اَلْعُبُورُ وُجُوداً

(1)
«أحلم بعالَمٍ نموت فيه من أجل فاصلة» إميل سيوران
ثمة جنونٌ يقف أمام هوادة الرغبة في اقتحام النص، جنون الفواصل والنقط وعلامات الاستفهام والتعجب، أليس من حق المرء الخلود إلى ناره، أو جحيمه، ففي النار والجحيم تنعكس محنة المخلوق في وجوده، ومحنة غير متعلّقة بماهو مرضيّ أو نَكَدِيّ، بقدر ماهي محاولة للفهم والاستيعاب؛ على أساس أنّ الكائن مصدر إزعاج للعالَم، لذا على الفاصلة أن تغدو الحد الفاصل بين المعنى واللامعنى، بين المفكَّر به والمفكَّر فيه، هكذا يحمل الجنون جباله ويلقي بها على الإنسان، فيبقى هذا الأخير حاملها ولو إلى حين. إنها فاصلة تربط النقيض بالمؤتلف والسطحي بالغامق والغامض، ومن ثمّ فالكتابة عن الواقع ليست إلا هروبا منه وتملُّصاً دنيئاً يبرز ضحالة الكائن أمام سؤال هذا الواقع وقزميته، لِكوْن العالَم أكبر من خفّة الكائن. وعلى اعتبار العلاقة الجدلية بين الكائن والممكن، المعيش والمنفلت، المعتم والمُضاء، بين الحقيقة التي في جوهرها وَهْمٌ وبيْن الكذب الذي يحمل في صُلْبِهِ الخيال كوسيلة لإدانة القبح والاحتفاء بالجمال والجلال.
الحلم بالموت انتصار وهزيمة، انتصار ضد المنفى الذي تحياه الذات/ الكائن وهزيمة لعدم قدرته على الإقامة في الهاوية، فالهاوية جِسْرٌ يجْعل الإنسان قادرا على المصالحة، والسّعي نحو تلك المناطق المخفية من عالَمٍ تقتله وضاعة الأوهام، إنّ الجدوى من الوجود ليس في قدرة الإنسان على امتلاك سلطة التّحكم؛ ولكن في القدرة على نزع الموت من أفواه ظامئة وبطون جائعة، العطش والجوع صنوان لحياة مليئة بالعذابات والمكابدات، في عمق النقيض تكمن الهوية منتصبة كمانع يحول دون السقوط في المستنقع، فالسقطة المجدية هي الوقوع في البئر، لأن الجُبّ سرير الغرباء وذوي النوايا النارية أي الذين يسرقون الماء من الينابيع لارتواء الأفواه وإشباع البطون، فليس الإنسان المحارب المقاوم لما يهدّد كينونته من يستطيع المكوث في النقطة الأخيرة، بقدْر ما يتخطّى النُّقطة ليُربِك الفاصلة ويجعل علامات التّعجب في حيْرة من أمرها أمام عظمة نقط الحذف.
الحذف اكتمال والكمال نقصان وما بينهما تضيع الحقيقة ويزداد اليقين ارتيابا. الحذف محوٌ وفي المحو تصير الأمور بشكل مختلف أكثر وضوحا، ويغدو الكائن أكثر التصاقا بسؤال الكينونة، وبالذاكرة كحاضنة لهذا التّشظّي والتّمزّق والتّيه الإنساني والتّاريخي والحضاري. وهذا ما كانت الذّات تُمارسه في بدايات التّشكّل، حيث كنّا نَمْحُو الصّمغ بالصّلصال لترسيخ الحفظ كوسيلة لمقاومة النّسيان.
في الحياة ودوامتها نكون أكثر عاطفة ووجدانية، وفي منفى اللغة نكون أكثر مثالية وخيالية، وفي الواقع الممكن نكون حالمين، وبين العاطفة والخيال والممكن و فواصلها يبْحث الإنسان عن جوهره، عن انتسابه للحياة برحابتها وامتداداتها، وتتحوّل الطّريق إلى المعرفة جهْلاً، والجهل هنا مطية لاقتناص الضوء المنبعث من ركام الخراب والموت. أليس الجهل موتا والموت انعدام القدرة على تحطيم الموانع، وخلْق دوافع تكون لها إمكانيات هائلة للانتصار على تلك الفواصل الواهية والمفتعلة.
