مهنيو الصحة التجمعيون: صوت الشارع ليس رفضا للإصلاح بل دعوة لتسريع وتيرة التنزيل    حزب التقدم والاشتراكية.. أطول إقامة في وزارة الصحة وأقصر مسافة نحو الإصلاح    جيل "Z212" المغربي يرفع صوته: حب للملك ورفض للفساد في رسالة وطنية تهزّ مواقع التواصل    محمد أوجار: احتجاجات الشباب تمرين ديمقراطي يؤكد نضج الأجيال الجديدة بالمغرب    معاً ‬و ‬سوياً ‬وفوراً ‬لمعالجة ‬أعطاب ‬الحكامة ‬الترابية ‬في ‬دلالاتها ‬الواسعة    ‮«‬التعاقد ‬الاجتماعي ‬مع ‬الشباب‮»‬ ‬في ‬صلب ‬لقاء ‬شبابي ‬هام ‬ترأسه ‬الأستاذ ‬نزار ‬بركة ‬الأمين ‬العام ‬لحزب ‬الاستقلال    القنصلية المغربية بباستيا تشارك في احتفالية الذكرى 82 لتحرير كورسيكا    المغرب ‬ينتصر ‬في ‬بروكسيل ‬ويكرس ‬الاعتراف ‬الأوروبي ‬بمغربية ‬الصحراء    التصعيد ‬يشتد ‬بين ‬الصيادلة.. ‬ الكونفدرالية ‬تهدد ‬الفيدرالية ‬باللجوء ‬للقضاء ‬    استقالة الحكومة الفرنسية بعد يوم واحد من تشكيلها    من أصول مغربية.. نعيمة موتشو تتولى وزارة التحول والوظيفة العمومية في فرنسا    مناورات شرقي 2025.. تعاون عسكري مغربي فرنسي لتعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة التهديدات العابرة للحدود    الصين تفعل استجابة طارئة بعد اجتياح الإعصار "ماتمو" لمقاطعتين جنوبيتين    98 منظمة وشبكة من العالم تدين اعتقال المشاركين في "أسطول الصمود العالمي" وتدعو لمحاسبة إسرائيل ووقف الإبادة في غزة    الزلزولي يقود بيتيس للفوز على إسبانيول (2-1)    مدرب آيندهوفن: "أنس صلاح الدين لاعب ممتاز ويقدم أداءً رائعا"    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين بالمغرب    نقلة ‬نوعية ‬حقيقية ‬في ‬الترسانة ‬القانونية ‬المغربية ‬لمكافحة ‬الاتجار ‬بالبشر    كيوسك الإثنين | الحكومة تشهر "سيف" الاقتطاع من المنبع لمكافحة التهرب الضريبي    مونديال كرة القدم لأقل من 20 سنة بالشيلي.. المغرب يواجه كوريا في ثمن النهائي    عملية إطلاق نار في سيدني تسفر عن سقوط 20 جريحاً                            منصة "إنستغرام" تمنح المستخدمين تحكما أكبر في المحتوى المقترح    مباراتان وديتان للمنتخب المغربي لأقل من 17 سنة أمام نظيره السينغالي يومي 9 و 12 أكتوبر في دكار    المفتشية العامة للأمن الوطني تفتح بحثا دقيقا في أعمال وسلوكيات مشوبة بعدم الشرعية منسوبة لاثنين من موظفي شرطة    البطولة: الجيش الملكي يلتحق بركب المقدمة بانتصاره على أولمبيك آسفي        في الذكرى الثانية ل "طوفان الأقصى".. مسيرة حاشدة في الرباط تجدد التضامن الشعبي مع فلسطين وتدين الإبادة والتطبيع    وهبي: الهزيمة أمام المكسيك "درس"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    حادث سيدي قاسم تنهي حياة تسعة أشخاص من أبناء الحسيمة        إحباط تهريب 33 كيلوغراما من الكوكايين الخام بميناء طنجة المتوسط قادمة من أمريكا الجنوبية    الفخامة المصرية على الأراضي