أمام فتنة المغامرة، وغواية العوالم الأخرى، وركود مياه الأوطان، لا يسع من يمتلك وعيا حادا، ورؤية حساسة للعالم سوى أن يحزم حقائبه، وينطلق كالسهم الذي –على حد تعبير الإمام الشافعي- لولا فراق القوس لم يُصب، وكالليث الذي لولا فراق الغاب لم يفترس. هذا الحافز هو ما جر بطل رواية «صور وأشباه» كمال نحو الهجرة من الدار البيضاء إلى بروكسيل. ولعل بطولة كمال هنا لا تعني هيمنته على أحداث الرواية، بقدر ما تدل على تمثيليته لجيل كامل من الطلبة، الذين كانوا يساهمون بشكل كبير في تأثيث المشهد السياسي والاجتماعي في المغرب، خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، من خلال نضالاتهم ضد مظاهر القمع، ودفاعهم المستميت من أجل حرية التعبير، وما لقوه جراء ذلك من اضطهاد وحصار دفع بالعديد منهم إلى مغادرة الوطن في اتجاه الغرب، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى كمال في هذا النص الروائي. يطرح الكاتب أحمد زيادي من خلال هذه الشخصية عدة قضايا متنوعة المشارب، منها السياسي كالحدث الهام الذي مسّ قطاع التعليم بإلغاء شعبة علم الاجتماع من الجامعة المغربية، وانعكاساته السلبية على المجتمع، ومنها الاجتماعي كالنصب والاحتيال، الذي تعرضت له عائلة كمال المكلومة من طرف عصابة أوهمتها بمعرفة كمال وإعانته. كما أن الرواية تعرض قضايا إنسانية عميقة تتم معالجتها بنوع من التأمل الفلسفي الغائر في عمق الشعور الإنساني، ومن ذلك فكرة الفقد، حيث ينطلق السارد، وهو بالمناسبة سارد عليم بكل شيء، من لوعة الأم شامة ومأساتها العميقة التي يمثلها افتقادها لابنها المهاجر كمال، وهو بالنسبة إليها أمر أشد مضاضة من آلام افتقادها ابنتها إكرام التي اختطفها الموت. يبدأ الشعور بالافتقاد في تأملات السارد، من الإحساس بالفراغ، الذي يكون باعثه «الحاجة والاعتياد». لكننا دائما حينما نفتقد شيئا أو شخصا ونفقده ننتهي إلى «التسليم والانقياد»، وننتقل «من مجرد الفجيعة والحزن والحداد، إلى محاولة تجريد المفقود، ليستمر وجوده فاعلا بشكل آخر، في رموز شعورية وفكرية مثالية، تحل فيها الكلمة والصورة والفكرة والشعور والشكل واللون محل الحقيقة، وما ملكة حفظ الماضي وتخليد الأمجاد والمآثر، وإقامة الذكريات.. إلا شكل من أشكال السمو بإحساس الفقد من مجرد ألم سلبي، إلى فعل إيجابي يخلد المفقود، ويبعث في ذكراه مقومات الوجود» (ص: 54-55). ثم تتناسل هذه التأملات لتقدم لنا في الأخير مجموعة من الحكم التي لا تخلو من نفحة صوفية. ويتعمق الفقد روائيا في الفصل الأخير «ذو القبرين» حينما تتمسك الأم شامة بجثمان ابنها كمال الذي عاد إلى أرض الوطن جثة في تابوت، بعد «ذلك البعد وذاك الفراق اللذان لن يملأ شروخهما وأخاديدهما وفراغاتهما النفسية إلا الإحساس الواثق باسترجاع المفقود، وما حرارة الموقف وما يتخلله من تعابير إلا خوفا من فقد جديد» (ص:165). وبما أن موضوع الرواية قائم على قضية الهجرة وتبعاتها الاجتماعية والنفسية، فإن البحر بدون شك يحضر باعتباره سببا في الفقد، ومعلوم أن الأديب أحمد زيادي عالج تيمة البحر إبداعيا بمراس فني طويل، يكفينا تأمل عناوين بعض مجموعاته القصصية: «خرائط بلا بحر»، «ولائم البحر»، والبحر بالنسبة إليه «باب كبير منزوع المصاريع مشروع على كل الاحتمالات غير المحسوبة، وظهر مهجور تُحاك في متاهاته المؤامرات والمفاجآت، وتدبر أساليب الغدر والمباغتة» (حوار مع الكاتب منشور بالعلم الثقافي 20/06/2013). في هذه الرواية نجد الكاتب أحمد زيادي روائيا وقاصا وشاعرا، فقد قسم روايته إلى فصول، وجعل لكل فصل عنوانا خاصا، كما أنه تمكن بفضل دربته في مجال الحبكة القصصية أن يجعلنا نقرأ كل فصل في استقلالية عن غيره، وكأننا أمام نصوص من القصة القصيرة، كما أن لغة الحكي تنزاح إلى واحات الشعر، فتغرف من مياهها العذبة ما يجعل النص الروائي ينضح رواء ومتعة، وعلى حد تعبير الشاعر محمد بوجبيري في قراءته لهذه الرواية فالشاعر «في الأستاذ زيادي كان ينفلت بين الفينة والأخرى من بين أصابعه ليخط لحظة شعرية بهية، أو شذرة تحتاج إلى وقفة تأمل بدل الاسترسال في التهام السرد. أكتفي بإيراد هذين النموذجين: «أيتها الموجات السابحات النابحات هل من خبر لديكن عن غائبي؟»، وقوله في الصفحة الموالية: «البحر هو البحر، أينما كان وكيفما كان، ليس وراءه غير الغربة والهم والكمد والموت « (ص:12)»(جريدة الاتحاد الاشتراكي، 02/11/2013). أحمد لطف الله