(2)
يحتاج العالَم إلى رجّة بوساطة الخيال لكونه المنبّه لما يصيب الكائن من حيرة، وهو يُجَابِهُ هذا الكون الممتد في اللانهائي، فيكون الانزياح عن الواقع هروبا من هذه الحقيقة الملفّقة، التي يعتقد أنها تُمثّل صورته، بقدر ماهي انتقال من لحظة الحسّ إلى الحدْس، عن طريق الرؤيا . هذه الأخيرة تحوّل الواقع إلى كيانٍ صِبْغَتُهُ الأساس الحلم كوسيلة للتعبير عن المفتقد في الذاكرة والمنفلت من الحقيقة، كل هذا يتطلب سَفرا وتِرْحالاً في تلك الجغرافيات، التي تبقى رهينة الاحتمالات والتّكهّنات، لأن العقل البشري يظل في حاجة ماسّة إلى ما يستثيره ويخلخل مداركه، ولا عجب في ذلك مادام هذا العالَم لا يركن إلى الثبوتية، وإنما هو في صيرورة أبدية، ممّا يُحتّم على الفكر أن يطارد هذه التحولات باللغة والخيال والتجربة، فهذا الثلاثي به تتحقق كينونة الكائن معنويا وماديّا، وتبيّن العودة إلى التاريخ الإنساني أن باللغة يتمكّن الإنسان من تَرْكِ أثره على هذه الأرض، وبالخيال استطاع قهْر شراسة الواقع، وبالتجربة صاغ هذا الخيال باللغة وفي اللغة.
(3)
تحتم رحلة العبور على الإنسان أن يكون أكثر قدرة على تحمّل الهزات، التي قد تؤثر في تصوّره للوجود وفي كيفية تشكيل هذا التصوّر، ومن ثمّ لابد من القيام بالانغماس في الذات أفقيا وعموديا، محاولا القبض على النور المنبعث من شقوق اللانهائي، وتلك حياة أخرى.
والراجح أن الكينونة الإنسانية هشة ومعرّضة للغياب والنسيان، للمحو والطمس، وللفناء .كلّ هذا يدفعها إلى السعي لمقاومة هذا الخطر، فكانت الرسوم في الكهوف وعبادة الأصنام والحكي والغناء والعمران صورة عن الرغبة في الاستمرارية والحضور، لتأتي بعد ذلك التدوين/ الكتابة لتقول الكينونة غبْر مقوماتها.
ويمكن اعتبار العبور نحو الذّات تصوّرا فلسفيا، ينطلق من كون الذّات، بحمولاتها الكينوناتية الوجودية، كتاريخ وتجربة، ما هي في حقيقتها إلّا تمثيل لذات أخرى تتشكّل من صورة ثانية، ويستدعي هذا العبور القدرة على منح هذه الذات كامل حريتها لفتح حوار داخلي أو خارجي مع شبيهها، هذا الأخير يعتبر القرين المصاحب إنّها ظلّها، أو مرآة تنعكس عليها ملمح من ملامحها، أو آخر به تكتمل شروطها. وغالبية – فيما اطلعت عليه من كتابات في هذا الإطار- تؤكّد على أحقية الذّات إلى آخر مختلف، متعدّد، مناوِش، ومستفزّ، كي تنخرط هي الأخرى في صيرورة التّحولات التي تأتي من منطلق الآخر انعكاسا طبيعيا للأنا .وكل ذات هي أنا في تجلياتها الوجودية، لأن الأنا اسم ثان للذات وفي الوقت ذاته كينونة. هذه الكينونة المترحّلة، عبْر ذوات ووجوه ومرايا، تؤسّس لتشظّيها الوجوي، وتفتّتها الباطني المنعكس لاإراديا على صفحة كيانها المطوَّق بسلاسل الالتباس والرغبة في اجتياز حدود الآني والعابر لمعانقة الخالد والأبدي، إنها رحلة السّارين في واضحة نور اللّيل، حيث الصّمت طريقٌ مُشرَعٌ على اللانهائي، والجنادب قناديل لعتمات الروح، وهي أيضا كتاب أحلام وتهيّب من المدهش، أشجان تطرّز شرايين العاطفة وأسئلة مقلقة تسكن خلايا الخيال، خريطة تمتلك تخوم جغرافيات داخلية تبقى في حاجة إلى إضاءتها، وتلك سَفْرة في متاهات شرسة الغموض.
