تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. على متن طائرة قادمة من الكويت، بعد مشاركته في القمة الإسلامية التي مثل عز الدين العراقي فيها المغرب، لم يفت عبد اللطيف الفيلالي أن يصرح بأن الجزائريين طلبوا من المغرب مهلة لترتيب أوضاعهم الداخلية. واستدرك رئيس الدبلوماسية المغربية الموقف آنذاك بالقول: «إنهم ينتظرون منا أن نتركهم ح+تى تنبت لهم أظافر ينهشون بها الجسد المغربي» وأضاف: «كلا، لن نتركهم يفعلون ذلك». كان التصريح في منطوقه ومفهومه غريبا عن وزير خارجية دأب على الصمت، إلى درجة أن البعض كان ينعت صمته بأنه في مثل سكوت أبي الهول، غير أن الفيلالي، في لحظات خارج سياق الحكمة الدبلوماسية، كان يعلن صراحة أنه لا ينتظر أي خير من الجزائريين. أما السبب في ذلك، فيُعزى إلى أنه كان من أشد مناصري الثورة الجزائرية، وارتبط بصداقات مع روادها مثل أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد وآخرين، لكنه مثلَ مغاربة كثر فوجئ بأن الجزائر الدولة لم تعد هي جزائر الثورة بعد استقلال البلاد. وكتب في مذكراته، التي تعتبر من بين الأعمال النادرة التي صدرت عن مسؤولين تحملوا مسؤوليات وزارية ومهام دبلوماسية عدة، أن الخطأ الكبير الذي ارتكبته القيادة الجزائرية أنها هدمت كل شيء «وانساقت وراء غليان وتصاعد قومية كانت في المهد»، بدل الانفتاح على الجوار المغاربي. عندما عهد إليه الملك الحسن الثاني بمجاورة الزعامات السياسية، التي ظل يرتبط معها بعلاقات ودية، إبان اندلاع حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي للكويت، كان يتوقف طويلا عند فكرة أن الانحياز إلى العراق يفقد بعض هذه الأحزاب فرصة تولي مسؤوليات في الخارجية إذا دعيت للمشاركة في حكومة مرتقبة. لم تكن فكرة التناوب قد تبلورت بعد، لكن الفيلالي فهم وقتها أن الحسن الثاني بصدد فتح صفحة جديدة في العلاقة مع المعارضة، وأن اختبارا لإدارة حوار غير رسمي في هذا النطاق له أكثر من دلالة، ليس أقلها أن البلاد على موعد مع تحول جديد في مسارها السياسي. ولم يخالجه شك في أن دوره لن يكون بديلا لتجربة في طريقها إلى الإنجاز، لولا أن تطورات الأحداث ستدفعه إلى أن يصبح وزيرا أول في عام 1995، على خلفية فشل مشاورات التناوب، وسيحتفظ في الآن نفسه بوزارة الخارجية، ليقود فترة انتقالية اتسمت بتحديات كثيرة ليس أقلها الإعداد لتعديل دستوري هام ستدعمه كافة فصائل المعارضة، باستثناء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والإتيان بتقنوقراط لتصريف العمل الحكومي في انتظار نضج رهان التناوب. هل ركب القطار قبل أوان انطلاقه أم أنه جاء متأخرا عن موعد الإقلاع؟ على أي حال، فقد استطاع الفيلالي، الذي رغب مرات عديدة في الانسحاب من مسرح الحياة السياسية، أن يبصم عهده ببعض الخصائص، ومن ذلك الإعلان صراحة أن التغييرات الوزارية التي حدثت في عهده كوزير أول جاءت باقتراح منه. وتكمن أهمية هذا التطور في أنه جاء قبل المراجعة الدستورية لعام 1996، التي منحت الوزير الأول صلاحيات لاقتراح الوزراء وعرض برنامج حكومته أمام البرلمان لحيازة الثقة، بعد أن كان الأمر يقتصر على تقديم برنامج لا يفسح المجال أمام إمكانية الطعن في الشرعية الدستورية للجهاز التنفيذي. وكما أنه عاين تجربة انتقال قطاع الإعلام إلى اختصاصات وزارة الداخلية لدى تعيين الراحل إدريس البصري في منصب وزير الداخلية والإعلام، فقد استطاع أن يلغي هذا الاحتكار، الذي كانت قد أملته ظروف طارئة، فأصبح إدريس البصري وزير دولة بدون حقيبة الإعلام، فيما