«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. فرنسا في عشرينيات القرن الخامس عشر.. فتاة مراهقة تدعي بأنها تسمع أصواتا وكلمات هي وحدها فقط تستطيع سماعها.. وتقول إن الكلمات آتية من عند الله، لتنطلق في مهمتها المقدسة: هزم الإنجليز ورؤية الملك الفرنسي متوجا على العرش. تلك الفتاة كان اسمها جان داراك. كيف استطاعت ابنة التسعة عشر عاما أن تتحمل أقسى الآلام والعذابات وإنجاز ذلك كله؟ غاص مؤرخون وأخصائيون في الجهاز العصبي ومتخصصون في علم النفس الديني في عصرنا الحالي في حياتها الخارقة بحثا عن إجابة محددة للسؤال التالي: هل كانت جان دارك محاربة أم مهرطقة؟. أصوات من الله تعد جان دارك شفيعة فرنسا وبطلة قومية. لكن أضيفت ملامح تجميلية إلى قصتها عبر الزمن، مما جعل حقيقة حياة هذه الشابة محجوبة خلف أسطورة. التحقيق يبدأ من مدينة دومريمي لا بيسال، التي تقع على مساقة 250 كلم شرق باريس، وبالضبط عام 1428، الذي أخرج جان من الظل إلى الأسطورة. كانت جان تصرح منذ سن الثالثة عشرة أنها تسمع أصواتا في رأسها وتؤمن بأنها آتية من عند الله. وفي سن السادسة عشرة غادرت منزلها في زمن لم يكن العديدون يجرؤون على قضاء ليلة واحدة خارج المنزل. وقد صرحت وهي في طريقها إلى بلاط الملك شارل السابع أن لديها مهمة يجب أن تقوم بها. ليس هناك وثائق تاريخية تشير إلى أن جان اعتبرت يوما مجنونة، فقد عاشت على ما يبدو طفولة طبيعية في مجتمعها. لكن بسبب المعتقدات المسيحية حينها، اعتُقد أن تلك رسائل من الله. تلك الأفعال التي عدها البعض عجيبة هي التي خلقت أسطورة جان، وقد حدثت في خضم حملة عسكرية مستعرة. إنها حرب المائة عام بين فرنساوإنجلترا. كانت فرنسا في ذلك الوقت مقسمة إلى قسمين. كان الشمال خاضعا لنبيل فرنسي نافذ هو الدوق بورغندي وحليفته إنجلترا. فيما كان الجنوب تحت سيطرة وريث العرش الفرنسي شارل السابع الذي لم يكن يريد أن يخسر إرثه. وكانت الحدود بين القسمين نهر لوار. محاربة في كتيبة ملكية لقد ظهرت جان في وقت حساس في هذا الصراع. إذ في الوقت الذي كان الإنجليز يتقدمون ببطء نحو المناطق الفرنسية جنوبا، كانت تتوجه صوب بلاط الملك شارل في مارس عام 1429 وأخبرته بأنها في مهمة بأمر من الله. فأثارت فضول الملك عندما أعلنت له أن تحرير أورليان المحاصرة من طرف الإنجليز ستكون مهمتها. بعض المؤرخين تكهنوا بأن سماح الملك لجان بالذهاب إلى أورليان مع تعزيزات عسكرية كان بسبب توقه إلى أي مساعدة ممكنة. ورحبت تلك الكتيبة بوجودها لأنه كان يمثل شرعية إلاهية لقضية فرنسا، وهكذا ولدت أسطورة جان. أسطورة جان دارك وصل الإنجليز إلى نهر لوار وكانت معظم المدن التي أعلنوا الحرب عليها قد استسلمت دون مقاومة ما عدا أورليان. لم يتوقع الإنجليز مثل هذه المقاومة لدرجة أنهم أتوا بقوة صغيرة لا تتجاوز 4 آلاف رجل بهدف ضم تلك المدينة. ومع هذه القوة البشرية المحدودة ركز القائد الإنجليزي توماس مونتيغلو هجومه على قلعة توريل، التي يقع خلفها الجسر الوحيد المؤدي إلى المدينة. لكن الأورليانيين