الغموض فتنة وجموح، ضوء قادم من البعيد، السؤال الذي يظلّ في حكم الأبد، ذاك صورة الذات في أجلى مكابداتها، وتلك سيرتها المحكية بلسان التّيه السرمدي. إنها رحلة لامتناهية التفاصيل والحدود.
(4)
تفرض الرحلة على الذات العمل على تعطيل الزمن وتحويله حتّى تدرك ماهيتها وأنويتها، التي تظل مستعصية على الفهم والإدراك، والقبض على انفلاتاتها المثيرة للكثير من الإشكالات، والطارحة للمفارقات العصية والحائرة ، وفي سياق هذه الحيرة لا وجود للزمن في منظور هذه الذات، فالزمن ممتدّ لا آخر له، أبدي متواصل، يعيش الماضي والراهن والمستقبل، من هنا فالعنَت سبيل كلّ مَنْ أراد الخوض غمار هذا العبور الجواني، الذي يستنفر كل حواسّ التردّد والحيرة، ويقوّض مأمول الذات في تحقيق وجودها. وتلك سيرة لا تنتهي. فالبحث عن جوهرها تاريخ الارتجاجات والانعطافات، حيث السؤال جواب في حدّ ذاته، ذلك أن الوعي بهذه الرحلة جزء من تلك التفاصيل الغامضة، التي تقطعها الذات في فلوات الجسد والوجود كمحاولة لعبور ما في اللالحظة واللاحيّز ؛ فاللامحدّد إقامة هذه الذات، و هوية الكينونة وسِفْرها المليء بأعطاب الموجود في وجود لا يقول الحقيقة، بقدر ما يقول الذات مجازا خارج لغة الماديات، واستعارة لمرايا متشظّية تتجسد فيها ذوات أخرى.
(5)
وسيرة الذات ملتبسة، غامضة، في التباسها نكهة خاصة، تتميّز بضرورة اقتحام المجاهل، وفكّ الطلاسم، وسلْكِ الدهاليز المعتمة، ومن هذا الالتباس تنفتح الآفاق لارتياد رحلة المغامرة، دون توقّف أو يأس، مغامرة تنكتب بوعي أو بدونه، وتلك مشيئة المرء في هذه الحياة الضّاربة في عذابات الكائن. كما أن غموضها ملْح هذا الرهان الذي يخوضه الإنسان من أجل الإحساس بجدوى حضوره، فالغياب اللسان الناطق بالذات، لكنه ملتصق بالحضور الذي يجب أن يكون حضورا وجوديا، بدلالته الجوهرية، وهنا مكمن حقيقة الإنسان.
(6)
الإنسان، في أصله، كتلة من المشاعر والعواطف الجانحة صوب كل ما هو شرير، إلا أن صقلها وترويضها وتثقيفها، يجعلها تتكيّف مع ما يجعل الحياة تستقيم، إلا أن الأمر منبته معرفة الذات معرفة أنطولوجية تمكّن الإنسان من الإحاطة النسبية بها، والسعي نحو الارتقاء بها إلى مراتب السّموّ الكفيلة من إخراجها من حالة الشّر إلى حالة الخير/ الجمال/ المحبة/ الحياة، هذا الخروج يتحقق، من خلال، الوعي، الذي يتحصّل بالثقافة. لأنها البوابة الأولى للفهم، وبعدها يأتي الوعي كأعلى درجة من درجات الفهم/ الإدراك.
فاصلة الإدراك بالذات هي تلك البينية القائمة بين العلم والجهل، وبواسطتها تحقّق وجودها المهدّد بالموت والفناء والزوال، لذا تلوذ هذه الذات إلى مقاومة الموت بالعبور كتابة وإبداعا وخلْقاً، ولا غرابة في ذلك مادامت الذات ككينونة تعبر بحقيقة السؤال بعيدا عن اليقينيات التي تحفل بها السرديات الكبرى، تلك الآثار الخالدات ماهي إلا مرآة تعكس وجودية العبور في أبهى تجلياته، وأروع تبدّلاته وانزياحاته المخصّبة للغة والمتخيّل والفكر الإنساني. عبور جدير بالإقامة الأبدية في الذاكرة الإنسانية، لأنه أضاء متاهات الإنسان المعتمة والمتشابكة مع سؤال الوجود، ومع ارتباك الذات جراء التباس هذا السؤال.