استمرت علاقات الرجلين، الفيلالي والبصري، مطبوعة بكثير من الحذر، وإن كان البصري غلب بنفوذه المتنامي وقتذاك في التعاطي مع ملف الصحراء، إلى درجة كان يفوق بها أي وزارة أخرى، مع أن الفيلالي رفض هيمنة الداخلية على وزارة الخارجية بصورة أو بأخرى. مثل تجربة الوزير الأول الأسبق أحمد عصمان، سيتصاهر عبد اللطيف الفيلالي مع الأسرة الملكية عبر زفاف الأميرة للا مريم البنت البكر للحسن الثاني إلى نجله فؤاد الفيلالي، الذي سيسطع نجمه في هولدينغ أونا والقناة الثانية، إلا أن الفيلالي سيحتفظ بطقوس حياته العادية، وإن كانت بعض الهفوات جلبت عليه المتاعب دون أن يكون لذلك أي تداعيات سياسية، إذ يتم التفريق بين الخصوصيات وأمور الدولة. غير أن مساره المهني والسياسي ستطبعه لحظات شاءت أقدار أن يكون فيها شاهدا على كثير من الأحداث، ليس أبعدها أنه عاين ظروف انطلاق المسيرة الخضراء والإعلان عن استنفاد أغراضها، خصوصا في ضوء الاتفاق على اجتماع مدريد، الذي انتهى بإبرام اتفاقية انسحاب الإدارة والجيش الإسبانيين من الساقية الحمراء ووادي الذهب. كذلك سيكون شاهدا على أكثر من جولات الحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني ومسؤولين إسرائيليين، أمثال شمعون بيريز وإسحاق رابين وغيرهما، في إطار توجه مغربي كان يروم فتح هوة في الجدار السميك لانعدام الثقة، دون أن يحقق ذلك اختراقا كبيرا في المواقف الإسرائيلية المتشددة والمتعنتة. هذه المحطات وغيرها لا تعني أن الرجل كان مجرد شاهد، فقد أسهم بقسط وافر في ترتيب أوضاع سياسية، ليس أقلها أن فترة توليه الوزارة الأولى مهدت الطريق لما سيعرف لاحقا بتجربة التناوب، ساعده في ذلك أنه حين نودي عليه لتولي المسؤولية، لم يقطع الصلات مع التطورات المحتملة، ولعله كان مدركا أن التناوب فشل في عام 1994، بسبب عدم إنضاج ظروفه التي كان الرهان فيها قائما على الاتحاد الاشتراكي، وعلى زعيمه عبد الرحمن اليوسفي بالدرجة الأولى. ومع أنه كان أقرب إلى الاستقلاليين منذ أن اشتغل في وزارة الخارجية في عهد الحاج أحمد بلا فريج، فقد ظل براغماتيا يقيس الأشياء بالضرورات وليس العواطف، لذلك فقد تسرب يوما أنه طلب من الملك الراحل الحسن الثاني أن يستمر في منصبه وزيرا للخارجية، بعد أن خلفه عبد الرحمن اليوسفي كوزير أول، ولعل غايته من ذلك أن لا يحسب عليه أنه كان يغرد خارج السرب. يوم ظهر الفيلالي في لقاء إلى جانب وزراء الخارجية المغاربة في أحد فنادق العاصمة، أثناء جلسة عمل، كان يبدو عليه التعب وكان يضع ضمادة على عنقه ويده، وحين سئل عن أسباب ذلك، رد مازحا، مع أنه لم يعرف عنه المزاح، بأن وضعه يشبه الاتحاد المغاربي. وأعادت الصورة إلى الأذهان تشكيل حكومة المرحلة، حين أسندت كتابة الدولة في الشؤون المغاربية إلى عبد العزيز المسيوي، العضو السابق في البرلمان، إذ علق الملك الحسن الثاني أن الاسم على المسمى، فقد كان الاتحاد يجتاز فترة حرجة لا يقوى خلالها على المضي قدما إلى الأمام، ويحتاج إلى أكثر من عكاز لإعانته على المشي. لم يكن الفيلالي مؤمنا بأن الاتحاد المغاربي يستطيع التغلب على صعوباته الموضوعية والذاتية، فقد كان يرى أن التجربة ولدت على قياس مشروع غير مكتمل الملامح، وظل يرى أنه من دون بناء الاتحاد على أسس عقلانية ومتينة تضع المصالح الاقتصادية المشتركة أمام تحديات حقيقية يصعب على الاتحاد أن يمضي على إيقاع المتمنيات، خصوصا أنه كان مدركا أن الجزائر لن تترك المغرب وشأنه أبدا. بيد أنه حين ذهب إلى هيوستن لمفاوضة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر، الذي