حزب "النهج" ينبه إلى تصاعد الاحتجاجات ضد التهميش ويستنكر الأسعار الخيالية المصاحبة للعطلة الصيفية        الانتخابات المقبلة... أي نخب سياسية لكأس العالم والصحراء والسيادة الوطنية؟    بورصة الدار البيضاء تفتتح على صعود طفيف وسط تحركات متباينة للأسهم        انقلاب شاحنة في غزة يتسبب في وفاة 20 شخصا    انفجار مادة كيميائية يرسل إعلامي مغربي إلى المستشفى    أزيد من 2,7 مليون مغربي بالخارج يعودون إلى أرض الوطن هذا الصيف    ضبط 1280 قرصا مخدرا و30غ من كوكايين بالقنيطرة    حادث مأساوي يودي بحياة سائق طاكسي ويرسل آخرين إلى مستعجلات الخميسات    حريق مدمر في جنوب فرنسا يخلف قتيلا وتسعة مصابين ويلتهم 12 ألف هكتار    بعد طول انتظار: افتتاح حديقة عين السبع في هذا التاريخ!    بطولة فرنسا: لنس يتوصل لاتفاق لضم الفرنسي توفان من أودينيزي    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تعقد اجتماعاً حاسماً لدراسة تعديلات قانونية وهيكلية    الذهب يتراجع متأثرا بصعود الدولار    الهند تعزز شراكتها مع المغرب في سوق الأسمدة عقب تراجع الصادرات الصينية    مراكش والدار البيضاء أفضل الوجهات المفضلة للأمريكيين لعام 2025    الصين تخصص أكثر من مليار يوان لدعم جهود الإغاثة من الكوارث الطبيعية    اختلالات في أنظمة التقاعد الأساسية    المغرب يدرب 23 عسكرية من 14 دولة على عمليات حفظ السلام الأممية    "صحة غزة": ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 193 بينهم 96 طفلا    إسبانيا توقف خططا لشراء مقاتلات طراز "إف-35"    التأمين التكافلي.. أقساط بقيمة 94,9 مليون درهم خلال سنة 2024    حرمان مربيات التعليم الأولي من أجورهن يثير موجة استياء حقوقي في مراكش وجهات مجاورة    عبث التسيير بجماعة وجدة.. من يُسير ومن يُحاسب؟        نيران بطريفة الإسبانية تخلي السياح    «أكوا باور» السعودية تفوز بصفقة «مازن» لتطوير محطتي نور ميدلت 2 و3        بين يَدَيْ سيرتي .. علائم ذكريات ونوافذ على الذات نابضة بالحياة    بنما تعلن من جديد: الصحراء مغربية... ومبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هي الحل النهائي    حين يضع مسعد بولس النقاط على حروف قضية الصحراء المغربية في عقر قصر المرادية.    السودان تتعادل مع الكونغو ب"الشان"    سفير إسرائيل السابق في فرنسا يناشد ماكرون: إذا لم تفرض عقوبات فورية على إسرائيل فسوف تتحول غزة إلى بمقبرة    الفنيدق: وضع خيمة تقليدية بكورنيش الفنيدق يثير زوبعة من الإنتقادات الحاطة والمسيئة لتقاليدنا العريقة من طنجة إلى الكويرة    وفاة المدافع الدولي البرتغالي السابق جورجي كوستا عن سن 53 عاما    مستشار الرئيس الأمريكي يؤكد للجزائر عبر حوار مع صحيفة جزائرية .. الصحراء مغربية والحل الوحيد هو الحكم الذاتي        اليد الممدودة والمغرب الكبير وقضية الحدود!    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    "مستوطنة على أرض أمازيغية مغربية".. كتاب يصور مليلية مثالا لاستمرار الاستعمار وتأثيره العميق على الناظور    لطيفة رأفت تعلن تأجيل حفلها بأكادير وتعد بلقاء قريب    "ألكسو" تحتفي بتراث القدس وفاس    الإفراج بكفالة مشروطة عن توماس بارتي لاعب أرسنال السابق    خواطر تسر الخاطر    "منتخب U20" يستعد لكأس العالم    "سورف إكسبو" لركوب الأمواج في دورته الرابعة أكتوبر المقبل    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    علي الصامد يشعل مهرجان الشواطئ بحضور جماهيري غير مسبوق    الرباط تحتضن النسخة الأولى من "سهرة الجالية" احتفاءً بالمغاربة المقيمين بالخارج    بجلد السمك.. طفل يُولد في حالة غريبة من نوعها    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    حبس وغرامات ثقيلة تنتظر من يطعم الحيوانات الضالة أو يقتلها.. حكومة أخنوش تُحيل قانونًا مثيرًا على البرلمان    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة انطباعية في رواية" فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي

رواية " فوضى الحواس": خرق للهدنة السردية والإبحار ....لغة إلى يم الحواس
بقلم : الروائي عبد الرحمان مسحت
"قبل هذه التجربة، لم أكن أتوقع، أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو، فيأخذ منهم عنوة كل الاعترافات والأقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة، لا يعرفها هو نفسه، ثم يلقي بهم على ورق، أبطالاً متعبين مشوهين،دون أن يتساءل، تراهم حقاً كانوا سيقولون ذلك الكلام، لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟ "
أحلام مستغانمي
رحلة في عالم الحواس
حينما فكرت في كتابة هذه القراءة/ الانطباعية/النقدية، كروائي مارس لعبة الكتابة، كواقع ومتخيل، من خلال تجربة، أظن أنها كانت كافية، على الأقل، لفهم هذه اللعبة المجنونة، والجميلة في آن واحد. وضعت في اعتباري، أن القراءة الشمولية لتجربة أحلام مستغانمي 1، في مقال قد لايتجاوز أربع صفحات، لايمكن أن يفي بالمطلوب، كما قد يغفل جوانب مهمة تتعلق بتجربة هذه الروائية الجزائرية. لذلك، ارتأيت أن أقدم هذه القراءة في رواية" فوضى الحواس"2، كنموذج على تمرد أبطالها، وانفلاتهم" الأدبي" إن صح هذا التعبير. وفي اعتقادي انه لم يستفز كاتب روائي أبطال رواياته، مثلما فعلت الروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي، في ثلاثيتها الرائعة: " عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس"، هذه الأخيرة التي سنلامس من خلال فصولها، انفلات الأبطال وخروجهم عن النص، كتمرد صارخ على مؤلفة الرواية، بوعي منها بطبيعة الحال، ويأتي هذا "الانقلاب" الأدبي، قدرا، بواسطة لعبة الكلمات والإبحار في يم الحواس، وقلب الصور، والنظر من زوايا مختلفة، ليست بالضرورة تلك التي يفكر فيها القارئ.
رواية" فوضى الحواس"، رواية الدهشة والصدمة.. تدهشك بلغة كثيفة دالة حالمة وقوية.. ترغمك على امتطائها والتحليق في الأعالي بلا بساط " سندبادي"، فقط عليك أن تقرر هذا الامتطاء متسلحا بقربة ممتلئة باللغة والمعرفة والفلسفة..وبحواس نفاذة تتنفس من كل مسام جلدك. هنا، ومن هذا المنطلق، وحالما تقرر، فانك تصبح احد فرسان الرواية بلا منازع. فالكتابة إذن، بالنسبة لأحلام، خروج اضطراري، على تقاليد الكتابة الروائية، الكلاسيكية والحديثة، لأنها الروائية التي تفضل إشراك شخوصها في صنع الأحداث وتوجيهها والعبث بها، وهي بذلك تمارس نوعا من الاستفزاز الممنطق للسماح بهذا" الانفلات " الأدبي الجميل، والخروج عن الطاعة وإعلان الحرب على الساردة والمؤلفة على حد سواء. لذلك فان أبطال أحلام، الورقية، أحيانا، والواقعية، في أحايين كثيرة، يتمتعون بسحر خاص و يمارسون فعل الكتابة بكل حرية، مشاركين في لعبة الحكي، شاهرين فيضا من الأحاسيس ، والحب والعشق.. لذواتهم، بشكل نرجسي، يصنعون أحلامهم في مواجهة الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة. هي بكل بساطة، أعني الرواية، رحلة في عالم الحواس، أكثر مما هي فعل في الواقع المادي، بهدف التغلغل في النفس البشرية وتشريح روح أبطالها، التي تظل ترسمها بطريقة خاصة جدا، كمحترفة وعليمة بخبايا العشق الإنساني، وباختلاجات المحبين ونواياهم الدفينة، وبقراراتهم الاستشهادية، حينما يتعلق الأمر بقضية وطنية، قضية الجزائر تحديدا، وقضايا عربية أخرى، كقضية فلسطين.
