لنحدد في البدء ما الذي يعنيه المصطلح (فن إسلامي). لقد مرّ هذا التعبير بتطورات وتغيرات منذ أن تأسس العلم الجديد الذي سيسمى في أوربا (بتاريخ الفن). هذا التاريخ هو اختراع غربي من دون شك. ففي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان الباحثون والمتخصصون يستخدمون مصطلح (الفن العربي). وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث تأخر نضوج وتبلور الاستشراق كان يجري استخدام مصطلح آخر هو (الفن المحمدي). ومنذ أن أدرك الباحثون الغربيون أن ثمة إضافات كبيرة في تكوين الفن الإسلامي قادمة من شعوب ليست من الشعوب بالعربية فقد تبنوا مصطلح (الفن المسلم) المستخدم اليوم في التصنيفات المكتبية في بلدان مثل فرنسا وسويسرا الروماندية. سوى أنه صار يجري منذ بعض الوقت استخدام (الفن الإسلامي). يحاول المصطلح (الفن الإسلامي) في تقديرنا أن يغطّي ويصِفَ أسلوباً فنياً لا تخطئه العين. أسلوبٌ يستند، إذا ما تحدثنا عن ما هو تجريدي في فن الإسلام، على زخارف نباتية وهندسية صارت علامة فارقة له، ويتميز، إذا ما تحدثنا عن ما هو تشخيصي فيه، بإجمالية في تقديم الشخوص لا تختلف إلا لماماً في إطارها العريض عن إجمالية العصور الوسيطة كلها. تطرح الصفة (الإسلامي) مشكلة ظاهرية لأنها تبدو وكأنها تربط الفن بالدين وتبدو وكأننا تنظر إلى ديننا الإسلامي الحنيف كما لو انه ينهمك وينحني فحسب على الروحاني المتسامي لوحده وهو أمر ليس بالدقيق تماما لأنه يتضمن الروحاني وينشغل بتفصيلات الدنيوي مرات بأدق التفصيلات. ليس المصطلح دينياً لسببين : الأول: إن هذا الفن بتعبيراته ومواده وحوامله وأماكن عرضه لم يكن مهموماً لا بإيضاح ولا بشرح ولا بالتبشير بفكرة دينية، كما هو حال (الفن المسيحي) مثلاً. الثاني: لهذا السبب فإن تشخيصيته figuration وتمثيله للعالم تحضر في مجالات متنوعة لا علاقة للدين الإسلامي الحنيف بها وتذهب من حقل الرسوم التوضيحية في علوم النبات والميكانيك (في كتب مثل «خواص العقاقير» و»كتاب الحيل الهندسية») إلى الرسوم الجنسية الموجود بعضها حتى اليوم (مثل عمل تخطيطي من العصر الفاطمي في مصر، القرن التاسع الميلادي عُثر عليه في الفيوم موجود في المكتبة الوطنية في فيننا [Nationalbibliothek, no. Ar.25612]) أو تلك التي تتكلم عنها كتب التاريخ، مثل تلك الرسوم الجنسية الفاضحة التي يخبرنا عنها الكوكباني، من بين آخرين، في كتابه (حدائق النمّام فيما يتعلق بالحمّام) التي كانت مرسومة في بغداد، نحو سنة 1284، في قصر الملك شرف الدين هارون. بعض هذه الرسوم ربما تكون نسخاً عربية من الكاموسوترا الهندية المشهورة التي يبدو أن شيخاً جليلاً مثل السيوطي قد رآها بدليل انه يقول في رسالته (نزهة المتأمل والمرشد المتأهل في الخطيب والمتزوج): «ولا يُجامع في الماء، فإن حكماء الهند يكرهونه، ويحكمون عليه بعدم اللذة، ولذلك لم يضعوا له صورة في كتبهم». يتبقى أن التجريد قد جرى تأويله دوماً كتعبير عن تجلٍ للمقدَّس وتسامٍ بالدنيويّ إلى مصاف الروحانيّ. يمكن أن يكون هذا التأويل صحيحاً. ولكنه لا يضع (الفن الإسلامي) على قدم المساواة مع (الفن المسيحي) بوجهاته التبشيرية تلك، وإنما يضعه في مصاف فنون الشرق القديم المهمومة بالتعبير عن (المقدّس) وليس عن (الطبيعيّ) أو (الواقعيّ). ولكي نتجنب المزيد من الجدل العقيم حول