فإنك تقرأ لتكتب، أو تقرأ لكي تبحث عن ذاكرة »جماعية« تساعدك على الكتابة.. فالكتابة، عند المهاجر/المنفي/الرحالة، مهما تنوعت، أو كان مستواها، فهي محاولة للإجابة على الهم اليومي الذي يتعدد فيه سؤال «كيف سأموت»..؟ مادام أنني غير معني ب»لماذا سأموت«، فإن القضية المركزية عندي صارت «كيف سأموت»..؟ لا يمكنك أن تجيب عن هذا السؤال إلا بالتحايل عليه بخلق بقع من القلق المكتوب...قل هي الكتابة. { الكتابة..ما تعريفك لها..؟ الكتابة قضية كبرى. سؤال لا يرضى بالجواب.. إنها الفعل الذي يحمل في داخله الرغبة الدائمة في توليد الأسئلة ومقاومة التكلس، ومشاكسة العالم وإرباكه.. إنها أحد أكبر الأوهام فاعلية على مر التاريخ. { إلى أي حد أنت راض عما كتبت..؟ كل ما نشرته، حتى يوم الناس هذا، لم أعد إليه... أكاد أتنصل منه..أحيانا أكره ما كتبته ونشرته... أعاني قلقا مرضيا عنيفا، لم أتمكن من التغلب عليه. وهو أنني لست راض على كل حرف كتبته..؟ ستقول لي لماذا تنشره..؟ هذا يدخل في صميم الإجابة عن »الكيفية« التي سأموت بها... { عادة هل تعيد قراءة ما كتبت قبل اتخاذك لقرار النشر..؟ أحيانا.. ولكنني أصاب بالأرق.. وقد خرقت الكثير الكثير.. وتوقفت عن إتمام الكثير الكثير.. غير أن كل إعادة قراءة، بالنسبة لي، شبيهة بتلك الصورة التي رسمها ذو الرمة «أخط الخط وأمحو ثم أعيده بكفي والغربان على الدار وقع». لذلك صرت أكثر استهواء بالغربان والمحو، أما النشر فصار آخر ما أفكر فيه. خالد سليكي في سطور مقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، عضو الجمعية الأمريكية للكتاب وبرامج الكتابة عضو الأكاديمية الأمريكية للشعراء عضو الرابطة الأمريكية لمدرسي اللغة العربية عضو اتحاد كتاب المغرب مدير منشورات »كراسات التنوير« - الصادرة بالولاياتالمتحدةالأمريكية مدير نشر »مرايا من المهجر - الصادرة بالولاياتالمتحدةالأمريكية صدر له: نقد الفكر الديني وإصلاح الإسلام، مؤلف جماعي. بوسطن 2011 تأثيم العقل ومآزق الهوية: قراءة في الجسدالأنثوي والعنف الثقافي. بوسطن 2010 سؤال النص أسئلة القراءة. منشورات وزارة الثقافة المغربية.2009 مزالق التيه. سليكي إخوان 2007 السيرة الذاتية عند محمد شكري: بين استراتيجية الواقع ورهان الكتابة