رحلة البحث عن هوية الأبطال
الرواية عبر فصولها الخمسة:" بدءا"،" دوما"،" طبعا"،" حثما"، و" قطعا"، هي بالأساس، رحلة في الذات والبحث عن هوية البطلين الرئيسيين، " هو" و" عبد الحق". " هو"، البطل الزئبقي، المتمرد الأول، الذي يظهر ويختفي على امتداد فصول الرواية، مانحا نفسا طويلا وحارا للساردة، التي تفننت في تأثيث البيت الداخلي للرواية، باللغة الأنيقة ذاتها، وبالبعد الفلسفي والرومانسي..الذي يزيد المتن الروائي عمقا فكريا، وجمالا أسلوبيا شاعريا أخاذا يمتطي النثر بساطا. "هو"، رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها ..ويمضي". وفي إحدى المحطات، تحاول البطلة/ الساردة، استدراج" هو"، البطل سهوا، للبوح الكلي والإدلاء بهويته، قالت له" أيمكنك أن تهدي إلي الحقيقة؟ من حقي أن اعرف من تكون؟ يرد ساخرا" أجلي خيبتك قليلا". لكنها تصر" هل صعب إلى هذا الحد أن تبوح لي باسمك؟..". لعبة التخفي، تطول حتى الفصل الأخير، رغم أن البطلة/الساردة، ستتعرف على جزء من حياته، كرجل جريء خبر الحياة ومارس العمل النضالي، وفقد على اثر ذلك إحدى يديه، بعد أن شلت ليعوضه بالعمل الصحفي تحت اسم مستعار" خالد بن طوبال"، ذلك" ..الرجل الحبري الذي خلقته منذ سنوات ثم نسيته داخل كتاب..هذا الكائن اعرفه عن ظهر قلب، فقد عشت معه أربع مائة صفحة".ص 284
إذن نتعرف على" هو"، الذي سيصبح اسمه" خالد بن طوبال"، الصحفي الذي اختار أن يناضل بالقلم من اجل حرية الجزائر، وضد عصابات الفساد الذين يقفون ضد أي إصلاح. وهم أيضا، من قام باغتيال الرئيس الجزائري، محمد بوضياف، الذي لم يحكم البلاد سوى 166 يوما. هو الذي قال لزوجته:" ..كل هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء.." ص244
ولكن هل أمهلوه هذا الوقت القصير، الذي اختصره الجزائريون في شساعة حلمهم الكبير؟ من دار الثقافة بعنابة، وصلت رسالة القتلة، فحينما كان بوضياف يلقي خطابه التاريخي مباشرة على شاشة التلفزيون ".. وقبل أن ينهي جملته، كان احدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية جعل ذويها الحضور ينبطحون جميعهم أرضا..تم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه. ص331
يأتي مباشرة ذكر اسم" سليمان عميرات، الذي مات مباشرة بعد مقتل بوضياف بسكتة قلبية"..من عامه السبعين وهو متورط مع الوطن، منخرط في حب الجزائر" الثورية"، حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم المطالبة بالديمقراطية.." ص328.
