كيف يمكن لنا اليوم أن نفهم ما جرى في مصر يوم الأربعاء 3 يوليوز 2013 ؟ عاش الشعب المصري انتفاضة حقيقية نزل فيها إلى شوارع المدن والساحات الكبرى 30 مليون متظاهر يطالبون باستقالة من انتخبوه قبل سنة فقط رئيسا للجمهورية . فعلوا ذلك استجابة لدعوة «حركة تمرد» الشبابية التي تأسست في 6 أبريل 2013، وهي من قام بالانتفاضةالتصحيحية، انتفاضة 30 يونيو 2013 . وكانت هذه الحركة تعبر منذ البداية عن رفضها للنهج اللاديمقراطي للرئيس محمد مرسي وتخليه عن مبادىء انتفاضة 25 فبراير 2011 والتي كانت امتدادا لانتفاضة 14 يناير 2011 التأسيسية في تونس. لقد كان مطلب «حركة تمرد» المصرية واضحا جدا ولا يحتمل أي لبس على الإطلاق وهو : استقالة الرئيس المنتخب منذ سنة فقط، والذي خرب ببعض سلوكاته انتفاضة الشعب المصري، وهو الأمر الذي لم ينكره هو نفسه، وذلك حين اعترف في خطابين متتاليين أذاعهما على الشعب والعالم بأنه ارتكب، فعلا، أخطاء في حق الانتفاضة، وفي حق الشعب، وخاصة في حق من انتخبوه، آملين فيه أن يُنْزل مباديء الانتفاضة على أرض الواقع .. ثم حدث ما كان ينبغي ألا يحدث إطلاقا: تدخلت القوات المسلحة المصرية بعد وقائع انتفاضة 30 يونيو تلك وأعطت مهلة 48 ساعة للرئاسة في الجمهورية ولكافة مكونات الجسم الحزبي وعموم السياسيين من أجل أن يتوافقوا فيما بينهم بغاية إيجاد حل توافقي يخرج البلد من الأزمة التي أدخلتها إليه تصرفات الرئيس محمد مرسي اللاديمقراطية. وبالعربي الفصيح كان قادة الجيش يعرفون جيدا أن هناك استحالة أن يجتمع السياسيون بكل تشرذماتهم، ومن ثمة استحالة أن يوجدوا حلا للأزمة في مهلة لا تكفي حتى لتلقي الدعوات. نعم، ما حدث من قبل الجيش كان مخططا له بالكامل . ما حدث مع الأسف هو انقلاب عسكري أبيض استغل الانتفاضة الثانية للشعب المصري والتي لا يمكن أن نتصور أنه كان بعيدا عنها. ما قامت به قيادة الجيش المصري مرفوض من الناحية الديمقراطية. لقد هدم هذا الجيش المسار الديمقراطي الذي دشنته انتفاضة 25 فبراير 2013، وهو المسار الذي قاد إلى صياغة دستور جديد ورئاسة للجمهورية منتخبة بكيفية ديمقراطية شهد الملاحظون في الداخل وفي الخارج على نزاهتها ومصداقيتها. وتبين في ما بعد أن الرئيس المنتخب غير ديمقراطي، نهجه ديكتاتوري، وسلوكه حزبي وليس جمهوريا، يتصرف كموظف في تنظيم «الإخوان المسلمين». عجز عن أن يدرك أنه رئيس منتخب من المصريين، وليس «شخصا معينا من أجل القيام بمهمة «نضالية» حزبية في قمة الدولة» . وهو ما قاده إلى التصرف كمسؤول عن طائفة وليس كمسؤول عن دولة تسهر على مجتمع متعدد المكونات وليست طائفته سوى مكون من هذا التعدد. وتَصَرُف الجيش مع الأسف، كرد فعل على ديكتاتورية الرئيس محمد مرسي، سقط في نفس نهج الرئيس وذلك حين مارس ديكتاتورية الانقلابات العسكرية وتدخل في الحياة السياسية المدنية للجمهورية بطريقة ديكتاتورية، حتى وإن كان قد اعتمد كمسوغ لهذا التدخل على شعبية المطالب التي عبرت عنها انتفاضة 30 يونيو .. إننا لا نستطيع إذا كنا نؤمن فعلا بالديمقراطية كفلسفة في الفكر والسلوك و القيم وكخيار في تدبير شؤون المواطنين وكنظام حكم بمبادئه المعروفة، أن نقبل بتدخل الجيش في الحياة المدنية للدولة، فبالأحرى أن نقبل بانقلاب عسكري . كان على القوات المسلحة المصرية أن تترك «حركة تمرد » ، وانتفاضتها التصحيحية ، في مواجهة ديكتاتورية الرئيس محمد مرسي وتَغَلٌبية تنظيم «الإخوان المسلمين» . وكان مطلوبا من الجيش أن يكتفي بحماية المتظاهرين من بطش تنظيمات «الإخوان المسلمين» ، وهو ما كان سيقود حتما إلى إقالة محمد مرسي .