المغربية.. «صن رايز» تستعد لافتتاح فندق جديد    طنجة.. الدرك الملكي بكزناية يطيح بأربعة أشخاص متورطين في تخزين وترويج مواد غذائية فاسدة    محمد الريفي يعود بديو مع "أورتيجا"        القضاء الأمريكي يحكم بحبس نجم الهيب هوب ديدي    لجان التحكيم بالمهرجان الوطني للفيلم    العلماء يدرسون "التطبيب الذاتي" عند الحيوانات    أين اختفى هؤلاء "المؤثرون" في خضمّ الأحداث الشبابية المتسارعة بالمغرب؟    إلَى جِيل Z/ زِيدْ أُهْدِي هَذا القَصِيدْ !    الكاتب عبد اللطيف اللعبي يوجّه رسالة تضامن إلى شباب الاحتجاجات في المغرب        فقدان حاسة الشم بعد التعافي من كورونا قد يستمر مدى الحياة (دراسة أمريكية)    علماء يجددون توصيتهم بالتقليل من اللحوم في النظام الغذائي    حمية الفواكه والخضراوات والمكسرات "قد تمنع" ملايين الوفيات عالميا    وزارة الأوقاف تخصص خطبة الجمعة المقبلة: عدم القيام بالمسؤوليات على وجهها الصحيح يٌلقي بالنفس والغير في التهلكة    عندما يتحول القانون رقم 272 إلى سيفٍ مُسلَّط على رقاب المرضى المزمنين        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص : أبي الذي لن يغيب


أبي،
أكان لا بد من أن تذهب بعيدا وتتركني وحيدة؟
كل الاحتمالات التي خلفها غيابك أفظع مما أعيشه بعد فقدك، لك أن تتخيل أن يصبح سقف بيتك الحصين بلا سقف، لك أن تتخيل إنساناً غطّيته طول عمرك بظلك البهي الحنون، وحين ذهبت زال الغطاء فبقي عارياً في مواجهة جشع العيون النهمة للحياة البائسة. هذا الإحساس بفقدك لم أتخيَّل سُرياليته، ولا كنت قادرة على الوصول لحقيقة أن أصبح مكشوفة إلا حين فاجأني القدر بقسوته وجبروته وقوّته، وأنا أعيش اللحظات الأولى لفقدك.
ها أنت ذا بعد سنين الغياب تداهم ذاكرة لم تغب عنها، تداهمها كما تفعل كلّ خفقة قلب، وها أنا ذي أحدث الآخرين عنك.
كان والدي رجلا طاعنا في السن، وكنت ابنته المدللة حتى دون أن يخبرني. إنه قانون البشرية الصَّاخب الذي يُحمِّل الأب مسؤوليته، ويترك للأميرة أن تتربع على عرش قلبه، كأنه يملك عصاً سحرية تضرب بقوة على الصخر؛ فينبلج منه الماء كي لا تعطش الأميرة. كانت يد أبي تُضمِّد جراح قلب تاه في قسوة الحياة، رحم الله يده الحانية خفيفة مثل ريشة، فقد حرمتني الحياة ريشتي.
ماذا بقي لدي بعدُ؟
بضع ذكريات ودمعة تنساب حارة كلما أردتُ استعطاف الوقت ببعض الحنين. صور تتلو صوراً.. تفاصيل عديدة؛ الإبحار فيها غير مأمون؛ فقد تجهش ذاكرتك بتفاصيل تُغرقك في يمِّ الماضي، ليخرج قلبك كسيراً ذليلاً، ولا يغسل روحك المتعبة الشاحبة سوى بسمة تتسرب من بين تلك التفاصيل.
نعم؛ الاستذكار موجع. ولكنه الوحيد القادر على جعلك تستنشق تلك اللحظات الحاسمة كحد السيف، تجلد نفسك بالذكرى كي تستقيم حياتك وتسري في دمائك روح التحدي، وإصرار الاستمرار وحتمية البقاء.. تستنزفنا الذكرى، لكن الخلاص يكمن في عد خسائرها و الابتهاج ببسمات مرت على طريق الشقاء الطويل.