قاموا بخطوة جريئة تمثلت في تدمير الجسر. لم يتمكن الإنجليز من محاصرة المدينة كاملا وقطع المؤن عنها بسبب قلة الجنود. غير أن نكسة الإنجليز الكبرى ستكمن في مقتل القائد مونتيغلو في حادثة غريبة. إذ توجه إلى نافذة ما فأصابت القذيفة وجهه ودمرته ودمرت صورة القيادة لدى الإنجليز. وصول جان مع قوة إضافية رجح كفة الميزان لصالح الفرنسيين والأورليانيين، فوجهوا ضربتهم للإنجليز في قعلة توريل ونجحوا في هزمهم. وخلال تلك المعركة حدثت معجزة كان من الصعب تفسيرها، فقد أصيبت جان برمح اخترق عنقها إلى عمق 15 سم وصولا إلى كتفها. سالت دماء كثيرة وكانت الإصابة مميتة، لكنها عاودت القتال بعد وقت قصير دون أن تبدو متأثرة بالجرح. غير أنه لم لا يوجد أي توثيق يحدد مكان تلك الإصابة أو يدل إلى أي حد كانت تمثل خطرا على حياتها. بتتويج شارل السابع في ريمز في 17 يوليوز عام 1429 بعد شهرين من الانتصار سجل آخر الانتصارات العظيمة لجان، التي بدل أن تعود إلى ديارها أخذت على عاتقها مهمات عسكرية جديدة.كان منها هجوم متهور على باريس، فأسرها البورغنديون على مسافة 80 كلم شمال باريس، وسلمها الجنود الفرنسيون الأوفياء للإنجليز لهم فانتهت بذلك سيرتها العسكرية.. اقتيدت وأدينت من قبل الكنيسة الكاثوليكية بالهرطقة، وكان عقابها أن تحرق حية. اعترفت جان بأنها لم تكن تسمع أصواتا، مقرة بارتكاب خطايا ضد الكنيسة والله، لكن سرعان ما تراجعت عن ذلك. ووفقا لروايات شهود عيان أثناء عملية الحرق عام 1431، فإن جان لم تدافع عن نفسها ونادت بصوت مرتفع وسط ارتفاع ألسنة اللهب: «يا يسوع». محاربة أم ساحرة؟ بخصوص تصريحها بسماع أصوات، يعتقد بعض الخبراء المعاصرين أن هذا يدل على أن جان كان تعاني من انفصام في الشخصية وعوارض الجنون. أما اختصاصي علم النفس ميغيل فارياس بجامعة أكسفورد فيظن عكس ذلك، إذ أكد أن هناك فرقا كبيرا بين من يسمع أصواتا ويعاني أزمة نفسية خطيرة وبين من يسمع أصواتا ويعيش حياة طبيعية، موضحا أن هذه الأصوات قد تكون أفكارا مدفونة في اللاوعي. ويحلل المؤرخ العسكري كيلي ديفريز انتصار جان في أورليان قائلا إن «الإنجليز كانوا لا يملكون التعزيزات الكافية لمواجهة الفرنسيين، والفرنسيون لم يجربوا بدورهم مواجهة الثبات، فصدق الجميع أن الإنجليز كانوا سيجتاحون باقي الأراضي الفرنسية، وأن جان هي التي منعتهم من ذلك». المعجزة التي حدثت مع جان في أرض المعركة يشرحها توبياس كابويل، مسؤول عن قسم الأسلحة بمجموعة «والاس»، وباحث في دروع تلك الحقبة قائلا: «الدرع الذي كانت ترتديه جان كان يشكل حماية ممتازة ضد السهام. حقيقة أنها أصيبت إصابة بالغة، إلا أن الدرع الذي يمتد من تحت ذراعيها صعودا إلى كتفها توجد به فجوة أصيبت من خلالها، وهي إصابة مؤذية، لكنها غير قاتلة». تسيطر على حياة جان الشابة الراشدة حماستها الدينية، ويبدو أن سيكولوجية التقوى القصوى وقوة العقل هما التفسير لمعجزاتها الأسطورية. بعد مرور أكثر من 490 سنة على إحراق جان اعترفت الكنيسة الكاثوليكية بخطئها ورفعتها إلى مرتبة القديسة.