ألا لعنة الله على من أوهموا أنفسهم بأن الفذلكة الكلامية وبعض التشبيهات والاستعارات الركيكة والبياخات الخطابية بإمكانها أن تخفي جرائمهم، وأن تبرّئهم وتطهّر أيديهم من دم ياسين بقوش ودماء عشرات الآلاف من البشر السوريين و العرب والأكراد وغيرهم. لعنة الدّم على المتألهين في كل زمان ومكان، منذ الفرعون الذي قال «أنا ربُّكم الأعلى فاعبدون» إلى أصحاب الامتياز والحقوق على اختراع الجمهوريات الملكية في البلاد المنكوبة بهم وبدساتيرهم التي لو ألقيت على قطيع من البقر الوحشي لأصابه سقم. ياسين بقوش كان يخاف من خياله، كان يرتجف رعبا من حركة يد (أبو عنتر) ومن زمجرة (أبو كلبشة)، كان يخشى نقيق (فطوم حيص بيص) وقبقبة قبقاب غوار الطوشة وانتهازيته التي ما زالت تزداد انتهازية حتى يومنا هذا، ياسينو كان نموذجا للبساطة والطيبة والسذاجة، وفي أحيان كثيرة كانت سذاجته غير مقنعة، وأكثر مما يتحمّله منطق السذاجة نفسها، ولكنه نجح في إضحاك الناس، ومقابل هذا النجاح صار نموذجا للإنسان المغفل الذي تخدعه حمامة، كنا نتعاطف معه، لأننا نحبّ المغفلين، على ما يبدو لأننا نقرن الغباء بحسن الطوية والذكاء بالخبث! هل ظل ياسين مخدوعا حتى لقي حتفه..أم صحيح ما يقال من أنه استيقظ وأبدى تعاطفه مع الثوار! مهما يكن فهو ضحية أخرى ضمن قوافل ضحايا الصناعة الوطنية للدساتير التي لا يتغير منها حرف إلا بنهر دماء عندما يتعلق الأمر بالحرية والتعددية، بينما تلتهمه الحمير الوطنية والقومية ويستعمل كورق تواليت ولمطاردة الذباب عندما يتعلق الأمر بتعديل حرف يمسّ بربوبية القائد الذي لم ولن تحمل ولا تحلم أرحام النساء بأن تأتي بمثله. رحل هيغو تشافيز، «كان يحب الدكتاتوريات، ويكره إسرائيل»، هكذا وصفه الإعلام الإسرائيلي عندما نشر نبأ رحيله. والحقيقة التي يعرفها جميع الطيبين أن هيغو تشافيز كان يحمل قلبا طيبا وبسيطا، ولكنه لم يكن ساذجا، حتى إنه ظهر مرة أمام شعبه شبه عار، واستحم خلال ثلاث دقائق كمساهمة منه في الدعاية للتوفير في صرف المياه! يعني تقريبا يشبه في تواضعه حكام المنطقة المنكوبة من نكبة إلى نكبة أدهى وأمر. تشافيز صاحب مواقف مشهود لها في نصرة المستضعفين في الأرض، فكيف يمكن لرجل بهذه الروح أن يكون نصيرا لآلهة الدم والخراب، وهو الذي انتخب بصوت الشعب، وتوجد له في بلاده معارضة قوية فعالة كادت تطيح به، ليس بقوة السلاح ولا بالتفجيرات ولا بالمؤامرات الكونية، بل بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وكان هذا ممكنا لولا محبة شعبه الذي نصره بأصواته. من المثير للمغص أن نسمع أحد رموز الدكتاتورية في المنطقة المنكوبة يقول أن «لا أحد يقرر بقاء الرئيس أو تنحيه سوى الشعب السوري».. ما هذه الروائع؟ وما هذا الإيحاء والتضمين! وكأن لدى الشعب خيارا غير الثورة والدم لزحزحة الحاكم بأمره، هل يعرف أحدٌ منكم كيف فيخبر الشعب السوري بالطريقة التي غابت عن باله! كان لتشافيز موقف حازم ضد العدوان والجشع الأمريكي والصهيوني، وكان يبحث عن حلفاء هم ضحايا مثله في مواجهة الغول الكوني، ولهذا اصطف إلى جانب قيادة إيران وسورية والعراق وفلسطين ومع قيادات دول في أمريكا اللاتينية المستيقظة ضد الهيمنة الأمريكية، هذا بالخط العريض، ولكن التفاصيل تختلف تماما، فقد اختلف الرجل عن حلفائه في منطقتنا بوصوله الحكم من خلال نظام حزبي تعددي، فيه يمين ويسار ووسط، فيه سياسات اقتصادية وخارجية مختلفة، وفيه تنافس ديمقراطي أقرب ما يكون إلى النزاهة لقيادة الدولة. ربما نجح أعداؤه بالتسبب في مرضه وموته مثلما اغتالوا ياسر عرفات كما يقولون في بلده، وهناك من يشمت به كما شمت بعرفات ويشمت بالشعب السوري، بل إن هناك من يجد في ما يحدث بسورية وساما على صدره، وشهادة تقدير له على جرائمه التي تتقزم وتصبح مداعبات مقارنة بالجرائم التي تحدث هناك. بل ويسمح لنفسه بالزعل وتوجيه تهمة اللاسامية التقليدية إلى من يتهمه بالعنصرية كما حدث لأردوغان! فالجرائم المنهجية، مثل هدم البيوت وطرد السكان والتغييرات الديمغرافية القسرية، ومصادرة الأرض واقتلاع المزروعات وإحراق المحاصيل والممتلكات وسجن الناس إداريا، والاستهتار بأرواح المضربين عن الطعام وغير المضربين واغتيال سجين هنا وآخر هناك، ورمي جثامين الفدائيين في مقابر الأرقام باستهتار حتى يُفقد ويضيع بعضها، وتدنيس القرآن الكريم والدوس عليه في أولى القبلتين وثالث الحرمين، وضرب امرأة مسلمة في محطة للقطار ونزع حجابها من عن رأسها بالقوة، وضرب عامل في مكان عمله لأنه تحدث بالعربية، كل هذا يتقزم ويصبح سوء تفاهم بسيط مقارنة ببرود رئيس قُتل أكثر من سبعين ألف من مواطنيه واحترقت مدنه وقراه وما زال يقصفها بطيرانه الحربي ثم يقول بفذلكاته المعهودة التي تقشعر لها الأبدان.. إن الشعب السوري خرج منتصرا من هذه المواجهة... متوهما وموهما بأن المواجهة انتهت ولصالحه... وكأنه يخاطب شعوبا وأمما بسذاجة ياسين بقوش.. وعلى قولة أبو كلبشة.. إيه لأ ما حزرت سيدي...