لم يكن هؤلاء الأغنياء يتوقعون أن تكون نهايتهم يوما، بين المسنين والمرضى عقليا وعصبيا، ولم يتصوروا يوما أن جفونهم لن تغمض إلا بالمسكنات، ولم يعلموا أيضا أن الفقر سيدفع بهم إلى امتهان حرف من أجل ربح دريهمات معدودة، ببيع السجائر للمدمنين، واستغلال ظروف منع حالات مستعصية من الخروج، تصادفك سلوكات نساء ورجال نزلاء المركز، مشردون يطرقون نوافذ الغرف الخاصة بالنساء، بحركات وإيحاءات «جنسية» ولا يصدها سوى إغلاق النوافذ في وجه هؤلاء. قصص واقعية ننقلها على لسان فئات اجتماعية لم تدرك يوما أن الأقدار ستعصف بها بعد مرور أعوام من العز والترف في قفص المسنين. غادرت المغرب نحو إسرائيل منذ 20 غشت سنة 1997 بعد فشلها في الحياة الزوجية التي دامت إحدى عشرة سنة، قضتها مع شخصية بارزة وثرية في المغرب، طلقها لأسباب اعتبرتها واهية، وغادرت بيت الزوجية، لتقتحم مجال الشهرة كمصممة أزياء إلى جانب مجموعة من العارضات الأجنبيات، لم يكن يرقها ذلك، رغم كونها لا تشتغل سوى في أماكن راقية. بعدها اشتغلت في مجال الخياطة وتصميم الأزياء مع ثلة من اليهود حيث كانت المسلمة الوحيدة بينهم. أتيحت لها فرصة الذهاب إلى إسرائيل، لتعمل كمربية عند عائلة عراقية من أصل يهودي حيث كانت تتكلف برعاية الأشخاص المسنين الذين تحتضنهم هذه العائلة وكانت تتقاضى أزيد من 1600 دولار في الشهر بالإضافة إلى 100 دولار كمصروف يومي و100 دولار أخرى كل أسبوع خاصة بمصروفها في الأكل، دخلت المغرب عندما سمعت إشاعات بأن أمها تتسول في الشارع، لكون ما ترسله من مال لا يكفي فقد كان أخوها مدمنا على الخمر والأماكن الراقية، لتقف على حقائق لم تكن تضعها يوما في الحسبان، الأم تتسول والابن باع ما تركه الأب من إرث، لم تصدق خديجة ما رأته بأم عينها، تتكلم ودموعها تنسكب على خديها: «لم أكن أتصور أمي تمد يدها وأنا أرسل ما يقارب 600 دولار في الشهر، وفي المناسبات والأعياد يتضاعف المبلغ إلى 900 دولار». صدمت حلة بالتغيير غير المحسوب والطعنة من الخلف، حيث قالت إنها تغربت في إسرائيل من أجل أسرتها ولم يكن مصيرها في نهاية المطاف سوى الجحيم. ففكرت في إنشاء حضانة للأطفال، ومستعدة لرعايتهم وتمويل الحضانة شهريا حتى لو عادت إلى إسرائيل، لتصطدم مرة أخرى بعدد من المشاكل وأحست أنها فشلت في كل شيء وضبطت مجموعة من الخروقات التي نسجها لها أفراد من عائلتها لفرط ثقتها العمياء بهم، وفي ظرف قياسي لم يتجاوز العامين فقط انقلب ميزان الثراء إلى الفقر المدقع، تقول بألم «عشت عامين من الجحيم كأنني عشت 80 سنة»، ولم تجد أمامها سوى خيرية تيط مليل بعد زيارتها لمركز في عين الشق لم تحتمل النزول به ففضلت خيرية تيط مليل كأخف الضررين. لقد عشت التشرد تجربتها وذكرياتها في إسرائيل هي الملاذ المؤقت الذي يخفف عنها ما حصل لها في المغرب، حيث أضحت لا تستطيع النوم بدون مسكنات تخدر عقلها، وتصم آذانها عن شخير من حولها أو صراخ من انهارت أعصابه وغيرها من العادات السلبية غير المرغوب فيها... حديثها معنا ينتابه نوع من التردد والارتباك أحيانا والسهو مرة أخرى. أعادت تاريخ ماضيها واستدرجت لنا قصصها المثيرة في القدس، مع شعب إسرائيل في «أرض الدم» تقول حلة إن أول مرة تذهب فيها إلى القدس، كان في شهر رمضان من أجل أداء صلاة التراويح، أخبرتها صديقتها اليهودية ألا تكشف عن هويتها بأنها مغربية، لكن نقوش الحناء التي زينت بها يديها كانت تثير فضول اليهود والمسلمين معا، ليسألها أحد الملتحين اليهود عن أصلها ومن أتى بها إلى هنا فأخبرته بعفوية «أنا مسلمة، عربية، مغربية من الدارالبيضاء» وأكدت له أن العروبة في هذا البلد ليس لها مكان وأنها تركتها في المغرب، فطلب منها قراءة القرآن للتأكد من أنها فعلا عربية مسلمة، لم تتردد في قراءة سورة ياسين وآية الكرسي وبعد أن تأكد من كلامها طلب من أحد سائقي سيارات الأجرة أن يأخذها إلى حيث شاءت حيث ضلت الوجهة التي قدمت منها. تحكي حلة عن علاقتها بالشعب الفلسطيني الذي كانت تتضامن معه قبل دخولها أرض إسرائيل وفلسطين، لم تكن حلة يوما تعتقد أن الفلسطينيات اللواتي كن يشتغلن معها في إسرائيل عند العائلات اليهودية المستوطنة، سيرمون بها في الشارع، حلة تلك المرأة التي كانت تعتز بمعرفتها بالفلسطينيات وفي كل زيارة لها للمغرب تقتني لهن هدايا مغربية. وجزاؤها في نهاية المطاف السب والشتم والكلام النابي. الأقراص المنومة والمهدئة عودة حلة إلى المغرب كانت بخطوات متثاقلة، أحست أن الهزيمة اقتربت بعد سنين من جمع الثروة والمال، والتضحية من أجل الأسرة والعائلة، لم تجن من ذلك سوى الفقر، تحكي حلة عن اليوم الذي دخلت فيه دار المسنين، كيف فكرت في الخروج إلى الشارع، لأن الرائحة التي تنبع من الأفرشة من ( بول وبراز) لم تتحملها، ولم تصدق حلة أنها ستنهزم أمام الزمن وتستسلم للأقدار، تقول «لولا المسكنات لما قضيت يوما واحدا في هذا المخفر».