"الإقصاء المؤقت".. بنموسى يكشف عقوبات الأساتذة الموقوفين    "أطلنطاسند" تطلق منتوجا جديدا يستهدف المقاولات الصغرى والمهن الحرة    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    لطيفة رأفت أمام قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    الدرهم يرتفع بنسبة 0.85 % مقابل اليورو    حكيمي ثاني أفضل إفريقي في "الليغ 1"    المنتخب المغربي يستقبل زامبيا في 7 يونيو    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    سائق سيارة يدهس مواطنين في أكادير    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    أحزاب الأغلبية ترشح التويمي لخلافة بودريقة في رئاسة "مرس السلطان"    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    "التسمم القاتل".. ابتدائية مراكش تؤجل المحاكمة وترفض السراح المؤقت للمتهمين    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    صحيفة "ماركا" الإسبانية: إبراهيم دياز قطعة أساسية في تشيكلة ريال مدريد    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    المغرب يحتفي بالذكرى ال68 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    تحليل آليات التأثير الثقافي في عصر الرقمنة    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    هام لتلاميذ البكالوريا بالناظور.. هذه هي تواريخ الامتحانات والإعلان عن نتائجها    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    المهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة يحتفي بالسينما المالية    محامو المغرب يدخلون على خطّ اعتقال محامية في تونس.. "اعتقال الدهماني عمل سلطوي وقمعي مرفوض"    إضراب وطني يفرغ المستشفيات من الأطباء والممرضين.. والنقابات تدعو لإنزال وطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    سي مهدي يثور في وجه بنسعيد    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    قنصلية متنقلة لفائدة مغاربة إسبانيا    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    الأساطير التي نحيا بها    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    الاشتراكيون يفوزون في انتخابات إقليم كتالونيا الإسباني    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    لماذا قرر حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم أن لا يخوض الانتخابات في إقليم كشمير؟    ما الذي قاله مدرب نهضة بركان بعد الانتصار على الزمالك المصري؟    "إغلاق المعبر يعني أن أفقد قدمي الثانية" شهادات لبي بي سي من مرضى ومصابين في رفح    كرة اليد.. اتحاد طنجة يتأهل لربع نهائي كأس العرش    إبراهيم صلاح ينقذ "رين" من خسارة    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد وممكنات الذات
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 12 - 2017

إن الشخصيات لا توجد خارج الروائي، إنها موجودة في أناه، ولكنها تستعير ضمائر بديلة لكي تستوعب التعدد داخله. فنحن نتمنى أن نعيش كل التجارب، وأن نحيى بذلك كل الحيوات الممكنة/ وهو أمر لا يستطيع عمرنا الافتراضي استيعابها جميعها.

لا يمكن للذات أن تكون مصدرا موثوقا للحقيقة، كما لا يمكن للضمير الدال عندها على القول المباشر (الأنا) أن يكون قادرا على استحضار كل السياقات المستمدة من معيشها الواقعي أو من عوالم الاستيهام. فالحياة أغنى من كل أشكال التمثيل، وأوسع من الذاكرات الواعية، فهي لا تُقاس في العادة على ما أُنجز فيها فحسب، بل تتسع لكي تشمل كل الممكنات، ما ضاع منها إلى الأبد، وما ظل كامنا في النفس في شكل أحلام أو أوهام أو إحباطات.
