أصبح الفضاء العمومي المغربي ساحةً مفتوحةً لسجالٍ عام وتضاربٍ مقنّن حول أخبار الوزراء والمسؤولين الحكوميين من مستوياتٍ مختلفة، في علاقةٍ بأحاديث المال وما يرتبط بها. وتعدّدت أوجه هذا الحضور، من خلال المنشورات والتسريبات التي طفت على السطح، منها تسريباتٌ عنت مؤسّسات الدولة، كشفت تفاوتاتٍ صارخةً في المدخول الفردي، ما حرّك الوعي الاجتماعي التراجيدي، وربّما تغذية النقمة الشعبية التي تزيدها الأوضاع في البلاد اشتعالاً، أو تلك التسريبات الخاصّة بالأفراد، وعمت وزراء وممتلكاتهم وحجم الثروة العائلية المحصّلة، وعلاقة ذلك كلّه بالسلوك السياسي لهذا الوزير أو تلك الوزيرة. لم يسبق أن كانت متلازمة المال والسلطة بهذا الحضور القوي في الساحة السياسية المغربية. وقد وجد وزير العدل نفسه في دوامة محاسبةٍ متعدّدة الأطراف، وواجهها بعملية دفاع عن نفسه، من الدرجة نفسها، وإن لم تكن من الطبيعة نفسها. وكان السبب انتشار خبر تقديمه «هبة» إلى زوجته، «فيلا» قيمتها قرابة 11 مليون درهم، اكتفي بالتصريح بواحدٍ منها فقط. بالنسبة للمهاجمين، هو لم يحترم الأصول الضريبية الواجبة قانوناً، لاسيّما أنه وزير عدل، في حين يدافع عن نفسه بالمبرّرات الضريبية نفسها، باعتبار أن من حقّه التصريح بالثمن الذي يحلو له، من دون أن يكون ذلك خرقاً للقانون، مقدّماً نفسه، في السياق، زوجاً حداثياً يجازي زوجته عن سنوات «الكدّ والسعاية»، كما سطّرها وأصَّل لها الفقه المالكي، وبات يعرف في مدونة الأسرة بتثمين عمل الزوجة المنزلي. تعرّض الوزير نفسه لحملةٍ بخصوص مساندته التعديلات الجديدة على المدوّنة ضدّ التيارات المحافظة، ويجد في هذا مساندةً من الأطراف الحداثية، لكنّه الوزير نفسه الذي يُعاب عليه تمجيده المال في صناعة التمايز الاجتماعي، كما حدث في قضية ابنه الذي كان قد فاز في مباراة المحاماة. ودافع عن مستواه الدراسي بالقول: «أبوه يملك المال وقد أرسله إلى كندا للدراسة». المال نفسه هو صكّ الاتهام في قصّة زكية الدريوش، كاتبة الدولة المكلّفة بالصيد البحري، التي كشفت خلال لقاء حزبي بمدينة الداخلة في الصحراء دعماً مالياً ضخماً بقيمة 11 مليون درهم، لتجهيز مشاريع تربية الأحياء المائية لفائدة برلماني من حزبها. وشغلت قضية الدعم المقدّم لمستوردي اللحوم عموماً، والأغنام، حيّزاً مهماً من النقاشات السياسية والإعلامية، تزامنت مع الخصاص المسجّل في أضحيات عيد الأضحى، ما استدعى تدخّل الملك محمد السادس لدعوة الناس إلى الإحجام عنها هاته السنة. النقاشات نفسها شاركت فيها أحزاب من داخل التحالف الحكومي، بنَفَسٍ احتجاجي واستنكاري، ومن ذلك ما كشفه وزير في الحكومة، زعيم حزب الاستقلال، الحزب التاريخي، من استفادة حفنة من المستوردين من دعم يفوق 13 مليار درهم، ما تسبّب في حالة غضب شعبي واسعة. ولعلّ ما أثار النقاش بشكل أعمق، ومن دون الوقوف كثيراً عند علاقة المقاولين بالسياسة أو طبيعة الثراء في المغرب، هو ما ارتبط برئيس الحكومة، الذي يُعَدّ أحد أكبر أثرياء البلاد، هو سليل عائلةٍ وطنية، بدأت في المقاومة وفي المعارضة، وتحمل المسؤولية على رأس حزب ولد من رحم الدولة، وصار رئيس الحكومة بعد انتخابات 2021، التي هزم فيها الإسلام الحزبي في شخص «العدالة والتنمية». ولعلّ المراقب لا بدّ من أن يشعر بأنّ شيئاً ما، غير عادي وغير محسوس، يجعل لرئيس الحكومة الثري والغني، علاقةً بهذا التجاذب الإشكالي بين المال و»الفساد» المفترض في السياسيين، فعلى عكس التكتّم الذي طبع رجال الأعمال في المغرب أو الأثرياء والمقاولين، في علاقتهم بالسياسة، ونقاشاتها، بل ممارستها، نجد أن ما يطبع الوضع الحالي مع أثرياء الحكومة هو الميل إلى نوع من الفرجوية «المكتفية بذاتها»، تجعل المعنيين يستعرضون ثراءهم في البرلمان كما فعل رئيس الحكومة بالدفاع علانيةً عن صفقة تحلية مياه البحر، في جهة الدارالبيضاء، وهي الصفقة التي رست على إحدى شركاته، أو عندما عارض بشدة أيّ انتقاد لشروط المنافسة في مجال المحروقات. وكذلك فعل أيضاً في الدفاع عن ثلثي رجال الأعمال الذين يعرفهم، واستفادتهم من الصفقات في مجالات الصحّة وغيرها من الاستثمارات المستحدثة. ومن المحقّق أن القانون، في صيغته الحالية، لم يضع بعد آلياتٍ ونصوصاً للتجريم الواضح في قضايا الجمع بين السلطة والمال وتضارب المصالح على هذا المستوى، لكنّ عديدين يعتبرون أن الأخلاق السياسية قد تنزع عن المستفيد ما يبيحه له القانون، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بمجتمعٍ يصارع ضدّ الهشاشة، ويضطر إلى دفع الدعم الاجتماعي المباشر لملايين الأسر. ولهذا يشعر عديدون بأن في هاته الاستعراضية استفزازاً نيوليبرالياً، كما أن فيه مساءلةً لعلاقة السياسة بالمال، وحاجةً إلى تدقيقات دستورية في هذا الباب. وقد أصبح من نافل النقاشات أن تطرح القضية على بساط التفكير الدستوري، وهو ما تبيّن من مداخلة إحدى الشخصيات المساهمة في كتابة الدستور، الأستاذ والوزير السابق والمناضل اليساري الموثوق، عبد لله ساعف، الذي لم يتردّد في اعتبار النقطة الحالية (العلاقة بين المال والسلطة)، أحد العناصر الأساسية التي يجب أن تخضع للتدقيق الدستوري في إطار ما سمّاه «الموجة الجديدة» من الإصلاحات الدستورية، ضمن إصلاح موازٍ للتوافق حول درجة تفعيل الملكية البرلمانية. وممّا زاد من تخوّفات المدافعين عن نبل السياسة والسياسيين تراجع الأغلبية الحكومية حالياً عن مشروع قانون لتجريم «الإثراء غير المشروع»، ورفض مساهمة المجتمع المدني في الترافع ضدّ من يعتبرهم مفسدين، علاوة على النزوع العام نحو تحويل المنافسات الانتخابية إلى منافساتٍ بين ذوي المال والنفوذ الاقتصادي، وتقليص معناها السياسي والفكري. نشر بالعربي الجديد يوم الثلاثاء 29 يوليوز2025