وأنا أتابع تطورات الأحداث الدولية والإقليمية في موضوع القضية السورية، أثار اهتمامي ما ترتب عن المفاوضات الأخيرة ما بين وزيري خارجية كل من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا. وأهم هذه التطورات في اعتقادي هي «معركة مدينة القصير» والأهداف المرتبطة بها. فطبيعة هذه المعركة الدموية، التي تدور في منطقة إستراتيجية قرب الحدود اللبنانية، جعلت المتتبعين يعتبرونها محطة أساسية في الصراع على صعيد سوريا وعلى المستويين الدولي والإقليمي، محطة يحتمل أن يكون لها تأثير كبير على مستقبل الشرق الأوسط بكامله. ونظرا لسرعة التحولات في الرهانات الجيوستراتيجية على المستوى الدولي، والخاضعة لمنطق تفاعل القوى العظمى بامتداداته الإقليمية والوطنية، لا يمكن التكهن بإمكانية تحقيق رهان جيوستراتيجي محدد ومحسوم مسبقا، بل أعتقد أن المستقبل قد يكون منفتحا على احتمالات بثلاث فرضيات أساسية، الأولى مرجحة جدا، والثانية ضعيفة، والثالثة ضعيفة جدا. فرضية أولى جد محتملة : إن طبيعة الحرب في مدينة القصير ما هي إلا انعكاس لحرب باردة عالمية بمقومات جديدة جعلت العالم ينقسم على المستوى الدولي والإقليمي إلى محورين متصارعين. فمحور الغرب الأمريكي -الأوروبي يقابله مشرقيا محور عربي سني مؤيد تتزعمه العربية السعودية وقطر، ومحور روسيا - الصين يقابله محور شيعي - فارسي مؤيد تتزعمه إيران وحزب الله اللبناني وشيعة العراق. إن معركة «القصير» في هذا الشأن معركة ميدانية حقيقية تتطاحن فيها، بأجندات دولية وإقليمية، جبهتان، الأولى يمثلها النظام السوري مدعوما بإيران وحزب الله ومتطوعين عراقيين من الشيعة، والثاني يمثلها الجيش الحر مدعوما بالدول العربية وبجماعات جهادية سلفية إسلامية أفرادها عرب سنة. إنها حرب مصيرية اعتبرها المتتبعون شاملة ومحددة للمستقبل السياسي بالمنطقة. فإذا انتصر النظام السوري، سيتحول المحور الروسي- الصيني إلى طرف جد مؤثر في مفاوضات مؤتمر جنيف المقبل، أما إذا حصل العكس، فتكون كفة الغرب الأمريكي والأوروبي هي الأثقل والأكثر تأثيرا. أما وضعية «لا غالب ولا مغلوب» فسيترتب عنها نوع من التوازن الجيوستراتيجي يحقق نوعا من توازن القوى إقليميا ودوليا. كما برز، نتيجة تطور الأحداث، أن الشعور بالخذلان قد تسرب إلى صفوف المعارضة المسلحة في سوريا. لقد ازدادت خيبتها مع مرور الوقت، ووصلت إلى أقصاها عندما علمت مؤخرا من الإعلام المقرب من حزب رئيس الحكومة التركي رجب طيب اردوغان ، أن الدولة التركية تتبنى خطة جديدة لا تشترط فيها لا متابعة الأسد ولا إبعاده عن السياسة في سوريا، أكثر من ذلك ورد في الخطة التركية السماح له بالمشاركة في خوض منافسات الاستحقاقات الرئاسية المقبلة بعد تسليمه لصلاحياته الكاملة إلى حكومة انتقالية مشكلة من رجال النظام والمعارضة. فرضية ثانية ضعيفة: كل التطورات التي عرفتها قضية سوريا هي تطورات مرتبة مسبقا ما بين الدول العظمى، والغاية منها هي الوصول إلى سوريا ضعيفة وتوازنات سياسية مقبولة تضمن أمن إسرائيل، بل قد تسرع من وتيرة التطبيع العربي- الإسرائيلي. فبعد إضعاف الدولة القوية عربيا ما بعد عراق صدام، سيبقى الأسد، وسيبقى الوضع السياسي والعسكري في صالح إسرائيل. وهنا يمكن اعتبار الضربة الإسرائيلية الأخيرة لسوريا، وقرار النظام السوري الحاسم بالرد عليها وفتح جبهة الجولان، وما أثير بشأن هذا الحادث من مخاوف، محطة أساسية في الإعداد لمؤتمر جنيف في حلته الثانية. فرضية ثالثة جد ضعيفة: استمرار الصراع الدموي في سوريا إلى أجل غير مسمى. قد صنفنا هذا الاحتمال ضعيفا ، لأنه غير مقبول جيوستراتيجيا، ومُضر بمصالح الدول العظمى المتنافسة، ومُناف لأهداف النيوليبرالية السائدة. خاتمة على أي حال، السيناريو، الأكثر احتمالا في الحسم في القضية السورية، يتجلى في كون الرئيس الأسد سيبقى، ولن يتابع، وسيكون له دور في التسوية السياسية، وسيكون حاضرا في مستقبل سوريا عكس ما جاء في إعلان أبو ظبي الأخير. إن الدرس الأمريكي في الشرق الأوسط وما صاحبه من تطورات منذ عهد بوش الابن يرجح أن تجربة «عراق صدام» لن تتكرر. وعليه، وبدون أدنى شك، ستعرف الرهانات الجيوستراتيجية الدولية والإقليمية منعطفا جديدا. فالخطة التركية، التي تمت صياغتها بعد زيارة اردوغان لأمريكا، والتي طرحت في مؤتمر أصدقاء سوريا في عمان، ستكون موضوع تداول مع موسكو في الأيام المقبلة. إن تقوية موقع تركيا في المنطقة، والمراهنة على فرضية تقارب تركيا - إيران، ستشكلان منعطفا جديدا قد يساهم في رسم معالم جديدة لشرق أوسط جديد، منعطفا سيساهم في تأمين إسرائيل، حيث ستكون عملية دمقرطة النظام السوري حلقة متقدمة في بناء عالم «شرق أوسطي» جديد يسرع من وتيرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وحل القضية الفلسطينية بشروط غربية إسرائيلية، والتقدم في القضاء على الإرهاب بعدما تم التعرف على الجماعات الجهادية ومنابعها في المنطقة.