غزة قسطنا من السماء ومن الأسطورة وقطعة اللحم النبوي الوحيد في جحيم الأرض.. ومع ذلك، لم تشته غزة أن تكون قطعة من أرض مقدسة ولا تربة لميلاد المسيح مجددا: تريد أن تعيش كما تعيش المدن البسيطة، وتترك خلفها شعوبها وتاريخ الغزاة فيها. من نفق في الزمن يعود إليها جنود الغزاة: يضع الكنعانيون حجرها الأول، ثم يموت الفراعنة والأغريق والرومان والبيزنطيون على أسوارها، قبل أن يتركوا في لحمها خريطة دمها نصب أعين التتار الجدد في تل أبيب. اختصها التاريخ بأفدح عتاته، ومع ذلك تصر أن تكون مدينة على البحر، لا على الحرب.. لكنهم لا يتركونها تبقى عادية كما تريد: يجبرون غزة على أن تكون أرض للخرافة والجبابرة .. و مسقط السماوي في تربته السفلى، و عودته إلى جسده الأرضي.. كل شيء فيها يحيل على .. لاشيء فينا: موتها تعيد تعريف حياتنا، وعطشها يعيد تركيب مائنا، وظلامها يعطي للضوء أبجدية جديدة، وأنانيتها الشهيدة تشير إلى ..ميلادنا القصري في زمانها. ما كان لغزة أن تكون، لو لم يكن في العرب دول جبانة وعرب تحب أن تموت باكية على ما لم يعد فيها: بطولتها. ما كان لغزة أن تكون، لو لم يكن العالم تفاحة يدب الدود فيها، ويسرق الأضواء من .. التفاحة ذاتها. نطلب من غزة ما لا نستطيعه: الموت الذي يليق بالبشر. لهذا تموت وتموت وتموت، حتى تملأ التابوت الطويل الطويل الطويل من أطرافها إلى أطرافها. لا أحد يموت بعزها، لا أحد يموت، الناس غيرها يفنون فقط، ينتهون مثل أشرطة مكررة بعد أن ترمي ساعة الرمل حباتهم في الفراغ. --- تقتل إسرائيل طفلا على رأس كل ساعة، هكذا تقول المذيعة فيعود التاريخ من نفقه الطويل: كان فرعون قد قرر أن يقتل الأطفال في مصر القديم..، وكما نجا موسى نجت الطفلة شيماء من بطن أمها التي ماتت تحت القصف. لا تدرك الوحشية الإسرائيلية أنها تنسف الأساس الديني لبنيانها، وأن يهود التوراة والقرآن يولدون من بين الصلب والأنقاض في صفة الفلسطينيين. كانوا أبناء المسيح، ابن مريم ، ولدته أمه، بدون أب، والطفلة ولدتها أمها.. بدون أمها! إسرائيل تقتل الأطفال، وسوف ينجو موسى من بين القتلى، وسيتربى في أحضان قصور فرعون وسينسفها.. إسرائيل تحرق الذين وضعهم حظهم في الطريق الذي يلي المحرقة التي أحرقت اليهود : إسرائيل تحرق العائلات بكاملها في المحرقة لا تشبه جثثها ما تحفظه الصور.. في محرقة غزة، لا يلحق الأطفال قطار الزمن: لا ينهزمون، ولا يعتقلون. ولا يصلون إلى الشيخوخة، ولا يهزلون على مهل وعلى مرأى الجلاد.. ولا يلتصقون بصور بالأبيض والأسود في انتظار الحلفاء. في محرقة غزة لا يلحقون بالزمن، ولا يجدون الوقت الكافي لكي يحترقوا بعيدا عن أهلهم.. يموتون بين الحجر والحجر بعيدا عن أعين الغزاة، تحت النيران وتحت .. التراجيديا. ----- كل مقومات النبوة موجودة: جد النبي هاشم، نائم بين الأحياء. أطفال يولدون بدون أمهات، لا نبي قبلهم ولد من أم ميتة... ولا نبيا هربته أمه في إيناء الموز إلى دار القاتل.. التكنولوجيا الحديثة عوضت المرضعات في قصص الأنبياء، وعوض الطبيب، ملاك السماء. أول من يسمع طفلة تصرخ أول صرخة تحت الطائرات: يا إلهي كم تطورت صرخة آدم الأولى، وكم تطورت قدرته على الموت صبيا .. الذين سيموتون بعد قليل يسألون: أين سندفن الموتى .. وينسون قبورهم. في غزة مفارقة البطولة بين السماوي والمأساوي: لا شيء خارج النبوءة أو الأسطورة، ولا شيء من النبوة أو من الأسطورة: إنه شعب من محافظ وأقلام رصاص وأراجيح وحليب يموت تحت تصفيقات الديبلوماسيين الباردة. في كل النبوءات، كان ليوسف إخوة: يغارون، يثورون، يرمونه في الجب، يكذبون يتهمون الذئب خلسة.. لكنهم كانوا إخوة يوسف في السماء، وفي الكتب، وفي مخيلة أورشليم.. يوسف في غزة يرث المأساة ولا يرث الإخوة: الإخوة لهم قتلاهم في عاصمة الآشوريين، وفي دمشق، الإخوة لهم جبهم يرمون فيهم أمهم.. يوسف في جب مقلوب، أسفله على أعلاه . يوسف في مدينته، بلا رؤيا وبلا سجناء، وبلا أنبياء يروون حديثه.. يوسف في غزة ...ليس نبيا يوسف في غزة ........شهيدا.