الآن وفي كل لحظة حاولت فيها استرجاع ذكرى والدي رحمه الله أجد نفسي قد حُمِلت إلى تلك الليالي البعيدة.. الطاهرة كثلج، الدافئة كحنين، الصافية كشلال..
حين كان والدي يفتح باب منزلنا، بقسوة حيناً، وبعطف أحايين، أهرول إليه بِجسميَ النحيف؛ لأرتمي في حضنه. ينحني حتى ُيمكِّنني من "قِبّ" جلبابه التقليدي، فأعيش كنز الطفولة وفرحتها: بئر دلوه يدَيَّ والغنيمة شهية المذاق، باذخة النشوة.
من بعيد تلمع صور البهجة المتنوعة، تُشبه ضحكة عينيْ والدي، وهو يستقبل خبر تفوقي الدراسي. لكنه لم يكن يؤمن بالمعجزات البشرية، ولم يثق يوما في البدايات؛ إذ إن النجاح استمرار والاستمرار حياة، والحياة تبغي المزيد، ولا مزيد بدون جدٍّ وطلب وسهر.
أبي شريك نجاحي، فالقهوة السوداء التي رافقت ليالي التحصيل العلمي كانت من إعداد والدي؛ والطَّرَقات الخفيفة على باب غرفتي كانت لأبي، والدعوات والدُّعابات والتربيت على الكتف؛ كان لأبي فيه نصيب مازلت أتحسسه للآن. إنه الاحساس الذي ملأ رئتي ثقة.
أبي، طفل الثمانين..
ذلك الرجل الصلب حد الوجع، والليِّن حد الأمان. خانته ذاكرته فعاش أيَّامه الأخيرة بين أحضان طفولته البريئة، واختلطت أسماء أبنائه بأسماء إخوته، حتى أضحت دمعته كما ضحكته قريبة تُلوّن تفاصيل لحظاتنا. وعدنا أنا وإخوتي نفتح "قبّنا" له، يمد يده المرتعشة فيملأ نتوءات الذاكرة ببعض الفرح كما توقعنا فصرنا نُصادر الخوف الذي لا يرحم حتى لا يجد طريقه إلى قلب أبي، ونعالج رتوق الذاكرة لنرسم لوحة واضحة المعالم تُعين أبي، وتُصالحنا نحن مع " الزهايمر" الذي أكل ذاكرته.
ماذا يظل للإنسان حين تختلط عليه التواريخ وتتشابه لديه الملامح ولا يتضح له الفرق بين الأسماء؟ سؤال طرق جدران وجداننا نحن الصامدون أمام هذا القادم الأخرق: ترى كيف يتعايش والدي مع هذه اللحظات المُربكة ؟
لم ننتظر الإجابات طويلا، بل حاولنا كلٌّ من جهته، أن يسدَّ الثغرات؛ ويفصل بين الأحداث؛ ويمد الوقائع ببعض التفاصيل، أصبحنا أكثر قربا وتماسكا، وقلنا للزهايمر: لن نسمح لك أن تنفرد بوالدنا، فقد كان صُلبا قويا أمام صروف الحياة، ولن يتمكن مرض مثلك من أن يهزم ذاكرة بعمق المحيط.
لم يُهزم أبي، واجه واقعه بشجاعة، عاش قويا حتى في لحظات ضعفه القليلة، وعلَّمنا معنى الصبر والاستقامة والاتزان، ولكنه أمام جبروت الحياة وحتمية الموت مضى وحيدا، وتركنا نبحث عن آباء آخرين.
كل الآباء أبي، هكذا علمني والدي، لكنه ترك مكانا متفردا له لا ينافسه فيه أحد..
مات أبي لكن ذكراه باقية فينا. ابتعد وبقيت نصائحه درعاً حصيناً، لم أقف وجِلة على ملتقى الطرق، في انتظار القادم، بل بحثت سرت في الطريق الصعب، وكتبت اسمي بحروف مضيئة.. أنا نادية محمّد الأزمي.. وها هو ذا والدي يقف إلى جانبي.
إنه هنا، ولن يَغيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.