(7)
الحلم بعالم جديد تأسيس لأفق متخيّل، تؤثثه لغة احتمالية، ومجازات تخرج عن طاعة الحقيقة، وتبتغي ابتداع عوالم مشدودة إلى المستقبل؛ بعيدة عن حاضر الحال، وقريبة من تخوم لامرئية، حيث الميتافيزيقا ماء الخيال الذي ترتوي به ذاكرة الكتابة الإبداعية، وتشيّد حضارة اللغة الممتدة في مسارات التجديد والجدّة والجدارة، فالعالم إبن الحلم والخيال والمتخيلة والمخيّلة، لأن هذه الوسائل بها يكون العبور أكثر قيمة وأثر ا في الإنسان والمكان والزمان، الحلم فاصلة بين الحقيقة/ الواقع والمجاز / الانزياح عن الملموس وارتياد المحسوس، فالإبداع يرسم ملامح عوالمه من اللغة الفيّاضة بالاستعارات التي نعبر بها، لكنه عبور الدهشة والسؤال، لاعبور الزائل والجامد، بل عبور حيّ نابض بالحياة، منسلخ عن العبودية والاجترار، متخلّق من تربة الابتكار والخلق.
(8)
فاللغة الإبداعية تضمر المخفي والمنسي من تراث وحضارة أمة من الأمم،لكونها حمّالة دلالات تمتد في الذاكرة المشتركة بين أفراد مجتمع ما، الأمر الذي يتطلب منا الحفر في النص المبدَع واستبطان ما تزخر به هذه اللغة من ظلال تخفي وراءها غابة من الترسبات التاريخية والاجتماعية والفكرية والتراثية بشكل عام ، فالمبدِع وهو يصوغ نصّه إنما يصوغ ذاته باعتبارها التاريخ الفردي له، وجماعته التي ينتمي إليها بكل ما تحمله من مضمرات يحسن بالقارئ نفض الغبار عنها ، من خلال، القراءة المتأنية والسابرة لأغوار مكنوناتها وأسرارها، والترحُّل بين الفجوات التي تتركها بغية ملئها بالتأويل كآلية قرائية بإمكانها تحريك الجوانب التخييلية فيها ومن تمّ في النص الإبداعي. ولعل ما خلّفته الإنسانية من نصوص، منذ فجر الوجود، سواء كانت حفرا في الكهوف أو نقشا على الجبال ، أو خرافات منسوجة بفعل الخيال، أو موسيقى تخلق إيقاع الحياة بأنفاس ملحنيها عبْر الربابات والنايات، والدفوف والغناء والرقص، والحكايات، وصناعة الأوتان والأصنام، أو كتابة على الجلود وورق البردي وكل ما تعلق بها، تكشف عن هذا المضمر المتواري خلفها، وأقصد مضمر تاريخ الحضارة البشرية، فالعودة إلى الملاحم والأساطير، وسجع الكهان والأغاني المبثوثة في كل الأشكال الموسيقية والتعبيرية والأشعارو المتون المختلفة النسج والحوْكِ لغة وتخييلا تبرز للقارئ أنها/ النصوص خزّان لكل هذا، فهي تكتنز المسكوت عنه، وتكشف عن عبور الإنسان على هذه الأرض. ولا غرابة في الأمر لأن انشغال الإنسان لم ينحصر في المأكل والملبس، وإنما همّه يتمثل في الكيفية التي بإمكانه التعبير عن هذا العبور، فكانت الكتابة والغناء والعمران والنحت والرسم تمظهرات هذا العبور. فهذا الأخير لا ينبغي أن يكون بلا أثر، بل لابد للإنسان من العمل ماديا ومعنويا بالجَهْد والاجتهاد؛ لنحت وجوده/ كينونته عبر لغة الإبداع.