احمد، شهيد آخر سيلقى حتفه على احد الجسور، حينما كان يسوق سيارة برفقة البطلة، في جولة بضواحي قسطنطينة ".. فجأة خطفتني من أفكاري طلقات نارية انطلقت على مقربة مني.." ص 109
وهكذا تفقد البطلة، تباعا، أصدقاءها المفضلين، والمتواطئين معها، إما موتا، كشخصية " عبد الحق" و" السائق احمد"..أو رحيلا، كشخصية " ناصر"، أخ البطلة، وهو احد المناضلين الذين سيختارون المنفى خارج الجزائر تفاديا للاعتقال والموت. أواستهتارا، كشخصية الزوج، المسؤول العسكري"، الذي لايكاد يخرج من مهمة حتى يدخل في أخرى، دون أن يكلف نفسه عناء اكتشاف مواهب زوجته، ككاتبة روائية، أو حتى كزوجة عاشقة، تمتطي الحواس بساطا دائما".. زوجي مثلا، لم يوفق يوما في تمييز" الأثاث الحقيقي" عن " الأثاث المزيف"، في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة، بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لاياتي دون أن يعترف تماما بان ما يزعجه، هو الكتابة في حد ذاتها.." ص92 زوج يهمه كثيرا إشباع غرائزه، حتى بدون طقوس"..كهذا المساء، أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة، صمتا، وأنا أتفرج على زوجي، وهو يخلع بذلته العسكرية، ليرتدي جسدي للحظات تم يغرق في النوم.." ص 98
البطولة المطلقة
وهكذا يمكن تصنيف شخوص رواية " فوضى الحواس"، إلى مجموعتين: المجموعة الأولى، منفلتة على الدوام، ثائرة، متمردة.. تخرج من النصوص وتمارس تأثيرها على الساردة بشكل لافت، وتربك أوراق الروائية حتى لانكاد نميز بينهم جميعا إلا من خلال خرجات الساردة، من حين لآخر، وبشكل متقطع. ونذكر هنا بطلين رئيسين:
"هو" أو " خالد طوبال" البطل الذي يظهر ويختفي
"رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها..ويمضي". سنتعرف عليه باسم مستعار، حينما يوقع مقالاته الصحفية باسم " خالد بن طوبال"، رأته البطلة مرة واحدة في جلسة جمعته بالبطل الثاني الرئيسي في الرواية" عبد الحق". ".. ولم يعنيني قدوم رجل مميز المظهر، يرتدي قميصا اسود ونظارات شمس سوداء، في العقد الرابع من عمره، له خطى واثقة، وأناقة رجولة في غنى عن أي جهد..بدا على الرجل وكأنه يعرفني ، أو كأنه فوجئ بوجودي هناك، فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة، ثم سلاما وديا بإشارة من رأسه.. وذهب للجلوس جوار ذلك الرجل الذي توقف أخيرا عن الكتابة، وراحا يتبادلان حديثا، لم يصلني منه شيء".
عبد الحق البطل الزئبقي
شخصية عبد الحق، البطل الشبح، الذي يطارد البطلة / الساردة، مثلما ستظل هي الأخرى تطارده، باحثة عن هويته، محاولة رسم ملامحه بتفاصيل أكثر دقة مما رسمتها على الورق. لكن هذا اللقاء لن يحصل، بعد أن يختطفه الموت على حين غرة".. هذا الرجل الذي لا اعرفه، واعرف كل شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن اعرفها، والتي نشرتها كل الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها، بلغة أو أخرى..". هكذا إذن يودع عبد الحق الحياة دون أن يحين ذلك اللقاء العجيب بينه وبين البطلة، ليبقى لغزا محيرا، رغم ما وصلنا من معلومات عنه، عن طريق صديقه" هو" أو من خلال ما نشرته الجرائد عن اغتياله، بكثير من التفاصيل المملة.