كان يرعى سلسلة مفاوضات في ملف الصحراء، عاد بأقل قدر من الضمانات، وربما غاب عنه هذه المرة أن صديقه بيكر الذي حاوره حول أزمة الخليج الثانية، لم يكن صريحا معه بالقدر الكافي، مما تطلب منه إعادة جولة أخرى من المفاوضات، ستثبت لاحقا أن بيكر غير طريقه واستبدل موقفه، في سياق الإعداد لطرح خطة الاتفاق - الإطار- التي سرعان ما تراجع عنها في سابقة خطيرة، ليطرح مشروعا أخطر في مضمونه وسياقه وعناوينه البارزة. غير أن الفيلالي ظل دائما يعزو توتر العلاقات المغربية الجزائرية إلى خلفيات تاريخية، ليس أبعدها أن ترسيخ الحدود لم يتم في أوانه، وأن بعض الدول الغربية كانت ضالعة في فرض الأمر الواقع على المنطقة برمتها، لذلك فإن حواراته مع المسؤولين الفرنسيين والإسبان ظلت دائما متأثرة بالمرجعية التاريخية التي كان الفيلالي يرى فيها أصل كل المشاكل ومدخل كل الحلول. وعلى الرغم من أنه كان يبدو دبلوماسيا متشبعا بلغة الحوار، فإن مواقفه إزاء العلاقات مع الجزائر اتسمت دائما بالجرأة والوضوح، ولم يكن يميل إلى المهادنة، وقد حدث مرة أنه دعي من طرف الملك الراحل الحسن الثاني للذهاب إلى الجزائر في مهمة خاصة، لكنه اعتذر بطريقة لبقة، مما حذا بالملك إلى اختيار الحاج محمد اباحنيني لحمل رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس الجزائري الهواري بومدين. كان الحدث يبدو عاديا، لولا أن الرئيس الجزائري اعتلى منصة أطول، وحين سلمه الحاج أحمد اباحنيني الرسالة الملكية، التقطت لهذا الأخير صورة وكأنه ينحني أمام الرئيس الجزائري، وقد فهم الملك الحسن الثاني لماذا أبدى الفيلالي بعض التململ في حمل تلك الرسالة، لأنه لم يكن يرغب في أن تلتقط له صورة بذلك المستوى. كم يبدو أمر انتقاد المواقف الجزائرية مثيرا حين يصدر عن رجل شارك في المفاوضات التي أدت إلى الإفراج عن قادة الثورة الجزائرية لدى اختطاف وتحويل اتجاه طائرتهم، التي كانت ستهبط في تونس قادمة من المغرب في عام 1956، أقل من سنة على استقلال المغرب، ينضاف إلى ذلك أن عبد اللطيف الفيلالي لما كان سفيرا للرباط في مدريد عاين المناورات التي حيكت بين أوساط جزائرية وإسبانية للنيل من المغرب يوم كان بصدد استعادة الساقية الحمراء ووادي الذهب. عدا إلمامه بالشؤون المغاربية، فقد شغل الفيلالي مهمة مندوب دائم للمغرب في الأممالمتحدة، وسفير للرباط في الجزائر، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا والصين وعواصم أخرى، كما أنه تولى رئاسة الدبلوماسية المغربية مرات عدة. ويبدو أن فترة توليه الخارجية في السنوات الأولى لما بعد إقامة اتحاد المغرب العربي مكنته من الإلمام أكثر بالملفات الشائكة في المنطقة المغاربية، والتي تكاد تتمحور حول إشكاليات العلاقات غير العادية بين الجزائر والمغرب. على عهد الفيلالي، ستتشكل حكومة تقنوقراطية. وإذا كان من شيء يميزها، فإنها مهدت لتحول في مسار التجربة السياسية في البلاد، وإذ يسجل له أنه فك الارتباط الذي كان قائما بين الداخلية والإعلام، فقد استطاع، في ظل ظروف مواتية، أن يجعل من مروره في الوزارة الأولى حدثا يفوق الإعداد لفترة انتقالية، اضطر معها إلى أن يحمل حقيبته ويرحل، قبل أن يغيبه الرحيل الأخير، ولو أنه ظل على قناعة بأن المجال الطبيعي لتحرك المغرب يكمن في التطلع شمالا نحو بلدان الاتحاد الأوربي، وليس في اتجاه المنطقة المغاربية والعربية، ولعله كان وزير الخارجية رقم واحد الذي عاين الكثير من الالتزامات وخرج منها بجراح لم تلزمه التوقف عن التفكير.