هل هو أقوى من الرئيس السابق حسني مبارك الذي يُعْرف أكثر ما يعْرف بعناده الشديد والذي كان لا يجد أي حرج في التفاخر به ؟ وفي كلمة هل هو ، ومعه تنظيمه الحزبي الديني ، أقوى من انتفاضة شعبية حقيقية نزلت بكل أطياف مكوناتها وبهرت العالم كله . هل عرف التاريخ البشري كله هذا العدد المخيف من المتظاهرين؟ ما الذي كان بإمكانه أن يفعله هذا الرئيس أكثر مما فعل من سب وتهديد وطعن في المؤسسات والأشخاص المختلفين معه سياسيا وإيديولوجيا . لقد أبان خطابه ما قبل الأخير أنه كان قريبا من التسليم بالأمر الواقع . كل ما سبق يجعلنا نعتقد أن الجيش بانقلابه العسكري أساء كثيرا لانتفاضة 30 يونيو العظيمة قبل أن يسيء إلى الديمقراطية التي هي الكفيلة بإزاحة مرسي وألف مرسي.أساء الجيش للانتفاضة وللديمقراطية وقدم خدمة مجانية ما كان يحلم بها تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر كما في كل البلدان التي يحكمون فيها بتسميات حزبية مختلفة والذين بدأت الشعوب تكتشف بخصوصهم زيف شعاراتهم وتهافت فكرهم وتواضع ادائهم في تدبير السلطة وفي الرغبة المتلكئة للقضاء على الفساد الاقتصادي والفساد السياسي والفساد الأخلاقي . تبين لهذه الشعوب أن كل ما يقدرون عليه هو صياغة الخطابات الشعبوية والتباكي وتسييد خطاب المظلومية التي يعتقدون عن وهم أنها قوتهم حين يكونون في تدبير الشان العام مثلما هي قوتهم وهم في المعارضة . وملاحظاتنا هذه لا نتفرد بها إذ أصبحنا نسمعها حتى من أفواه بعض ممن ينتمون لتنظيماتهم ويؤمنؤن بإيديولوجيتهم المستخلصة من تأويلهم الخاص للدين . في 28 يونيو 1991 أطلق الزعيم الجزائري الإسلامي عباسي مدني نداءه من أجل خوض ما سماه في ذلك الوقت «جهادا» وقد استجيب له على الفور لكي يتحول هذا «الجهاد» إلى حرب إرهابية قذرة قتل فيها الإسلاميون المفكرين والكتاب والفنانين والمعلمين والأساتذة والأطباء والمهندسين والمسيحيين ولم يخجلوا في أن يقوموا بتصفية وقتل واغتيال الفتيات والنساء من الراشدات وحتى الأطفال في المدارس . بعد اعتقال وسجن وحرية راح عباسي مدني إلى الخليج ليعيش حياة هنية هانئة لكن القتل في الجزائر حتى وإن خفت هذه السنين الأخيرة فإنه ما زال مستمرا. وقتها قال المغفور له الملك الحسن الثاني وهو يُسْأَل من طرف صحفي فرنسي عن رأيه في إيقاف العملية الديمقراطية في الجزائر، فأجاب هكذا : لو كنت مكان الجزائريين لما أوقفت المسار الديمقراطي ، ولتركت الإسلاميين يحكمون ويكتشف الشعب بنفسه برنامجهم وكفاءاتهم ومقدار ما يستطيعون الوفاء به. لكن اختيار مسؤولي الجمهورية الجزائرية كان لهم رأي آخر وسلوك آخر واللذان كان من مآلاتهما الحرب الأهلية الجزائرية التي اشرنا إلى بعض أفاعيلها . وفي 19 ابريل 2007 جاء إلى السلطة في الجمهورية الموريتانية محمد ولد الشيخ عبد الله بطريقة ديمقراطية حقيقية تجري لأول مرة في التاريخ الموريتاني، بل والمغاربي، بل والعربي . كان لها وقع جد إيجابي علينا نحن في البلدان المغاربية واحتفينا بها أيما احتفاء . واكثر من ذلك اعتبرناها فتحا في مجال مخصوص للغرب وحده . لكن لم تمض سوى خمسة عشر شهرا ليأتي من أوقف المسار الديمقراطي في موريطانيا على النحو الذي وقع في 6 غشت 2008 . هل قَدَرُ العالم العربي- الأمازيغي هو أن يعيش على الدوام وهو يدفع صخرة سيزيف وكلما أوصلها إلى ما يقرب من الهدف تسقط إلى السفح ؟ في المغرب كما في تونس ، وهما بلدان عرفا نفس انتفاضات مصر، التأم ممثلو حساسيات وتوجهات متعددة ومختلفة من أجل وضع دستور ناتج عن انتفاضة الشعب . أما في مصر فقد تفتقت ديمقراطية «الإخوان المسلمين» عن شيء عجب : دستور خاضع لمنطق الأغلبية والأقلية ؟!! وأية اغلبية ؟ أغلبية قائمة على استفاء كانت بنسبة أقل من 12 في المئة. وماذا كانت النتيجة ؟ انسحب الأقباط المسيحيون ومعهم التيار الليبيرالي الواسع مسنودين بكل تيارات اليسار . وهكذا بدا كأن الإخوان المسلمين يؤسسون لوضع يكون طابعه اللاإستقرار ما دام الدستور لا يمثل الشعب بقدر ما يمثل تيارا من بين تيارات متعددة وسط الشعب . والحال أن هذين الأمرين يخصبان تربة يصبح معها الإصلاح صعبا والتنمية شبه مستحيلة .لماذا تراجع جزء ممن صوتوا على الإخوان المسلمين عن استمرار تأييدهم لهم ؟ لأنهم لاحظوا أن ما يهم الإسلاميين هو السيطرة على مفاصل الدولة وليس العمل على ابتداع الحلول لمشاكل الشعب . كانت هذه غلطتهم الكبرى . كل هذا واضح اليوم . وما هو أقل وضوحا ويمثل خطأ جسيما ارتكبه قادة الانتفاضة الأخيرة في نظرنا وهو هذا التعاطف مع ما أقدمت عليه القوات المسلحة . لم يتساءلوا عن خلفيات تدخل الجيش وقيامه بانقلاب أبيض . هل فعلت هذا لصالح الانتفاضة ؟ هل قامت بذلك من أجل مناوءة الإخوان المسلمين ؟ أبدا ، لا هذا ولا ذاك. كانت الغاية من الانقلاب إيقاف الثورة وإجهاض المدى الأوسع الذي كانت ستتخذه والذي كان سيكون ليس إسقاط محمد مرسي فقط ، بل إسقاط كل بقايا أعمدة النظام القديم . وهو الأمر الذي لا يروق للقوى العسكرية التي نظمت ونفذت الانقلاب مع الحرص على التظاهر بمساندة الشباب الثائر والتظاهر بالتعاطف مع التيارات التي ترفض الأصولية .لقد مس الجيش بالديمقراطية ولطخ نظافة الثورة سواء في فصلها الأول او فصلها الثاني . ومما زاد في حدة هذين الأمرين اعتقال الرئيس (إن صحت الأخبار) واعتقال 300 منتسب لجماعة الإخوان المسلمين . لماذا؟ للإساءة للثورة؟ ربما ... كل ما قام به الجيش لحد الآن هو الطعن - ضمنيا ? في الثورة وتقوية التيار اليميني المحافظ بزعامة مرسي الذي قُدمت له خدمة جليلة ما كان الإخوان المسلمون يرونها حتى في الأحلام . إن مرسي ليس هو أليندي في الشيلي في السبعينات من القرن الماضي . ومع ذلك ها نحن نراهم يمنحونه هذه الشهادة . والحقيقة أن المطلوب من شباب الثورة هو إعادة ترتيب كل شيء . ومثلما كان يقول مناضلو السبعينات اليساريون : إنها المهمة الأكثر استعجالا . وبدونها سيعمل التاريخ على خلق منعطفات غير متوقعة ... وعلى مقربة من هذه المنعطفات أو على مبعدة منها ،- لاندري - يحسن بنا أن نعيد التأكيد على بداهات اعتقدنا عن خطأ انها ما عادت في حاجة إلى التذكير بها .الجيش والديمقراطية خطان لا يلتقيان . إن الأمر الوحيد الذي يضمنه الجيش فضلا عن وظائفه ومهامه المعروفة هو علمانية الدولة باعتبار هذه العلمانية مفيدة للجميع علمانيين وإسلاميين وليبيرليين ويساريين وقوميين . ثم ، الديمقراطية خيار نهائي وعلى ضوء هذا الخيار يفيدنا كثيرا دعم وتقوية التيار الإسلامي الديمقراطي المعتدل . لقد بذلنا نحن العلمانيون جهودا مضنية من أجل الإقناع بفضائل الديمقراطية في وسط الإسلاميين وهو التيار الذي أصبح موجودا، بل وأصبحت له رموزه المشهود بصدقيتها ونزاهتها ، وانتصر هذا التيار على الخيار الآخر الذي كان يهزؤ من الديمقراطية ويعتبرها كفرا . ولكن ها هو الجيش ينسف هذا الجهد إلى درجة أننا نخشى من عودة قوة التيار اللاديمقراطي في وسط الإسلاميين . صحيح أن الأمر مستبعد لكنه وارد . مستبعد لأن الإسلاميين أدركوا هم الآخرون أن ترسيخ فكرة الديمقراطية معركة نفسها طويل جدا وثمنها باهظ للغاية . وفي هذا الأمر تحديدا المعركة مشتركة.