هناك أيام تظل عالقة في الذاكرة إلى الأبد، من بينها أول يوم رأينا فيه شريطا سينمائيا على «جهاز فيديو». سنوات طويلة قبل أن تظهر أقراص «الديفيدي» ومواقع التحميل على الأنترنيت، التي جعلت أفلام «هوليود» و«بوليود» في كل البيوت، ذهبنا فرحين إلى بيت صديقنا هشام كي نشاهد أول فيلم على الجهاز العجيب، الذي جلبه عمه من فرنسا وسط تلك الهدايا المدهشة التي كان يأتي بها المهاجرون كل صيف من الضفة الأخرى. لم يكن الفيلم يقل أسطورية عن الجهاز «La Fureur du dragon» لبروس لي. في تلك السنوات الرائعة، كان نجم «الكونغ فو» يسكن في جهاز الفيديو مع أبطال آخرين لا يقلون أسطورية عنه، أبرزهم سلفيستر ستالون وأرنولد شوارزينغر وأميتاب باشان وعبد الله غيث «صائد الأسود» في «رسالة» العقاد... كان الصغار كلهم يحلمون باليوم الذي يدخل فيه جهاز الفيديو إلى بيوتهم، لأن داخله يسكن هؤلاء «العظماء»، وبفضله يستطيعون مشاهدة «الفيلم الدولي المطول» في واضحة النهار، دون حاجة إلى مذيعة الربط بتسريحة شعرها السخيفة. أن تصبح عظيما في تلك الأيام، معناه أن تكون لك عضلات مفتولة مثل رامبو وحركات رشيقة مثل جاكي شان، وأن تكون مستعدا للشجار بسبب أو من دونه وتنتصر دائما بالضربة القاضية... هذه خلاصة الدروس التي تعلمناها من سنوات «الفيديو». كنا نغادر بيوتنا مدججين بكل أنواع الأسلحة: من «الجباد» الذي نصطاد به العصافير وحمام الجيران ومصابيح الدرب، إلى «المقلاع» الذي نخوض به حروبا طاحنة ضد «أعدائنا» في الأحياء المجاورة، مرورا بمختلف مسدسات عاشوراء، دون أن ننسى «السلسلة»، ذلك السلاح الفتاك الذي كنا نصنعه من سلسلة حديدية تصل بين قطعتي خشب، ونستخدمه في ألعاب استعراضية قد تتحول إلى مواجهة دامية بين شخصين. كانت أهم هوايات جيلنا هي ارتياد قاعات الرياضة لفتل العضلات، كي نكسب احترام الآخرين، «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى يراق على جوانبه الدم»، هذا هو شعار المرحلة. كي يحترمك الآخرون لا بد أن تكون مسلحا. كنا نتباهى بالسكاكين التي تتدلى من أحزمة سراويلنا، والتي غالبا ما نسرقها من مطابخ أمهاتنا، وكلما دعينا إلى مشاهدة أحد الأفلام نطرح سؤالا واحدا: واش فيه الدق؟ العنف أهم شيء في العالم. بروس لي يهزم كل خصومه بحركاته الرشيقة، ونحن نتعلم منه، ونخرج إلى الشارع كي نتعارك ونكسر أضلع بعضنا البعض... لحسن الحظ أن جهاز الفيديو لم يكن في كل البيوت، السواد الأعظم من المغاربة لم يكونوا يتوفرون إلا على راديو-كاسيت. جهاز أكثر رومانسية، تضع فيه «الكاسيطة»، تكبس على الزر وتداهمك أغاني «الزمن الجميل». شريط أسود رفيع يدور ببطء ويرسل أحلى النغمات. أحيانا «يسرطه» الجهاز ونخرجه بسرعة منفوشا مثل كبة صوف، كي نبدأ في ترتبيه من جديد. العملية تستغرق وقتا طويلا، تحتاج فيها إلى قلم كي تدير الحلقة الصغيرة وسط الشريط وتلملم «مصارينه». أحيانا نكتشف أن الشريط تمزق ونستعمل «السكوتش» أو طلاء الأظافر كي نلصق طرفيه. كان الاستماع إلى الموسيقى يتطلب جهدا جبارا، لأنها كانت تستحق. كي تنصت إلى عبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، كان عليك أن تتحلى بالصبر. أما التلفزيون فلم يكن يبدأ قبل السادسة مساء. الملل كان عنوان المرحلة. كنا نملأ وقتنا بالحماقات ونخترع ألعابا كثيرة كي نقتل الوقت: ندق أبواب الجيران ونهرب، نكسر مصباح الحي بالأحجار، نسرق الفواكه من الضيعات المجاورة، نعذب قطا حتى الموت، نداهم أعشاش العصافير على الجدران وأغصان الأشجار، نشعل النار أو نشعل حربا بالحجر مع الأحياء المجاورة... بفضل رامبو وبروس لي وكونان لوباربار، كانت ألعابنا عنيفة، لا يمكن أن تمر دون تخريب وتكسير. كنا جيلا في «حالة حرب»!