لذلك، كان السرد التخييلي دائما محاولة لتصوير الممكن في الوجود، وليس رغبة في استنساخ واقع عارض، أو هو محاولة لاستعادة بعضٍ من تفاصيله. فما يحاول الروائي الإمساك به هو مناطق لا ترُى في المعيش، إنها تقع بين هذا وذاك، بين الواقعي والتخييلي، تلك الفجوة الرفيعة الفاصلة بين الاستيهام والحقيقة. ففي هذه المناطق تستوطن سلسلة من الحاجات التي لم تتحقق كليا، أو لم تتحقق بشكل سليم أو استبطنها الوجدان في شكل صور غامضة لا تُسلم مضمونها الحقيقي إلا في النادر من الحالات. وقد يكون ذاك هو السبب الذي يدفع الناس إلى قراءة الروايات والاحتفاء بعوالمها « الكاذبة». ذلك أن « الحياة هي ما يقوله الفن، إنها محاكاة له، وليست مصدرا من مصادره» (أوسكار وايلد). لذلك لا ينتج فنا من يُصور لنا نسخة من حياة نعرفها، فما يأتي من عين الفنان هو عالم آخر، إنه حاصل المزج بين كذب «حقيقي» وواقع «مزيف».
استنادا إلى ذلك لا يقوم الروائي، في جميع حالات التشخيص السردي، بمحاكاة عالم «الأفعال» في الحياة، كما لا يصف موجودات الكون، كما هي في الواقع، أو كما ترتسم في الذاكرة القريبة أو البعيدة؛ إنه يقوم، من خلال هذا التشخيص، بإعادة بناء الحياة فيما هو أوسع من دوائر الذات، أو خارج ما يأتيها من محيطها المباشر. لا يتعلق الأمر ببعث الحياة في حقائق ثابتة في الوجود، بل هو تصوير « لممكنات» فقط، ما كان من الممكن أن يكون، أو ما كان يجب أن يكون، أو لا يجب أن يكون على الإطلاق. فالسرد شكل من أشكال المعرفة، أو هو سبيلنا إلى استعادة معاني ضيعتها عاديات الدهر وتقلباته.
وتلك هي الطاقة الإبداعية في كل تمثيل سردي، « إن الروائي فيه لا يخلق شخصياته استنادا إلى سجل سيري محدود في الزمان والمكان، بل يقوم بذلك استنادا إلى الطاقات اللامحدودة لحياته الممكنة» (ألبير تيبودي). وهو ما يعني أن الشخصيات الوحيدة الحقيقية هي تلك الآتية من التخييل، وما عداها فمجرد نسخ سمجة لا تُخَلص القارئ من العارض في حياته، بل تشده إلى كل ما هو محدود فيها. إن الرواية ليست معنية بما هو مألوف في حياة الناس، إنها محاولة لإنقاذ ما يمكن أن تدمره الزمنية في طريقها. وهذا ما يجعل السرد فيها مستودعا لكل التجارب، إنه يُكثِّف في حكايات كل ما تراكم من الخبرات، أو هو استعادة لقصة كل العاشقين في الأرض والحاقدين والشرفاء والخائنين فيها.
واستنادا إلى هذا الممكن تُبنى الشخصيات ويتنوع حضورها في النص الروائي. إنها ليست بالضرورة كائنات تستعيد نماذج واقعية من الحياة، أو يافطة يحضر من خلالها الادعاء السيري مجسدا في «أنا» تقول الحقيقة كلها. إنها، على العكس من ذلك، قد تكون مجرد واجهة ضمن واجهات أخرى للذات نفسها، أو هي تنويع على أصل هو واحد في الواقع، ولكنه متعدد في الاحتمال. فالذات التي تسرد الوقائع لا تصف حقائق كاملة، إنها تؤول نفسها استنادا إلى ما تود أن تكونه أو ما كانت عليه في الحلم وحده. فلا يمكن للأنا في السرد أن تستعيد إلا ما تعيه الذاكرة التي تروي، لا ما عاشته فعلا.