الحقيقة الضائعة
هل نعتبر ذلك إجراء روائيا للبحث عن حقيقة ضائعة في بلد ظل يبحث له عن مستقر، وعن هوية، تحميه من الخونة والعصابات التي تتاجر في كل شيء، حتى الوطن؟ هل يعني ذلك أن فرصة الإصلاح تبدو بعيدة أكثر من أي وقت مضى، في ظل الظروف الاستعمارية، وتكالب الخونة على كل فرص الإصلاح وقطع الطريق أمام الفاسدين الذين اغتنوا بطرق غير مشروعة، وظلوا يزرعون ألغام الفوضى والتسيب..أمام رجالات قدمت أرواحها فداء للوطن؟ الم يقدم " محمد الشريف"، والد الروائية أحلام مستغانمي، حياته لهذه الغاية؟ وهو الذي عاش ردحا من الزمن في تونس، منفيا، حيث مسقط رأس الكاتبة، قبل أن يعود إلى الجزائر ويلقى ربه في وطنه الأصلي؟ هل نعتبر والد أحلام، بطلا حقيقيا، مارس، بشكل أو آخر، تأثيره القوي على الكاتبة، التي شكلت من شخصيته أطيافا لأبطالها الهاربين إلى الخلف، دون هوية حقيقية، في زمن البحث عن استقرار في وطن مذبوح، من طرف أبنائه الخونة، ومن طرف المستعمر الفرنسي الذي ظل يبارك هذا العمل ويصطاد في الماء العكر؟
لقد ذهب بعض النقاد، إلى أن وراء كل بطل من أبطال أحلام،" محمد الشريف"، والدها الذي طبعها بشخصيته، "لم تكن أحلام غريبة عن ماضي الجزائر، ولا عن الحاضر الذي يعيشه الوطن. مما جعل كلّ مؤلفاتها تحمل شيئًا عن والدها، وإن لم يأتِ ذكره صراحة. فقد ترك بصماته عليها إلى الأبد. بدءًا من اختياره العربيّة لغة لها لتتأثر بها. فحال استقلال الجزائر ستكون أحلام مع أوّل فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبيّة، أولى مدرسة معرّبة للبنات في العاصمة. وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين. لتتخرّج سنة 1971 من كليّة الآداب في الجزائر ضمن أوّل دفعة معرّبة تتخرّج بعد الاستقلال من جامعات الجزائر".*3
وما من شك، أنها تأثرت به كانسان مثقف: غرف من الأدب الفرنسي، وتأثر بفيكتور هيجو و جان جاك روسو .. كما كان ساردا بارعا لتاريخ الجزائر وذكرياته في مسقط رأسه" قسطنطينة"، وكمناضل، سجن في مظاهرات 8 ماي 1945، وأصبح مطاردا من قبل الشرطة الفرنسية، بعد أن فقد عمله بالبلدية، و اختار منفاه بتونس، حيث ستتنفس أحلام الحياة، بعيدة عن قسطنطينة، التي ستعود إليها فيما بعد وتتابع دراستها. وما من شك أيضا، أن الأحداث التي تعاقبت على أسرة أحلام، خصوصا مرض والدها ودخوله إلى المستشفى العقلي، اثر انقلاب بومدين واعتقال احمد بن بلة، وتحملها مسؤولية العائلة، جعلها تراكم تجربة حياتية عميقة ملأت بها قربتها الإبداعية، " قبل أن تبلغ أحلام الثامنة عشرة عاماً. وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا, كان عليها أن تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون مورد. ولذا خلال ثلاث سنوات كانت أحلام تعدّ وتقدّم برنامجًا يوميًا في الإذاعة الجزائريّة يبثّ في ساعة متأخرّة من المساء تحت عنوان "همسات". وقد لاقت تلك "الوشوشات" الشعريّة نجاحًا كبيرًا تجاوز الحدود الجزائرية إلى دول المغرب العربي. وساهمت في ميلاد اسم أحلام مستغانمي الشعريّ, الذي وجد له سندًا في صوتها الإذاعي المميّز وفي مقالات وقصائد كانت تنشرها أحلام في الصحافة الجزائرية. وديوان أوّل أصدرته سنة 1971 في الجزائر تحت عنوان "على مرفأ الأيام".*4
