يقام اليوم الخميس، 22 شتنبر، في غاليري لوفت في الدارالبيضاء، معرض فني للفنانة التشكيلية فلورانس آرنو. وفي هذا المعرض، تدخل الفنانة مواجهة قوية مع الجسد، باعتباره رهانا فنيا. هذه قراءة في أعمال هذه الفنانة... في زمن ما أسماه جان -كلود غيلبو، زمن «سيادة الحشمة»، تطل علينا مثل هذه التجارب، وكأنها قبَس من نور لتُذكّرنا بأن الجسد يبقى مرجع المراجع، المبتدأ الأبدي الذي على الفنان استدعاؤه، وباستمرار، في فضاء اللوحة، إذ هو الطاقة الخلاقة، الرغبة والمجال لتجليات «إيروس» و«تاناتوس» (الموت). لم يفت فلورانس آرنو أن تُذكّر بهذه القاعدة الذهبية التي يقوم عليها الفن المعاصر والحديث. وبذلك تندرج رأسا وبالكامل في الفكرة التي أعرب عنها الكاتب والشاعر بيرنار نوييل، حين أشار إلى أن «تاريخ الفن التشكيلي المعاصر إن هو إلا تاريخ لتحولات الجسد». لكن الجسد، الذي تعرضه فلورانس أرنو على العين، على الفكر والرؤيا، جسد تَخلَّص من مركزيته الأوربية ومن المعايير الفنية الكلاسيكية، القائمة على المحاكاة أو التأليه اللاهوتي، والذي أدرج لغاية منظومة الهتك وفي تربة إفريقية -عربية لعبت دور بوثقة مكمّلة لهوية الفنانة. لكنْ عوض أن تقدم لنا جسدا مطلقا، بالمعنى اللاهوتي، عرضت علينا، بالعكس، جسدا متشظيا هو مرآة للانقسام الذي يشغل دواخلها. جسد هو مرآة للترحال، للهبة والتشظي. وإن حاولنا تلخيص التجربة الفنية لفلورانس آرنو، لقلنا إنها تتمحور حول هذه النماذج الثلاثة. الترحال وهي حديثة السن، رافقت فلورانس أرنو عائلتها إلى القارة الإفريقية، لتعيش، بالتوالي، في الكامرون، الجزائر وفي المغرب، الذي أقامت فيه إلى غاية 3991، قبل عودتها إلى أوربا، لقضاء سنة في لندن وبضع سنوات في جنوبفرنسا رحلت، بعدها، إلى كالفورنيا، لتحُطّ الرحال نهائيا بالدارالبيضاء، لأن المغرب «يسكنها» بالمعنى السحري. كان أول معرض لها في هذه المدينة عام 7991 في قاعة «ملتقى الفنون»، تلتْه معارض فردية وجماعية في عدة مدن وعواصم دولية، مثل لوس أنجلس، كالفورنيا، باريس، ليون، نيس، الجزائر وبرشلونة... نقلت فلورانس آرنو نتاجها، الطافح، بلغات تشكيلية وافدة من ميثولوجيا الخلق ( صورة حواء وهي عارية) لكن الفنانة نقلتها، بل رحّلتها إلى المجال الإيروسي، مجال الشهوة، اللذة والمتعة. وأصبح الجسد، بذلك، في عرائه، علامة مرتحلة، سابحة في فضاء اللوحة. وبما أن الحركة هي أحد المبادئ التي يتأسس عليه الرسم الحديث، على النقيض من السكون في الرسم الكلاسيكي، فإن المشهد العامّ للوحات الفنانة حافل بحركية الأجساد وتنقلاته. وإذا كانت أعمال فلورانس آرنو قد نهلت من التجارب الفنية الحديثة والأكثر راديكالية في موضوع الجسد، فإن الثقافة الإفريقية تبقى بمثابة تكملة إستتيقية نلاحظها في اللون الطيني، الطبشوري أو الصخري، الذي يشغل مساحة بعض اللوحات. وهي أحد أوجه الترحال في علامات الصحاري والقفار، التي «تغوي» الفنانة. الهبّة في الأعمال الأولى، حافظت الفنانة على الخطوط الكلاسيكية للجسد، بعرضها بعضَ تفاصيله، الموحية، مثل النهدين أو السّاقين. جاءت الأجساد على شكل بورتريهات مجسّمة، كما لو كانت استيحاء لعالم الرسام هنري ماتيس أو بيكاسو، مثل اللوحة التي تحمل عنوان «على الأريكة»، التي يعود تاريخها إلى 1002. يترجم الهبّةَ في هذه اللوحة مناخ النشوة والاستسلام، المتأتي من تعابير وجه المرأة، وكأنها تقول «ها آنذا قد بلغتُ قمة الانتشاء»... يبقى تشكيل الجسد ذاك السهل الممتنع، الذي أنهك طاقة الرسامين، من تيسيان إلى أندري ماسون، مرورا بفيلاسكيز، كارافاج، تانتوري وغيرهم، إما لمحاولة نقله كما هو، أو لمحاولة إعادة ابتكاره بعد هدمه. وإلى غاية 8002، يلاحَظ لدى الفنانة ميل إلى انتشاء الجسد بشكل انفرادي. تعتبر سنة 9002 نقطة تحول في نتاج فلورانس آرنو: من الهبّة الموجهة نحو الذات، كمرحلة للبراءة الفينوسية، ننتقل إلى الهبّة الثنائية ما بين جسدين. تقوم هذه الهبة على المشاركة والانتهاك. وفي العمل الأخير، دفعت الفنانة بحركات ووضعيات الجسد إلى مقام أصبح فيه الجسد دعوة مفتوحة إلى لمتعة المطلقة، حيث يطفح المشهد بإيروسية قصوى... التشظي حتى في آية التقاطهم الجسدَ الفردوسيَّ، كما سعى إلى ذلك كبار الرسامين والفنانين التشكيليين، يبقى هذا الأخير عصيا عن التصوير الكامل والشمولي. يبقى جسدا متشظيا، مجزءا ومتجزئا. لذا فإن تاريخ الفن التشكيلي في مسألة الجسد يبقى تاريخا للجسد المتشظي، لأن هذا الجسد مدموغ بجرح قديم، فالعراء لا يكشف عن الجسد. كما أن نظرتنا إليه لا تكفي للتعرف عليه وعلى مكنونه ودواخله، لذا لا يمكننا التعرُّف على الجسد إلا بصفة متشظية، عبر جزئياته. وهذا ما شدّد عليه الفن التشكيلي الحديث. وقد مرّرتْ فلورانس آرنو، في لوحاتها الأخيرة، هذا الحرص الإستتيقيّ بعرضها مشهدية تشغلها شذرات أجساد منغمسة في عشق لا نهائي. يترجم التشظي وضعية الفناء، الذي يعتبر، في الأخير، المبدأ المؤسس، على خلفية طينية الإنسان وآدميته. أما الجسد الكامل، مثله مثل اللذة الكاملة، فيبقى مجردَ وهم وخرافة، لأن حركة السقوط هي التي تحكمه وتتحكم فيه. السقوط ليس بمعنى الخطيئة، بل بمعنى التّيه.