بل قد تتجسد الشخصيات في الرواية في مجمل أشكال حضور الفرد في المعيش بأناه الظاهرة وبأقنعته أيضا. فمن يُسْلِم قياده للغة يرهن وجوده لما تبيحه أو ترفض الكشف عنه. فكما أن اللغة هي بيت الكينونة، وهي الشكل الوحيد لحضورنا في الكون، فإن فاعل الفعل ليس صاحبه في حقيقة الأمر. لذلك « لا نقوم، ونحن نحكي، سوى بوصف قلوبنا، لنسندها بعد ذلك إلى شخص آخر» (شاتوبريان)، هو ما تمثله مجموع الشخصيات التي نختفي وراءها. إن الشخصيات لا توجد خارج الروائي، إنها موجودة في أناه، ولكنها تستعير ضمائر بديلة لكي تستوعب التعدد داخله. فنحن نتمنى أن نعيش كل التجارب، وأن نحيى بذلك كل الحيوات الممكنة/ وهو أمر لا يستطيع عمرنا الافتراضي استيعابها جميعها.
وتلك هي الخاصية المركزية للرواية، إنها لا تصور الحقيقة دائما، إنها تبني في غالب الأحيان قصصا هي التعبير عن رغباتنا أو أحلامنا التي لم تر النور. يتعلق الأمر بالحديث عن عالم الذات من خلال «الأنوات البديلة». وهو ما يعني أننا نمسك بالحقيقة كما ترويها الأحداث ولا نكترث للحقيقة في ذاتها، لذلك كانت حقيقة التخييل دائما أقوى من حقيقة المعيش الحياتي، أو أشد تأثيرا منها. وتلك خاصية من خاصيات الإنسان، « إنه يكف عن أن يكون هو نفسه عندما يتحدث عن نفسه، أما إذا مُنح قناعا فسيقول الحقيقة كلها» (أوسكار وايلد). قد يكون هذا القناع هو أصل الانشطار الذي يقود الذات التي تروي أحداثا إلى تفجير طاقاتها الممكنة أو المستهامة في محافل أخرى لا تعيش سوى في التخييل.
قد يتم هذا الانشطار في غفلة من الروائي، وقد يكون قصدا ورغبة واعية، فهو يعبر عنه ويصفه وينسج عالمه استنادا إلى إكراهاته. وتلك حالة ألكساندر دوماس الأب. فهو يعترف أنه لم يلتقط شخصياته من الشارع، ولم يستوحها من التاريخ إلا في الظاهر؛ لقد أودعها، على العكس من ذلك، ذاته كاملة كما يمكن أن تكون في كليتها، أي في ما فعلته أو كانت تنوي فعله. يتعلق الأمر بالأحلام والرغبات وما تشتهيه النفس وما تتوهمه حقيقة، أو ما يجري في حياتها مجرى الخيال. وتلك هي « الجمالية الحقيقية للرواية، إنها بديل عن الحياة، لأنها تبعث فيها كل الفرص التي ضاعت»( باشلار).
لقد وزع دوماس حياته في روايته « الفرسان الثلاثة»، على أربع شخصيات، كما يذكر ذلك دومينيك فيرنانديز في كتابه « فن الحكي» (1). كان يحس داخله كائنا مدعيا فخلق دارتانيان، وكان بداخله كائن إباحي ينتمي إلى النظام القديم فجعله في أراميس، وليصور حالة رأسمالي من العهد الجديد كان يسكنه خلق بورتوس، وجسد حنينه إلى الغرابة والأسرار في أتوس. لقد دفع بفكرة الانشطار إلى حدودها القصوى لكي تستوعب كل ممكناته، وتلك كانت وسيلته الوحيدة لكي يقول كل شيء عن نفسه، أو كان في حاجة إلى أنوات بديلة تمتلك في كليتها حقيقة لا يمكن أن تتجسد في «أنا» واحدة. وبعده سيدفع غوته بطله فيرثر إلى الانتحار لكي يتخلص، كما يقول، من النزعة التدميرية التي كانت تسكنه.