(9)
إذا كانت اللغة وعاء لذاكرة الإنسان، وبها يحقق القيمة التواصلية والتداولية، فإن النص الإبداعي هو الحاضن، لكي تؤسس اللغة وجودها، عبر، تحويل الأصوات الفيزيائية إلى مكتوب مخطوط حامل لثقافة هذا الإنسان، غير أن الأمر يحتّم، على المبدِع أن تكون له المقدرة والكفاية على الصياغة، لتحويل تلك الأصوات إلى كائن موجود بإضفاء طابع التخييل واستثمار الموروث بشتى تلاوينه وتعبيراته، وهنا مكمن الإبداع. فالكاتب المبتدع هو الذي يستطيع تصيير هذا التراث، وجعله أكثر تعبيرا عن اللحظة التاريخية والحضارية، التي تحياها الذات المبدِعة. فالنصوص الخالدة استمدت ديمومتها ليس بالشكل أو القالب الفني، الذي تمّ اختياره، ولكن من خلال عملية التحبيك ( من الحبك ليس بالدلالة السردية وإنما بمعنى النسج) التي تمنح لهاته النصوص إبداعيتها. فاللغة ذاكرة المجتمع / الإنسان بدونها لا يمكن للبشرية أن تدرك ماهية وجود السالف لتدرك ماهية الآني وتأسيس ماهيتها المقبلة التي تحددها اللغة التي بها تركت بصمتها بواسطة النص، هذا الأخير عالم من العلامات والشفرات الموحية والدالة على إرث يخلد الحضارات البشرية، والمهمل والمتلاشي، المدهش والمغري، القبيح والجميل، السطحي والعميق، الظاهر والباطن، الشيء الذي يدعو إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات من أجل البحث والتنقيب عن المغيّب والمتواري في طبقاته الجيولغوية للوقوف قدر الممكن عن هذا المخلَّف من هذا العبور.
(10)
اللغة في الرؤيا تغدو مدجّجة بالغريب والمدهش، وتطرح زاوية النظر ابتداء من الرؤية بلوغا إلى الرؤيا، وهنا يتحوّل البصر عائقا لفاصلة العبور، بينما البصيرة/ الحلم/ التأمل/ الغوص في المغاور الدفينة محفزا أساسا لعبور يحتفي بالموت حياة وديمومة، وبالحياة نشيدا بإيقاعات نابعة من ماء الروح وجراحاته، نشيد يقول رؤياه بأنفاس الناي وتوترات الذات في جموحها وارتدادها عن المألوف والمعتاد، المسكوك والمتداول، لأن عبورها يتجسّد في هذا العدول عن ظاهر المفردة وكشف ما تحمله من اندياحات باطنية. إن اللغة الإبداعية تثير الكوامن المطموسة في اللاوعي، وتحويلها عبر قناة الرؤيا إلى خيالات منها يتكوّن المتخيّل كنسق ثقافي محمّل بالدلالات والامتدادات في المعنى. وعليه فاللغة حدّ بين الظاهر والباطن، لغة الظاهر تعتمد الإقناع سبيلا، بينما لغة الباطن تبتغي الإمتاع مرادا ومبتغى. هكذا تغدو الرؤيا حدودا وهمية بين الإقناع والإمتاع، وما بينهما إلا خيط العبور الذي يربط الحقيقة بالخيال.
(11)
داخل مربع اللغة يكون الحلم زاد الكتابة، التي تنحت وجودها بالمتخيّل العميق والمتعدد الينابيع والرؤى، والضارب في فلسفة السؤال وهنا مكمن سر العبور في الوجود والإبداع، هذا المربع المحصّن بالتقعيدات والقوانين اللغوية والنحوية والتركيبية، لكنه مفتوح على تكسير هذه المواضعات المشتركة وتجاوزها، ليس خطأ وإنما إضافة وتجديدا وتخصيبا، وهنا جوهر الكتابة الإبداعية في عالم مجنون، متمرد عن القيم الإنسانية، وبانٍ لحضارة الخراب ومهدم لحضارة الإنسان.
(12)
فعملية العبور يجب الوعي بأهميتها لأنها المرآة التي تنجلي فيها وعليها صورة الإنسان، وتعكس حقيقة الكائن الموهوب العقل والفكر ليس للعيش، بل للحياة، هذه الأخيرة تحفّز على التدبّر والإتيان بكل ما يجمّل قبح العالم، من أشكال تعبيرية تجعل الإنسان أكثر فاعلية وتفاعلا مع الوجود، مع الكائنات، مع الأشياء، مع المبهم والملتبس، مع البسيط والمعقد، وتضخ طاقة متجددة لارتياد المغامرة بحمولتها الفلسفية والوجودية والإبداعية.
(13)
سأغنّي المدى عبوراً / فارغا من صيحة الرمال/ مجرّدا من جبّة الحنين/ طارقا أبوابا لم تُفتح/ حيث المعنى لا يأتي من ظاهر اللفظ/ بل من التباس الماء / وأرعى جبالا تنصت لعبور قادم / والكمنجاتُ تروّض إيقاع الرتابة/ وتطارد فراشات تسبّح لرعاية الضوء/ وتنام على جفون الرماد/ تلك لغتي وهذا مداي المشتعل بوافر الغناء.