الانتقال المادي من منزل إلى ثان،ليس بالأمر الهيِّن،لأنَّه يقتضي حرفيا مجهودا على جميع المستويات؛سواء بتجهيز لوجيستيك الذَّهاب أو استشراف تفاصيل توطين فضاء الاستقبال. لاأريد ضمن هذا المقام العابر،استدعاء إشكالية التِّرحال وفق أبعاده ومحدِّداته الفلسفية والوجودية العميقة من خلال متواليات لعبة المكان/اللامكان،السَّفر الدَّائم عبر المكان الواحد،لانهائية التِّرحال وتعدُّد سبله،ولادات المكان اللامتناهية،أو انصهار الأمكنة بالمطلق مهما تباينت وتنوَّعت عند نواة مكان الطفولة الأولى،باعتباره في نهاية المطاف مبتدأ ومنتهى خيال الأمكنة،من الولادة غاية الموت. أعتقد،بأنَّ أهمّ حكاية مباشرة في زمننا ومكاننا الحاليين؛بالنسبة لمن لازال يملك مكتبة داخل بيته رغم ابتذال هذا الطرح لدى الكثيرين،بخصوص حيثيات الانتقال إلى منزل ثان،تتعلَّق أساسا بمدى شرعية حمولة الكتب وجدوى حضورها غير المناسب والثَّقيل حسب تقدير جلّ الآراء الصَّادرة لدى أهل المحيط القريب أو المنبعثة من خارجه،داخل مجتمع تعمَّقت فجوته كفاية مع هذا الكائن التاريخي العريق جدا عراقة الإنسانية،ويكابد راهنا مثلها تماما بشقِّ الأنفس حتمية الانقراض النهائي رفقة آخر موروثات زمن ولى بكل أقانيمه ومرتكزاته. إذن،تعدُّ حكاية التحوُّل بحمولة كتب من منزل إلى منزل،إشكالية عويصة ومسألة قائمة الذات؛لاسيما إذا كان عددها فائضا مستفيضا ومثيرا للانتباه،هنا تبدأ مشاعر خاصة في التَّبلور،غير إيجابية عموما،تتجاذبها عبارات الضَّجر،الامتعاض،الانذهال،الاستغراب، التهكُّم، ثم تداعيات أخرى من هذا القبيل : -شْلاَّ كْتُبْ!" -"آه لو كانت هذه الكتب أوراقا نقدية !" – "لماذا كلّ هذا ياهذا !" -"أهل الكتب ! ياأهل الكتب !" -"ماقيمة كل هذه الصفحات أمام هاتف ذكيٍّ؟" -"سأشعر بالاختناق،إن أسعفتني قدراتي الذهنية والجسدية،كي أكمل قراءة بضعة سطور من هذا الكتاب للحظات قليلة". همسات،تتبادلها إيماءات المكلَّفين بالمهمَّة. مهما،كنتَ سخيّا في أداء التكلفة المقترحة،وأبديتَ تفاعلا مرنا من مجرَّد سماع المبلغ دون تفاوض أو تردُّد كما هو معتاد،تشكِّل رغم ذلك حمولة الكتب عبئا عبثيا على صاحب الشاحنة ومعاونيه؛كأنَّهم بصدد أداء خدمة غريبة تماما عن المألوف والمعلوم؛ والجديد دائما يفزع،بل ويشعرونكَ ضمنيا باغترابهم الصميمي عن اللحظة،مما أفقدهم بغتة أدبيات روتين عملهم،ويحتاجون جرَّاء هذه الحالة النَّشاز إلى استئناس خاص حتى يتمكَّنوا من العثور على سبل التَّعامل مع الوضع الجديد. خلال الآن ذاته،بعد تجرُّعهم وامتصاصهم صدمة المشاهد الأولى،واستعادة التوازن النَّفسي،تثير الكتب لديهم،انسيابا لمجرى أفكار مغايرة أكثر سموّا مقارنة مع صنف الانطباعات الأولى،بحيث يجري الحديث هذه المرة وفق نبرة أقرب إلى شاعرية النوستالجيا،وكأنَّ الصدمة أحدثت بعد حين تطهيرا نفسيا،وأماطت اللِّثام عن ظلمات زوايا مترسِّبة ومتكلِّسة بين طيات نفوس مجروحة ومنكسرة،اغتيلت آدميتها من لدن منظومة مجتمعية لم تكترث في يوم من الأيام ببناء الإنسان والارتقاء بآدميته،مثل : -"آه !لو عاد الزمان إلى الوراء لاعتكفتُ داخل المدرسة ودرست ليلا ونهارا". -"أين نحن من عظمة أساتذة ذلك الزمان،كنَّا نركض ركضا،دون التفات إلى الخلف،بمجرَّد أن نرمق طيف أحدهم". -"تُبنى المجتمعات وتتهذَّب الشعوب بالعلم والتحصيل الجاد" -"من شَغَل نفسه بكل هذه الكتب،انشغل عن يوميات الناس". -"أهل الكتب،طيِّبون وأذكياء". تستغرب استغرابا وأنتَ تلتقط إشارات مغايرة لجنس سابقتها،أعادت الاعتبار بكيفية أو أخرى للكتاب قياسا للارتسامات السابقة،لدى أشخاص أبعد مايكونوا عن عوالم الكتاب ودلالاته،بل يعكس أولا وأخيرا،اغترابا خالصا وحالة غير مستساغة قط في كثير من الأحيان. عموما،تجسِّد أجواء رحلة من هذا القبيل معيارا حقيقيا،لإعادة جسِّ نبض المجتمع بخصوص علاقته بالكتاب:هل مندرج حضوره بجانب مختلف حاجات الفرد الضرورية، قصد استمرار الحياة حيَّة؟كما الشأن مع الجماعات البشرية التي قطعت مسافات كبيرة على مستوى بناء الوعي العام وتوطيده،حيث يشغل الكِتاب خلال كل آن،أبعاد المكان جملة وتفصيلا؟أم على العكس من ذلك،يكابد المسكين وضعيات الاغتراب،الإقصاء،الفصل، العزل،الإذلال،التحقير، المصادرة،الإبعاد…