تمة معطى مهم، يسجل باعتزاز خاص هنا في مهرجان القاهرة السينمائي، في دورته 36، هو حجم الإصدارات والندوات الفكرية المصاحبة للمهرجان، الذي يجعل منه فعليا ورشة مفتوحة للنقاش الفني والفكري والسياسي حول السينما. بل، إن الأمر يأخذ أبعادا أخرى أكثر رونقا بفضل حجم الحضور الجماهيري الغفير المتابع لكل ذلك، والمتفاعل معه. هذا يقدم الدليل على أن ثقافة السينما (والفن عموما) راسخة في هذا البلد، لأنه رغم كل ثقل الأزمة الإجتماعية الضاغطة، والواضحة للعيان، فإن الناس تقرأ الجرائد بالملايين، وتحضر الأنشطة الثقافية والفنية بالآلاف. من ضمن هذه الأنشطة، الموازية لعرض الأفلام بصالات العرض المختلفة بدار الأوبرا بالقاهرة، اللقاء اليومي المخصص لمناقشة تجربة المهرجانات السينمائية العربية، ومدى إسهامها في مصالحة المواطن العربي ببلدانها مع ثقافة الصوت والصورة، وكذا توسيع مجالات الإبداع السينمائي بها. ولقد كان صباح الخميس 13 نونبر 2014، خاصا بمقاربة تجربة مهرجان مراكش الدولي للسينما، التي قدم ورقة عنه الناقد السينمائي المغربي خالد الخضري، بذات تقنياته التراكمية في تقديم حصيلة ذلك المهرجان. وهو اللقاء الذي تميز بحضور وازن للنقاد والصحفيين وجمهور من الشباب المصري الشغوف جدا بالتجربة السينمائية المغربية، التي اكتشفت أنها تعتبر اليوم مرجعا عند غالبية متتبعي السينما العربية وأنه ينظر إليها بإعجاب وانبهار وتقدير خاص. اعتبارا لما تقدم من منتوجات جريئة موضوعاتيا وأيضا فنيا. ولقد حرص خالد الخضري على أن يقدم جردا مفصلا للتراكم الذي حققه مهرجان مراكش، وأن يقارب منجزه كإضافة نوعية ضمن مهرجانات إفريقيا والعالم العربي والبحر الأبيض المتوسط. متوقفا عند ما يحكم لجن اختيار الأفلام المشاركة، وكذا حرص عدد من النجوم والمخرجين العالميين على حضور دوراته باستمرار. مذكرا مثلا، باختيار إدارة المهرجان، للفنان المصري عادل إمام هذه السنة، لتكريمه والاحتفاء بمنجزه الفني الممتع والطويل والغني. مؤكدا في سياق نقاش فتح مع الحضور، أن مهرجان مراكش قد صالح فعليا الجمهور المغربي مع السينما كإبداع. لكنه أغفل الحديث بتفصيل عن مدى مساهمته في دعم المنتجات السينمائية المغربية، حيث تسجل في هذا الباب الكثير من أسباب النقد الموجهة إلى المهرجان، وأيضا نزوعه الفرنكوفونية الغالبة. على مستوى آخر، يفاجئ المرء كل صباح بحجم الإصدارات التي توزعها إدارة المهرجان على المشاركين والصحفيين، مصحوبة بالنشرة اليومية للمهرجان (عربية وإنجليزية) التي هي نشرة جد احترافية، مواضيع وتبويبا وجمالية إخراج. ولعل من بين أجمل وأعمق تلك الكتب، الكتاب الخاص بتجربة السينمائي المصري الراحل هنري بركات، كهرم من أهرامات السينما العربية، الذي أنجزه باحترافية نقدية منصفة عالية، الناقد المصري مجدي الطيب (وهو جديا اسم على مسمى طيبوبة إنسانية شفيفة وصادقة). الكتاب الذي صدر تحت عنوان "بركات.. زعيم المحافظين في السينما المصرية"، قوته كامنة في جرأة وذكاء المقاربة التي اختارها الناقد مجدي الطيب لعرض سيرة هرم من حجم المخرج هنري بركات، المتأسسة على تلمس الخلفية المعرفية والفكرية المشكلة لوعي ذلك المخرج المصري، التي جعلته ينتصر في أعماله لتوجه يمكن تسميته بالتوجه الليبرالي في إنتاج موضوعات أفلامه. وأن الرجل بسبب من ذلك، يندرج، في باب السينما المحافظة، التي هي سينما المثال البورجوازي الليبرالي، كما تبلور عالميا منذ ناهية الحرب العالمية الثانية وحتى قبلها. بدليل أن اختياره الدائم لبطلة مثل فاتن حمامة (عملت معه في 18 فيلما)، كان نابعا من تصوره الفني لدور المرأة الجديد والمأمول في مصر، الذي هو دور حداثي ليبرالي، بذات الخلفية الغربية الأمريكية. وإذا ما قورن مثلا بأجيال صلاح أبوسيف أو يوسف شاعين أو كمال الشيخ، وغيرهم كثير، المنتصرون للسؤال الإجتماعي الواقعي في الإبداعية الفنية السينمائية، ندرك أنه مختلف برؤيته الخاصة لدور الفن كدور صانع للمثال وليس ناقل للواقع أو منتقد له. دون أن يسقط ذلك قيد شعرة من علو كعبه الفني الإحترافي العالي. من هنا أهمية كتاب مثل كتاب الناقد مجدي الطيب، الذي لم يكن كتابا تقريضيا ممجدا، بل هو كتاب نقدي منصف. وأن يصدر كتاب مماثل، ضمن الإصدارات 12 الخاصة بهذه الدورة 36 من مهرجان القاهرة السينمائي، إنما يعلي فعليا من قيمة المهرجان، بفضل ما يهبه من إمكانيات معرفية تغني المرجعية النقدية السينمائية بمصر والعالم العربي.