يقتحم كتاب «عن طريق الخداع» الأقبية السرية لجهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد»، ويتوغل في عوالمه المثيرة، من خلال الكشف عن عمليات غيرت مجرى التاريخ. ولأن فيكتور أوستروفسكي أكثر من شاهد على الخداع، فإن روايته للحوادث التي ساهم في ترتيبها وحبكتها، تتميز بالدقة في تقديم المعلومة، مما يجعل للكتاب أكثر من قيمة تاريخية وسياسية، خاصة حين يميط اللثام عن الحروب والدسائس التي يعرفها الجهاز، مما يضفي عليه صورة مروعة. تنشر «المساء» أبرز العمليات التي تضمنها هذا الكتاب، وتقدم السيناريوهات الخطيرة التي نسجها جهاز الموساد، على امتداد العمليات التي استهدفت الدول العربية، سيما التي يعتبرها الجهاز «تهديدا» للوجود الإسرائيلي في المنطقة. ورد هذا الجزء من العملية في العديد من الكتب وروايات الصحف، وكان العديدون يعرفون عنها، بما في ذلك الأمريكيون والبريطانيون والمصريون والسودانيون والإثيوبيون أنفسهم، إضافة إلى مسؤولي العديد من شركات الطيران الأوروبية. وقد بقي الأمر سرا إلى أن أخبر مسؤول كبير في الوكالة اليهودية المتحدة محررا في صحيفة «ناكودا» بأن عملية الإنقاذ مستمرة، ولم ينه تلك العملية التي كان يتحدث عنها فحسب، بل العملية السرية التي نظمتها الموساد على شاطئ البحر الأحمر. وكما هي العادة في مثل هذه المسائل كان اتحاد الصحافيين في إسرائيل على علم منذ بدايتها أو على الأقل كانوا يعرفون ما يسمح لهم الموساد ومكتب رئيس الوزراء بمعرفته، إلا أنهم وافقوا على كتم الخبر حتى يسمح لهم بنشره، وكان لنشر أخبار العملية رد فعل سريع ومحسوب. أثناء تنفيذ عملية التهريب صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيرس علنا «لن نرتاح حتى يعود جميع إخواننا وأخواتنا من إثيوبيا إلى وطنهم بسلام». وفي ربيع عام 1984 وبعد تفاقم مشكلة مجاعة الفلاشا شرع بيرس في تحقيق ذلك الحلم، وفي حين توالت المحادثات مع حكومات أخرى لإقامة جسر جوي من خلال بروكسيل، استدعى بيرس ناحوم أدموني، الذي كان مديرا لجهاز الموساد واسمه الرمزي «روم»، لمعرفة ما إذا كان في وسعه وضع مخطط يسمح بإنقاذ المزيد من الفلاشا. وحين توضحت لأدموني دقة الموقف استأذن من بيرس في استخدام مصادر من خارج الموساد، إذ ما احتاج لذلك، سواء كانت هذه المصادر مدنية أو عسكرية. وبعد هذا اللقاء استدعى أدموني دافييد أريبل الذي كان رئيسا لدائرة «تسافريريم»، وهي الجهاز المسؤول عن نتظيم المجتمعات اليهودية خارج إسرائيل، وهدفها الوحيد إنقاذ اليهود أينما تعرضوا للخطر. ولهذه العملية بالذات كان الموساد بحاجة إلى تجنيد مساعدين، وبعد لقاء أربيل مع أدموني دعا الأول كبار الموظفين في دائرة «تسافريريم» للاجتماع، وأخبر أريبل المسؤولين لديه بأنه يريد أكبر عدد ممكن من الفلاشا خارج السودان كلهم، وإذا أمكن طلب منهم أن يضعوا تصورا حول كيفية التنفيذ. وتعمل دائرة أريبل بميزانية متواضعة نوعا ما، إلا