الحدود التي يشتمل عليها الفن الإسلامي فسوف نسمي فناً إسلامياً جميع القطع المصنفة حالياً من طرف متاحف العالم والمجاميع المعروضة للجمهور تحت هذا العنوان. إن القطع الفنية الإسلامية تبدو (بالمقارنة مع القطع المعروضة في صالات الآثار على سبيل المثال) وهي تمتلك ما سنطلق عليه وجهة جمالية واضحة. وجهةٌ مشدّدٌ عليها عبر إحكام للصنعة ودقة في التنفيذ. هذه القطع تجيب على معايير قطعة فنية جرى تقديم تعريف محدِّد لها من طرف مؤرخي الفن وعلماء الجماليات، خاصة لجهة فرادتها وعدم وجود نسخة أخرى منها. وإذا ما كان مفهوم الأصالة (بمعنى الأصل وليس بالمعنى الأيديولوجي المستخدَم في الفكر العربي المعاصر) originality وهو واحد من معايير القطعة الفريدة، ينضبط بدوره حسب ميشيل ميلو بفكرتين اثنتين هما الوحدة unicity (أو وحدة الوجود في مقام آخر) أي عدم التجزؤ، ثم الموثوقية فإن قطع الفن الإسلامي تجيب بجدارة عن هذين الشرطين. في تاريخ الفن الإسلامي دخلت هذه القطع إلى السوق التجاري بصفتها قطعاً وحيدة فريدة، وبصفتها عملاً لفنان واحد، وليس كعمل مشترك تدخلت بتنفيذه أكثر من يد واحدة. هذا ما تبرهن عليه تواقيع الفنانين المسلمين على الكثير من القطع. إن تقسيم العمل لتنفيذ عمل فني (إسلامي) لم يحدث إلا في وقت متأخر في صناعة المنمنمات الإيرانية. مثال الواسطي الأكثر شهرة يبرهن أن الفنان، كما كتب هو بخط يده، قد قام بخط ورسم المقامات من دون اشتراك شخص آخر معه. في حالات أخرى كانت القطع تُنتج تحت إشراف أستاذ محترِف وتنفذ على يد تلامذته الأمر الذي يعني أن العمل هو من إبداعه بالضبط مثلما كان عمل مُصلّى (السكستين) إبداعا شخصيا لمايكل أنجلو رغم انه قد نُفِّذ على يد منفِّذين آخرين. يتضمن حقل عمل الفن الإسلامي أشكالا هندسية ذات استخدام جمالي محض، ويذهب إلى مجالات وظيفية عادية. وفي يقيننا فان الخصيصة الأكثر أهمية في الفن الإسلاميّ هي التالية: التداخل و(التماهي) بين ما هو جماليّ وما هو وظيفيّ. جميع أعمال الفن الإسلامي هي في آن واحد ذات وظيفة وذات قيمة جمالية بحيث انه يصير من المستحيل تقريباً الفصل بين هاتين الوجهتين في غالبية الأعمال المعروفة لدينا. من زاوية الوظيفة الآن يمكن أن تأخذ قطع الفن الإسلامي اتجاها روحانياً جد سامِ مرةً (تزيين النص القرآني) ومرة جد عملي (تصميم مقلمة مثلا وثمة مقلمة في المتحف المصري هي آية في الجمال وكان يستخدمها الكاتب القلقشندي) ومرة يأخذ اتجاهاً سنقول تصنيعياًً فيه الكثير من العادية (صناعة جرّة أو صينية نحاسية). لكننا في جميع القطع نجد أنفسنا إزاء نوع من البلاستيكية الموضوعة في خدمة وظيفة ما. أن تقديم تفسير روحاني أحاديّ الجانب للفن الإسلامي، كما حاول الباحث بوركهارت أن يفعل بحذاقة ومعرفة ومحبة، هو أمر محفوف بالصعوبات والمزالق. ليس الفن الإسلامي فن العمارة الدينية فحسب ولا لما يمكن أن نسمّيه بالفن التجريدي أو الزخرفي. إن الحمولة الاجتماعية للتجريد الإسلامي كانت التسامي بمشاعر الناس بشكل أساسي. كل منتوجات الفن الإسلامي تتميز من جهة أخرى بذات السمات اللونية والأسلوبية التي خلقت إجماعاً لدى المؤرخين بأن يضعوا تحت اسم (الفن الإسلامي) موادَ جد متنوعة من ناحية الملمس ومتباعدة في الجغرافيا والتاريخ. من وجهة نظر علم الاجتماع فان هذا (التداخل) بين الوظيفي