حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – لم تجبني بعد عن سؤالي عما إذا كانت الدولة عرضت عليك أن تتوسط للتفاوض مع ياسين وجماعته.. ليس بهذا المعنى، لكن أتذكر جيدا أن المحامي محمد زيان، الذي كان وزيرا لحقوق الإنسان آنذاك، أعلن عن رفع حالة الحصار عن الشيخ عبد السلام ياسين دون أن يتشاور مع البصري في ذلك. يومها احتشد المئات من أتباع الجماعة أمام منزله بحي السلام بسلا، وأقفلت جميع المنافذ المؤدية إليه، وطوق المئات من عناصر الأمن الأتباع من كل الجهات، وكان الوضع محتقنا جدا. كنت في ذلك الوقت خارج مدينة سلا، ولما عدت وجدت كل الطرق المؤدية إلى منزل عبد السلام ياسين ومنزلي مغلقة. الكل كان ينتظر أن يفرج عن ياسين في ذلك اليوم. بعدما وصلت إلى المنزل اتصلت بزيان شخصيا وقلت له: يجب أن تأتي فورا إلى سلا لأن ما يجري ينذر بالانفجار، لاسيما أن بعض أتباع الجماعة كانوا يحملون العصي والحجارة، فيما استعانت قوات الأمن بالكلاب المدربة وكانت في حالة تأهب قصوى. بعد مدة قصيرة وصل زيان إلى منزلي، ورأى ذلك الحشد الكبير من الناس، فاقترح علي أن نذهب إلى منزل ياسين، فرفضت الفكرة، لأنه قد لا يسمح له بالدخول، واستقر الرأي أن أذهب لوحدي إلى منزل ياسين. – أفهم من كلامك أن إدريس البصري لم يكن يريد أن ترفع حالة الحصار عن الشيخ عبد السلام ياسين، هل كان زيان يريد أن تفسر لياسين هذا التعارض الحاصل؟ الذي فهمته أن البصري لم يكن موافقا إطلاقا على رفع الإقامة الجبرية عن ياسين، بينما وجد زيان نفسه في موقف حرج جدا بعدما أعلن عن قرار الرفع. عموما، قصدت مباشرة منزل ياسين، وكان الجو مكهربا جدا، ولا يمكن أن تتوقع أبدا ما الذي يمكن أن يحصل بعد لحظات فقط. شاءت الصدف أن ألتقي نادية ياسين ابنة الشيخ، فقلت لها إنني أريد أن أتحدث مع والدها. وبالفعل التقيت بالشيخ ياسين، وأخبرته أن زيان، وزير حقوق الإنسان، يود رؤيته ليفهمه ملابسات ما يحدث الآن. فقال لي إن فتح الله أرسلان ومحمد البشيري هما من سيرافقاني للحديث مع زيان. في منزلي كان هناك نقاش بين زيان والبشيري وأرسلان حول الوضع المشحون داخل الشارع والتناقض الذي خلقه إدريس البصري الرافض للإفراج عن الشيخ عبد السلام ياسين. – ما الذي دار بين الثلاثة بالتحديد؟ الحقيقة أنني خرجت من المنزل وأقفلت الباب، وبمجرد ما انتهى الحوار قصدني زيان ليخبرني بمضمون اللقاء، إذ أكد لي أنه قال للبشيري وأرسلان إن البصري هو من يقف وراء عدم تنفيذ قرار رفع الإقامة الجبرية. أعتقد أن زيان اتصل بالقصر وأخذ الضوء الأخضر من أجل إنهاء حالة الحصار دون أن يكون إدريس البصري على علم بذلك. زيان لا يزال على قيد الحياة ويمكن أن يقدم شهادته حول هذا الموضوع. وصل الحوار إلى حل وسط يقضي بأن يرفع الحصار في اليوم الموالي شريطة أن يغادر أنصار جماعة العدل والإحسان محيط منزل ياسين دون إحداث فوضى، وبالفعل أمر ياسين أرسلان والبشيري بأن يخبر أنصار الجماعة، بتأن، بمضمون الاتفاق. – لكنك لم تفصح عن كل ما قاله لك الشيخ عبد السلام ياسين لما أخبرته بأن زيان يريد رؤيته. ما كان يدهشني حقا أن ياسين، رغم كل الجو المشحون الذي كان يستولي على الجميع، ظل هادئا ويتحدث برزانة، وكان همه الأساسي أن لا تعم الفوضى. كان متفهما جدا ورجل حوار. لقد قال لي إنه يعرف أن البصري لن يسمح له بالخروج من منزله. – قبل إنهاء حالة الحصار، ألم تحاول شخصيات مقربة من القصر أن تذيب جليد الخلاف بين الجماعة والمؤسسة الملكية؟ ربما كانت هناك محاولات من طرف الملك لاحتواء الجماعة، لكنها لم تنجح لأن ياسين كان رجل مبدأ قبل كل شيء، ولم يكن ليتنازل، لا هو ولا قياديي العدل والإحسان عن مبادئهم بسهولة.