لم يكن خروج محمد أوجار، القيادي البارز في حزب التجمع الوطني للأحرار، وزير العدل السابق، والدبلوماسي المرموق الذي راكم تجربة طويلة في دواليب الدولة، حدثاً عادياً في المشهد السياسي المغربي. فالرجل لم يكتف بإبداء رأي، ولم يكن بصدد تحليل أكاديمي، بل اختار، بوعي تام، أن يعصف بالمسلمات التي تسهر الأغلبية الحكومية على ترويجها يومياً. لقد قال أوجار، بصوت مرتفع ومن داخل بيت السلطة، ما كانت المعارضة الاتحادية تنبه إليه منذ سنوات: الإدارة تحكم... والسياسة تُستعمل واجهة. منذ الجملة الأولى، كان واضحاً أن القيادي التجمعي لا يريد الالتفاف حول الحقيقة. فالوزراء، في نظره، يتحركون داخل مساحة ضيقة، محاصرين ببنية إدارية لم تتغير منذ زمن إدريس البصري، بل ما تزال تعمل بنفس آليات الضبط والتحكم، رغم كل ما قيل عن المفهوم الجديد للسلطة ودستور 2011 والجهوية المتقدمة. المنتخبون، حسب شهادته، لا يملكون من القرار إلا ما يُسمح لهم به، ورؤساء الجماعات لا يرفعون القلم إلا بعد استشارة ممثل الداخلية، والولاة والعمال يمسكون بمفاتيح التنمية كما لو أنهم الفاعل السياسي الأول. هكذا، بكل بساطة، أعاد أوجار ترتيب خريطة السلطة الحقيقية في المغرب، مُسقطاً القناع عن العلاقة المعقدة بين السياسة والإدارة. لكن وقع كلامه لا يكمن فقط في جرأته، بل في مصدره. فحين يأتي هذا النقد من قلب الحزب الذي يقود الحكومة، تُصبح الرسالة أشد وقعاً وأكثر عمقاً. فالأغلبية الحكومية ظلت تسوق صورة وردية عن "الإنجازات الكبرى"، بينما يكشف أحد أبرز وجوهها أن الحكومة لا تحكم، وأن الوزراء عاجزون، وأن القرار يُصنع خارج المؤسسات المنتخبة. هنا تتجاوز المسألة حدود الرأي السياسي لتصبح إدانة داخلية لمنظومة كاملة تُحاول إخفاء هشاشتها خلف لغة الأرقام والشعارات. وفي الوقت الذي حافظ فيه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منذ حكومة التناوب، على خطاب نقدي متماسك حول مركزية القرار وضعف اللامركزية الحقيقية، ووجود ولاة وعمال يمارسون أدوار gouverneurs développeurs، وينوبون عن المنتخبين في تدبير الشأن العام، كان الاعتقاد السائد أن هذا الصوت يأتي من المعارضة فقط. لكن حين يتحدث القيادي التجمعي لغة الاتحاد، وحين يردد نفس الأسئلة التي طرحتها المعارضة منذ أكثر من عقدين حول حدود السلطة ومسؤولية القرار، يصبح النقاش أعمق، وتتحول الأسئلة القديمة إلى حقائق مؤلمة لا يمكن التهرب منها. ولم يكتف القيادي التجمعي بذلك، بل اتجه مباشرة إلى قلب المؤسسة التشريعية، ليعلن أن البرلمان لم يعد فضاءً للتمثيل الشعبي، بل منصة تُصنع داخله الأغلبية وفق منطق المال لا منطق الكفاءة. فالوجوه التي تعكس المجتمع تمر مروراً سريعاً، بينما يُحكم رجال الأعمال قبضتهم على المقاعد بفضل الموارد المالية التي تسمح لهم بتجديد مواقعهم. هذا التشخيص، الذي يضع اليد على جرح التمثيلية الديمقراطية، ينسف كل خطاب حول "التمكين السياسي" و"تجديد النخب"، ويكشف أن العملية الانتخابية، كما صممتها الأغلبية ذاتها، أصبحت أداة لإعادة إنتاج نفس التوازنات. المثير في خرجة أوجار أن رسالته لم تكن إدارية فقط بل سياسية، حين ربط هذا الاختناق المؤسساتي بالمرحلة الجديدة التي يدخلها المغرب بعد القرار الأخير لمجلس الأمن حول الصحراء. قال بوضوح إن الهندسة المؤسساتية الحالية لم تعد كافية، وإن المغرب يحتاج إلى تعديل دستوري وهندسة سياسية قادرة على مواكبة التحولات الجيواستراتيجية الكبرى. هذا التصريح وحده كافٍ ليقلب أسس القراءة الحكومية للمرحلة، لأنه يعني أن الأزمة ليست عرضية، ولا راجعة إلى صعوبات ظرفية، بل هي أزمة نموذج تدبير الشأن العام يحتاج إلى إعادة البناء. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا اختار القيادي التجمعي هذا التوقيت بالضبط؟ ولماذا تزامن مع الدورات الداخلية لحزب الأحرار؟ ولماذا في لحظة تحاول فيها القيادة تقديم التجربة الحكومية كحالة نجاح غير مسبوقة؟ الجواب، ببساطة، أن الرجل رفض الاستمرار في لعبة تجميل الواقع. رفض أن يكون شاهداً على تسويق إنجازات شكلية في وقت يزداد فيه الاختناق المؤسساتي. رفض أن يكون جزءاً من رواية سياسية لا تقنع حتى أصحابها. لقد قدم أوجار، عبر هذا الاعتراف، ما يشبه استقالة فكرية من خطاب الأغلبية، دون أن يغادر الحزب، ودون أن يقدم نقداً مباشراً لقيادته. صوته كان أعلى من الترتيبات التنظيمية، وأقوى من الاعتبارات الحزبية الضيقة. وفي الوقت الذي تستعد فيه البلاد لمرحلة دقيقة تتطلب جرأة في توزيع السلطة، وربط القرار السياسي بالمحاسبة، وتعزيز الجهوية المتقدمة كرافعة للتنمية، تبدو شهادة القيادي التجمعي بمثابة تحذير داخلي من استمرار البلاد في إدارة شؤونها خارج السياسة. فالتحديات التي تنتظر المغرب لا يمكن مواجهتها بإدارة قوية وسياسة ضعيفة، ولا ببيروقراطية تتحكم في مفاتيح الدولة بينما تتراجع وظيفة المؤسسات المنتخبة إلى مستوى الديكور. لقد قال أوجار جزءاً من الحقيقة، والحقيقة الأخرى أن البلاد تحتاج إلى إصلاح السلطة قبل إصلاح القوانين، وإلى إعادة الاعتبار للقرار السياسي قبل التحدث عن النموذج التنموي، وإلى ديمقراطية تُمارس فعلاً لا تُستدعى فقط يوم الاقتراع. ما قاله القيادي التجمعي لم يكن مجرد خرجة إعلامية، بل كان إعلانا بأن البلاد وصلت مفترق طرق: إما أن تستعيد السياسة وظيفتها القيادية، أو يظل المغرب في دائرة إدارة تُدير كل شيء... وسياسة لا تدير شيئاً.