والجمالي كان، في الغالب الأعم، جهداً واعياً من أجل إحلال فكرة (التناسب المثالي) وفكرة الهارمونية في النسيج الاجتماعي. كان إخوان الصفا يلحون في القرن العاشر الميلادي على ضرورة تعميم هذه الهارمونية المثالية في كل مناحى الحياة. وكانوا يجدون التجلّي الأفضل لها في علم الهندسة، والعلم المشتق منه حسب رأيهم علم الموسيقى. لنلاحظ الآن العلاقة بين علم الهندسة ودقة تنفيذ الزخارف الهندسية الإسلامية. كان الإخوان يلتقون هذا التناسب كذلك في الممارسات الحرفية التي تستدعي وضع الخامات بطريقة متوازنة: في أشغال النجارين وفي تصنيع الحاجات اليومية وفي بناء المنازل. وفي رسائلهم ثمة فصل مكرس للنسبة المثلى أو النسب الفاضلة على حد تعبيرهم. تتمحور فكرتهم بالأحرى محول وجود نوع من تناسبية في الكون كله وفي الفن والصناعات الحرفية بالنتيجة. كان الجسد الآدمي يؤخذ كموديل مثالي لهذه التناسبية انطلاقا من المفهومة الإغريقية (microcosme أي العالم الطفيف على حد تعبيرهم إزاء ال macrocosme أي العالم الكبير). إن استنتاجات الإخوان جد مفيدة لأنها تمس مباشرة حقل الفن في الإسلام. أنهم يقولون لنا التالي: «ومن أمثال ذلك أيضاً أصباغ المصورين، فإنها مختلفة الألوان، متضادة الشعاع، كالسواد والبياض والخضرة والصفرة وما شاكلها من سائر الألوان، فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها على بعض على النسبة، كانت تلك التصاوير برّاقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة كانت مظلمة كدرة غير حسنة». «ومن أمثال ذلك أيضاً أعضاء الصور ومفاصلها فإنها مختلفة الأشكال، متباينة المقادير، فمتى كانت مقادير بعضها من بعض على النسبة ووضع بعضها من بعض على النسبة كانت الصورة صحيحة محققة القبول». «النسب الفاضلة هي المِثْل، والِمثل والنصف، والمثل والثلث، والمثل والربع، والمثل والثمن (...) ومن أمثال ذلك صورة الإنسان ونسبة هيكله، وذلك أن الباري، جل جلاله عمل طول قامته مناسباً لعرض جثته، وعرض جثته مناسباً لعنق تجويفه، وطول ذراعيه مناسباً لطول ساقيه، وطول عضديه مناسباً لطول فخذيه، وطول رقبته مناسباً لطول عمود ظهره، وكبر رأسه مناسباً لكبر جثته». ثم يحددان بدقة في «فصل في تناسب الأعضاء على الأصول الموسيقية» هذه النسبة مُطبَّقةً على جسد الطفل : «فكان طول قامته ثمانية أشبار بشبره سواء [أي بشبر الطفل] فمن رأس ركبتيه إلى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه إلى حقويه شبران، ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران . فإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وُجِدَ ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار». مستنتجين النتيجة الباهرة التالية : «وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناع والحذاق مصنوعاتهم، من الأشكال والتماثيل رالصور، مناسبات بعضها لبعض في التركيب والتأليف والهندام، كل ذلك إقتداء بصنعة الباري..». يتوجب فهم عبارتهم (إقتداءً بصنعة الباري) كإحالة على الطبيعة في الفلسفة اليونانية، أي على فكرة محاكاة الطبيعة المعروفة جيدا في تاريخ الفن الغربي إلى يومنا هذا كمبدأ أساسي من مبادئ الفن. وبعبارة أخرى فإننا أمام مشكلة الرسم التشخيصيّ بعينها أو أمام التمثيل المُحاكي représentation في الفن الإسلامي.