وهو الشيء ذاته الذي قام به توماس مان. لقد كان موزعا، كما يقول دومينيك فيرنانديز أيضا، على «جينات» ثقافية» متنوعة، بعضها موروث عن أبيه بشكل مباشر، وكان تاجرا، وأخرى تسللت إليه من أمه وكانت برازيلية مفتونة بعوالم الفن، وعندما كتب روايته بادنبروك les buddenbrook وزع هذه «الجينات» على مجموعة من الشخصيات كانت تبدو في الظاهر السردي أنها مستقلة عن بعضها البعض، في حين لم تكن سوى أناه الكلية. فكان أن منح توماس الحس العملي البناء الذي يتميز به كل برجوازي، وجعل أخاه كريستيان ميالا إلى الفن بحس تدميري، ومنح هانو، وهو ابن توماس، طابع الحالم بأنغام الموسيقى. وبعد ذلك بكثير سيصرح ميلان كانديرا، بأنه يحب كل شخصيات رواياته، لأنها ليست سوى ممكناته التي لم تتحقق كلها.
وهو الانشطار ذاته الذي تقوم عليه الثلاثية عند نجيب محفوظ، أو في جزء منها على الأقل. لقد أسقط كمال، بطل الرواية وشخصيتها الدائمة، جزءا من هويته الكلية المتسمة بالحيرة والشك والقلق والتردد على ما كان من الممكن أن يكونه : مثقف حداثي منحاز إلى العلم والمعرفة والحق والعدل لكل الناس، وهي الرغبات التي جسدها أحمد، ابن اخته، الذي سلك سبيل اليقين الذي يقود إلى حقيقة كلية هي ما تمثله الشيوعية كنظام في السياسة الاقتصاد والاجتماع.
أو فعل ذلك ليتقي نزعة أصولية ورثها عن جده، كان من الممكن أن تجعل منه «إخوانيا» من الجماعة يرى في الدين الملاذ الأخير للحائرين والمترددين، بما يمكن أن يستتبع ذلك من اختيارات تعم المجتمع كله في الملبس والمأكل وكل أنماط السلوك في الفضاء العمومي، وهو ما جسده عبد منعم، أخو أحمد، الذي انتمى إلى تيار الإخوان المسلمين. وسينتهون جميعا في السجن، الأول والثاني في سجن السلطة، أما كمال فسيظل حبيس تردده وقلقه والعيش في أوهام مثقف بلا قضية، وهو ما عبر عنه مرارا في السكرية، الجزء الثالث من الثلاثية، بالقول :» أنا الحائر إلى الأبد».
لا يتحدث الروائي، في جميع هذه الحالات، سوى عن نفسه ولكنه يعيرها إلى غيره، وتلك هي عظمة السرد وطاقاته الإبلاغية الجبارة، إن الإنسان يعيش من خلاله ما شاء له من الحيوات، إنه يتنقل من حياة إلى أخرى بفضل العوالم التخييلية التي يقوم ببنائها، وهي عوالم قد لا يكون لها أي رابط بينها وبين حياته الواقعية، بل قد لا تجسد سوى ممكناته وحدها، إنها مجموع الطاقات داخله، ما يعيشه حقا وما يتسرب إلى الرواية في غفلة من وعيه. إن الروئي يتخلص، من خلال أحداث الرواية، من حياته كما هي في المعيش المألوف، لكي يعيد صياغتها وفق أحلامه وإحباطاته. يتعلق الأمر بهويات بديلة لا تستنسخ هوية أصلية، ولكنها تنفخ فيها من روحها لكي تصبح قادرة على استعادة ما تجاهله التعميم أو غطى عليه التبسيط التاريخي.
فنحن في نهاية الأمر لا نعيش جميعنا سوى قصة واحدة موزعة، بالتناوب أو بالتزامن، على كل الكائنات في الأرض، قصة الحب والحقد والخديعة والتحدي والمقاومة والاستسلام وغيرها مما يمثل الشرط الإنساني على الأرض. إنها حياة واحدة يتناوب على فصولها كائنات الكون كلها. لذلك لن «تكون الرواية بوْحا مصدره المؤلف، بل هي استكشاف للحياة الإنسانية وقد سقطت في فخ العالم» (ميلان كونديرا).
——
1-Dominique Fernandez : L'art de raconter, livre de poche 2006,


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.