رواية الأسئلة الحارقة
مثلما حققت أحلام مستغانمي متعتها وهي تمارس فعل الكتابة، المستفزة، الجريئة، الشاعرية، بكل تأكيد، حقق أيضا القارئ متعته من هذه الكتابة، الأنيقة في أسلوبها، وفي طرح الأسئلة الحارقة، عن الحب والعشق.. في الرجل والمرأة، وهما يصنعان وجودا متميزا، بتفاصيل الجسد الجائع لرغباته الجنسية والروحية، في رحلة البحث عن حقيقة هذا الوجود، في وطن بلا هوية، معتقلا من طرف أبنائه" الخونة" بكل تأكيد، ومباركا من جهات تسعى إلى ذبحه من الوريد إلى الوريد. هل نعتبر رواية" فوضى الحواس" رواية تاريخية في قالب رومانسي؟ هل حققت أغراضها، الفنية والفكرية، دون تغييب لعناصر الفن الروائي؟ ثم، هل استطاعت أحلام أن تتخلص من قبضة أبطالها الذين مارسوا شغبهم، الجميل، على الورق، وانفلتوا من متنها الروائي، باحثين عن تخوم جديدة، في مكان ما، وفي زمن يبدو هو الآخر منفلت على الدوام ؟ هل كان ذلك الدفتر المدرسي، البسيط، الذي رأته ذات يوم في محل لبيع" القرطاسية"، حافزا للكتابة إلى هذا الحد؟ ".. ولذا توقفت أمام ذلك الدفتر مدفوعة بإحساس يتجاوزني، مأخوذة بهذا الشيء الذي لايميزه عن بقية الأشياء في تلك المكتبة، سوى اقتناعي، أو وهمي بأنه سيعيدني إلى الكتابة.." و".. ركضت إلى البيت، أخفيه، وكأنني اخفي تهمة ما، ولم أخرجه سوى البارحة، لأكتب فيه تلك القصة القصيرة، التي قد يكون عنوانها" صاحب المعطف". ص62
هل تكون تلك القصة القصيرة، التي عنونتها ب" صاحب المعطف"، بداية موفقة لرواية كبيرة من حجم" فوضى الحواس" ؟ ومن يكون صاحب المعطف الذي ظلت ترسم تفاصيل شخصيته طول فصول الرواية حتى النهاية ؟ وكيف اختارت الروائية أسلوبها الشاعري، الحار، الطويل، المستفز.. الذي لن يكون إلا على مقاس رواية كبيرة وليس قصة قصيرة؟ الأكيد، أن رواية" فوضى الحواس"، نجحت في مزج الرومانسية الدافئة بالتاريخ، ولاشك أنها رسمت، ببراعة المحترف، جغرافية بلدها الجزائر، كوطن لا خيار عنه، وقدمت لنا تفاصيل شخصية" صاحب المعطف"، الذي قد يكون والدها "محمد الشريف"، أو رجل الوقت، دوما، المناضل والعشيق.. لكنه الزئبقي المنفلت من براثن قلم روائية خبيرة بخبايا السرد، ومروضة جيدة للكلمات التي تتشكل حسب رغباتها، ووفق جغرافية المتن الذي تراه مناسبا لأي موقف أو فكرة أو حدث...
* - روائي مغربي
- عضو اتحاد كتاب المغرب
******
هوامش:
*1 - أحلام مستغانمي روائية من الجزائر، تنفست الحياة سنة 1953 .اشتهرت بثلاثيتها الرائعة:" عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس". ونالت عدة جوائز عربية وعالمية، كما ترجمت اغلب أعمالها إلى لغات أخرى، وأدرج بعضها في مقررات بعدد من المؤسسات التعليمية والجامعات العربية.
* 2- "فوضى الحواس "، رواية للكاتبة أحلام مستغانمي. صدرت عن منشورات أحلام مستغانمي/ الطبعة الثانية عشر/ 2003م .
*3 –، مقال منشور بأحد المواقع الالكترونية لمراد مستغانمي
*4 - نفس المصدر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.