أنه بدا واضحا هذه المرة أنه يستطيع الحصول على ما يطلبه. وهكذا عين حاييم إلياز، الذي ترأس القسم المتخصص في العمليات السرية لإنقاذ اليهود من خلف خطوط الأعداء، لتنفيذ العملية ووجهت إليه الأوامر بأن يضع في أسرع وقت ممكن خطة عمل «عملية موسى». وفي غضون ثلاثة أيام جمع إلياز فريقه لاجتماع مطول في مكاتب الدائرة خارج مبنى قيادة الموساد، وبدأ الرجال في المكتب الذي علقت على جدرانه خرائط مفصلة لعمليات الإغاثة، وأمام كل واحد منهم المعلومات التي جمعوها عن السودان في عرض تصوره للموقف وأفضل طريقة لمعالجته، وكان القسم الأكبر من الفلاشا موجودين في معسكرات تقع في مناطق كسالا والأطرش إلى الغرب من الخرطوم قرب الحدود الإثيوبية. وخلال إحدى الجلسات قال أحد الرجال، وهو ينظر بتمعن إلى خارطة المنطقة، إن الأمر يذكره بحادث قرب ماغنه الواقعة شمال غرب البحر الأحمر تعرض له زورق صواريخ اسرائيلي في أثناء عودته من قناة السويس حين تعطل الرادار وتوقفت بوصلته الجيروسكوبية، مما جعل الزورق يخرج عن مساره ويجنح إلى الشاطئ العربي في منتصف الليل، وكاد يتسبب في أزمة دولية. ولحسن الحظ وجد الزورق ثغرة في الشعاب البحرية المرجانية قبل أن يستقر على الشاطئ، وبعد اتصالات لاسلكية من القارب أرسلت وحدة من كوماندوس البحرية الإسرائيلية اتخذت مواقع لها على الشاطئ لحماية الزورق، وإذا لزم الأمر تم سحب جميع الوثائق من الزورق ونقل أفراد الفريق إلى صاروخ آخر. وفكر الإسرائيليون في نسف الزورق، إلا أن البحرية اعترضت على هذه الفكرة، وبدلا من ذلك أحضرت طائرة هيليكوبتر كمية من سائل الاستايروفوم الذي يتحول بعد رشه إلى مادة شبيهة بالمطاط مقاومة للماء والأحماض رش به الزورق بالكامل وربط بسلك فولاذي قوي بمقدمة الزورق الجانح وشد إلى زورقين جروه على الرمال، ومن ثم قطروه إلى إيلات. وقد أوحت هذه الرواية بفكرة، فخلال روايتها توقف رجل وقال: «انتظر لحظة إن لنا ممرا قريبا من شواطئ السودان ونستطيع الاقتراب من الشاطئ بزوارقنا الصاروخية، فلماذا لا نخرج الفلاشا بواسطة السفن؟». قلب الجميع الفكرة لبعض الوقت، لكنهم في النهاية رفضوها لعدة أسباب، فتحميل الناس في السفن يتطلب الكثير من الوقت. «حسنا نستطيع على الأقل إقامة محطة ما هناك»، فرد عليه أحد الرجال «ما الذي ستفعله؟. هل ستضع لافتة تقول قاعدة الموساد ممنوع الدخول؟»، فأجاب «لا، فلنقم ناديا للغطس، فالبحر الأحمر جنة للغطاسين». استبعد الفريق الفكرة في البداية، لكن بمرور الوقت وتوارد الأفكار ورفضها، بدا أن فكرة إقامة ناد أو مدرسة للغطس لا بأس بها، وكانوا يعرفون شخصا على ذلك الشاطئ يدير شيئا ما يشبه النادي، ورغم أنه يمضي في الغطس والاسترخاء على رمال الشاطئ أكثر مما يمضي في تأجير معداته وتعليم الغطس، فإن له على الأقل وجودا فعليا في المنطقة، وبتخطيط مناسب وبعد الحصول على الموافقة اللازمة من الخرطوم يمكن تحويل المكان إلى منتجع حقيقي محترم.