لم يكد الملك يغادر قبة البرلمان بعد أن ألقى خطبة افتتاح الدورة الخريفية، حتى نشبت معركة حامية الوطيس بين الأمين العام لحزب الاستقلال، مدعوما ب»ميليشياته»، وأحد مستشاري حزب «الأصالة والمعاصرة»، استعمل فيها اللكم والعض والصفع و»الطرش» في تطبيق سريع لمضامين الخطاب الملكي، الذي دعا ممثلي الشعب إلى «تعزيز ثقة المواطن في المؤسسات الإدارية والمنتخبة» و»الرفع من مصداقيتها ونزاهتها» كي يشعر المواطن ب»أنها فعلا في خدمته»... الأستاذ اللبار والدكتور الكيحل والبروفيسور شباط التقطوا الرسالة الملكية بنباهة منقطعة النظير، لرفع معنويات المواطن المغربي التي وصلت إلى الحضيض، طبقوا أحد الشعارات الرائجة في «بارات» و»كاباريهات» المملكة: «هبّط النيفو يطلع المورال»، ولم يترددوا في تحويل قبة البرلمان إلى ما يشبه خمارة حقيرة من تلك التي «يشيّر» فيها الزبائن على بعضهم البعض بقنينات «السطورك»... وهو اجتهاد في تأويل الخطاب الملكي، يستحق التشجيع على كل حال ! لنكن جديين، ما حدث يوم الجمعة الماضي تحت قبة البرلمان يؤكد أن السياسة في المغرب وصلت إلى حضيض غير مسبوق. وإذا كان «الأصالة والمعاصرة» قد طرد اللبار من صفوفه فإن حميد شباط لم يجد من يطرده من «الاستقلال»، لأنه «الأمين العام» للحزب بكل بساطة. ولعل من مآسي المشهد السياسي المغربي أن ينتهي حزب علال الفاسي بين يدي شخص لا يتردد في استعمال اللكم والعض والصفع والكلاب والحمير لحسم الخلافات مع خصومه السياسيين، داخل الحزب وفي الشارع وتحت قبة البرلمان. شباط أقرب إلى زعيم «ميليشيا» منه إلى رجل سياسة. أليس هو نفسه من شبه المقر العام لحزب «الاستقلال» ب»قصر العزيزية» أيام كان يحشد «ميليشياته» كي يستولي على بناية باب الحد في الرباط؟ أليس هو من استعمل الكلاب و»الهاجم يموت شرع» لطرد عبد الرزاق أفيلال من «الاتحاد العام للشغالين»؟ عمدة المدينة العلمية للمملكة هو أحد عناوين الحضيض الذي وصلت إليه السياسة في المغرب، لوحده يختصر كل أمراض «النخبة السياسية» كما شخصها الملك في خطاب افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان. أمثال شباط موجودون في كل الأحزاب عبر العالم، لأن السياسيين ليسوا ملائكة في نهاية المطاف، وكي يبسطوا نفوذهم على التنظيم يحتاجون إلى أشخاص من هذه الطينة، مهمتهم تصفية الحسابات وشن حملات على الخصوم بكل الوسائل، بما فيها الترهيب والترغيب والافتراء والكذب وسوء النية... باختصار شديد: «البلطجة». المشكلة تبدأ حين يصبح هؤلاء الأشخاص في الواجهة ويصير الحزب مختصرا فيهم، بعبارة أخرى: عندما يصبح «البلطجي» أمينا عاما للحزب... اِقرأ على السياسة السلام. ظاهرة استبدال «الزعماء» ب«البلطجية» شملت أكثر من حزب سياسي في السنوات الأخيرة، ويصعب أن نقرأ فيها شيئا آخر غير رغبة واضحة في تبخيس دور الأحزاب لصالح فاعلين آخرين في المشهد السياسي. من وضعوا شباط على رأس حزب «الاستقلال» هم أنفسهم الذين أسسوا حزب «الأصالة والمعاصرة» كي يتحكموا في المشهد الحزبي، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار التحولات التي يشهدها العالم. عندما خرج فؤاد عالي الهمة من القصر عام 2007 ليدخل غمار الحياة الحزبية، دق كثير من الغيورين على مستقبل البلاد ناقوس الخطر، محذرين من مخاطر العودة إلى الوراء عبر إحياء مناورات سياسية قديمة، استعملها الحسن الثاني في ستينيات القرن الماضي، ولا يمكن بأي حال أن تنفع مغرب «العهد الجديد». لكن عشاق النيران وجدوا ضالتهم في «النموذج التونسي»، وأطلقوا عملية استنساخ تجربة «التجمع الدستوري» في المغرب، إلى أن اشتعلت النيران في أوهامهم بعد أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه ومعه نظام زين العابدين بنعلي؛ ولولا لطف الله لكانت فاتورة «الاختيار التونسي» باهظة جدا! حزب «الاستقلال» يعج بالمناضلين النزيهين والأكفاء، في القيادة كما في القاعدة، لكنهم أبعدوا من مراكز القرار عن سبق إصرار وترصد، ووضع مكانهم أشخاص يسهل التحكم فيهم، ليخلوا المجال لأحزاب أخرى مثل «الأصالة والمعاصرة» وأخيه الصغير «الديمقراطيون الجدد»، كي تُرسم خريطة سياسية على المقاس من طرف أصحاب «الحل والعقد» في صيغتهم المعاصرة. هاته الممارسات هي التي أوصلتنا إلى مهزلة يوم الجمعة الماضي، وتبشر بمهازل أكبر في الأيام المقبلة إذا استمر الوضع على ما هو عليه، إذ يبدو أن هناك في هذه البلاد «مجوسيين» يحبون اللعب بالنار، دون أن ينتبهوا أن ألسنة اللهب يمكن أن تخرج عن السيطرة وتحرق كل شيء.