وحده الزمن ذاك «الرجل العظيم»، الذي يحكم هذا الكون بظاهره وخفيه. وحده الشيء الذي يجب أن نحبه ونقدره ونرفع له القبعات ونقدم له التحية العسكرية التي لن تليق إلا به. إنه هو الوحيد القاضي العادل. لذا فنحن في حاجة دائمة إليه، في حاجة دائمة إلى أن يحكمنا ونحكمه دائما فيما بيننا، «فمن لم يربه والداه، فالزمن وحده كفيل بتربيته» ومن انتفخ كالطاووس فلا تقل له إلا كلمة واحدة :«الزمن بيننا»، ولا تشتمه ولا تحط من قيمته الإنسانية، ولكن فقط راقب كيف سيتكفل به هذا «الرجل العظيم» الذي نسميه الزمن. ستأتي نهارات وتذهب أخرى وتأتي ليال وتذهب وتأتي شموس وتذهب وتأتي أقمار وتذهب لتجد الظالم والمغرور والمستبد قد أذله الزمن وجعله ينحني بعدما كان لا يقبل الانحناء ويقول: «أنا ربكم الأعلى»، ستجده منبوذا ومنسيا في حفرة سحيقة لا قرار لها، وهو لا يكف عن الشكوى «اللي يتيق في الزمان احمق». فهذه قبعاتنا مرفوعة لك أيها الرجل العظيم الذي لا لون له ولا صورة له، تكفل بالمستبدين والغشاشين والمنافقين وكل حقراء العالم، نحن مقنتعون بعدالتك. إن النطفة ستستقر في ظلمات ثلاث وستصير مضغة، وتصير المضغة عظاما ثم تكسى لحما وتنفخ فيها الحياة، ثم يصير ذاك الماء التافه طفلا ويصير الطفل شابا ويصير الشاب كهلا ثم يصير الكهل شيخا ولن يكون بعد الشيخ سوى رجوع الأصل إلى أصله، أي «أن يغمس خنافرو في التراب». هذا إن لم يتدخل «الرجل العظيم» في قانون الحياة، فأحيانا يقطع بمقصه الحبل قبل أن يقطع المخلوق تلك المراحل الطبيعية للحياة. من ظلمك؟ قل له: «أنا وياك والزمن طويل». أخيرا سيكون للزمن كلمته وسيتكفل بكل شيء. حقيقة أنه اللغز الذي لم يجد له البشر أي تفسير، ولذلك فقد عبده من عبده وخاف منه من خاف ولا يزال هو اللغز الذي لن يجد له تفسيرا ولن يغلبه أحد، فالواحد منا حتى إن قال وهو يمسد لحيته أو يتحسس جيبه: «هذا الزمان. خاص الانسان يدير علاش يرجع».. «وهذه دواير الزمان» ووضع كل الاحتياط فإنه سيكون مغلوبا مغلوبا لا محالة «فلن يطيل النوم عمرا ولن يقصر في الأعمار طول السهر»، وتبقى العجلة تدور على الإيقاع الموسيقي «سر يازمان وتعال يازمان». إننا نخوض في كل لحظة من اللحظات معارك مع أنفسنا ونرسم الخطط للإيقاع بالآخرين إن كنا حقيرين. نأخذ تلك المعارك بكل ما نراه من الأسلحة التي نظن أنها فتاكة، لكن لما تهدأ المعركة وينقشع غبار الحوافر نجد بأننا كنا نطارد السراب في الصحراء، فالنصر يكون في آخر الأواخر للرجل العظيم الذي اسمه الزمن، فوحده الرابح في كل المعارك التي خاضها ويخوضها مع البشر ومن غيرهم من موجودات هذا الوجود، يذهب من يذهب ويجيء من يجيء وتجد الزمن دائما رافعا يديه، وهو يقول: هل من مصارع؟. وحده هذا السيف البتار يقطع أطرافنا قطعة قطعة وفي الأخير يجز أعناقنا ويرميها في هاوية سحيقة لا نعرف لها قرارا. ووحده كنز الذهب الملفوف يبقى غامضا.