الصحافة الاستعمارية، خاصة «جريدة السعادة» تعاملت مع حدث اعتقال الشريف أحمد بن الصديق ومحاكمته بنوع من الاستخفاف مع التشهير بزعيم ديني ورط نفسه في جريمة «التآمر على النظام» وهي «مخالفات يعاقب مرتكبوها بمقتضى المادتين 126 و129 من القانون الجنائي»، بحيث لم تدخر الجريدة أي جهد للتقليل من أهمية المواقف السياسية التي خلفها، ولم تتورع في توظيف أساليب المغالطة والتعتيم والانتقاء في تغطيتها الإخبارية والتحليلية للحدث، بحيث لم تنشر وقائع الجدل القانوني الذي دار بين دفاع الشيخ الدرقاوي وهيئة القضاء بخصوص عدم الاختصاص وما شاب ذلك من خروقات قانونية، وتعاملت مع تصريحات الشيخ الدرقاوي بنوع من التبخيس والانتقاء وعزلها عن سياقها العام، في الوقت الذي نشرت تفاصيل مرافعة وكيل المحكمة، وأشادت بالأحكام الصادرة في حق الشريف الدرقاوي وثلة من أتباعه . وهي الجريدة التي ظلت داعمة لمواقف شيوخ الزوايا والطرق الصوفية ومنافحة عنها بما يتماشى وتوجهات سلطات الاحتلال. إن أسلوب تعامل جريدة السعادة مع واقعة اعتقال الشيخ الدرقاوي ومحاكمته، على الرغم من كون الحدث وقع خارج دائرة نفوذ الحماية الفرنسية، يعني في المقام الأول أن الخط التحريري للجريدة ظل خاضعا لتوجهات ومواقف الإقامة العامة من الزوايا والطرق الصوفية، ويعني ثانيا أن الأمر يتعلق ب»رسائل مشفرة» أرادت السعادة إبلاغها لشيوخ الزوايا والطرق الصوفية في المنطقة السلطانية، إن هم فكروا في «التهييج ونشر الدعاية ضد النظام «، فإن مآلهم لن يكون غير مآل الشيخ أحمد الصديق الغماري. أما الصحف الوطنية، فقد تعاملت على نحو مناقض للاتجاه الذي سارت فيه الصحافة الموالية للإقامة العامة، فنافحت عن براءة الشريف أحمد بن الصديق الغماري، واعتبر الأمر مجرد مؤامرة محبوكة دبرها نظام فرانكو للإيقاع بالشيخ الدرقاوي بعد أن باتت انتقادات هذا الأخير لنظام الحماية بالمنطقة الخليفية تجد صدى لها في أوساط أتباعه حيث كان «ناقما على تصرفات الإسبان لإلقائهم القبض على الكثير من أبناء عمومتة وأتباعه، ومن ثم كانت «الفرية المختارة أو «موضة» الاتهام هي إحراز سلاح؛ وتعدد إلصاق هذه الاتهامات بأناس لم يمسوا طول حياتهم سلاحا». واستهجنت جريدتا الرأي العام والعلم المبررات التي استندت عليها المندوبية السامية لاتهام الشيخ الدرقاوي لكونه كان على اتصال بالقوى الشيوعية المعارضة لنظام فرانكو وادعاء «أن للشيوعية أوكارا بطنجة، ونسبت لأناس هم أبعد الناس عن الشيوعية والشيوعيين» وادعاء «كون هذه الحركة كانت ذات صبغة شيوعية إنما هو هراء من القول لأن الشيخ رجل دين يتنافى مع المبادئ الهدامة». وبذلك تكون الصحافة الوطنية قد حادت عن تلك الرؤية النمطية الذي ظلت توجه تغطياتها الإخبارية وتعاليقها التحليلية والتي كانت في مجملها تعبيرا دالا عن مواقف مغرضة ومتحاملة على شيوخ الطرق الصوفية والزوايا، إلى درجة لم يتردد معها شيخ زاوية في التعبير بمرارة «عن محاربة الشيوعية والمتطرفين الدين هجموا علينا في جرائدهم المشؤومة الكاذبة ونواديهم المعوجة التي هي مقر البغي والفجور واختلاط البنات بالبنين قاتل الله المتطرفين الخبثاء الهمجيين وأراحنا منهم». إذا كان الشيخ أحمد بن الصديق الغماري أقر صراحة بأن الهدف من عودته من القاهرة إلى المغرب هو السعي «لتحرير المغرب ومحاربة الاستعمار ونصرة الدين من الطريق المشروعة والمعقولة وهي مقابلة العدو بالقوة التي لا طريق لنيل الاستقلال ونصرة الدين إلا بها»، فإن مواقفه حيال الاحتلال ظل يشوبها اللبس والغموض، فعند اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية ناصر قضية فرانكو بحماس ضد الحكومة الشيوعية، واستطاع ربط الاتصال بفرانكو ومقابلته صحبة ثلة من أتباعه بمدينة طلمنكة الإسبانية، حيث أهداه فرانكو سيارة فخمة، وقام بعد ذلك «بجولة دعاية واسعة النطاق بجميع البلدان العربية، حتى أن الحكومة المصرية لم تتردد في طرده من ترابها بعدما حاول رفع علم الجنرال فرانكو فوق بناية بالقاهرة «. واتصل الشيخ الدرقاوي بالحكومة الشيوعية «وطلب منها المساعدة لمحاربة فرانكو، على أساس أنه بمحاربته في المغرب الذي هو مادته الأولى وبخذلانه فيه ينتصرون عليه في إسبانيا بلدهم، ويعود الحكم إليهم»، فزودته بالأسلحة وصار يوزعها على أتباعه في القبائل الغمارية وأنجرة، ولما استطاع فرانكو السيطرة على الحكم بإسبانيا وإزاحة خصومه وصار حاكمها بدون منازع، نسج الشيخ الدرقاوي علاقات مع أنصار «سلطان إسبانيا الذي كانت الحكومة الشيوعية انتزعت الملك من يده، وطلبوا منه المعونة والمساعدة ليرجع الملك إلى ملكه ويعود الحكم إلى نصابه»، واتصل «بنائب دولة إيطاليا التي كانت طامعة في احتلال الشمال الإفريقي كله، فطلب منه المساعدة، فأجاب إلى ذلك بعد المفاهمة مع دولته «وإبان اندلاع الحرب العالمية الثانية ربط الشريف الدرقاوي علاقات مع نائب ألمانيا النازية الذي وعده بتزويده ب»خمسين ألف بندقية ومليونين من الخرطوش» دون أن يشير إلى الجهة المستهدفة من هذا التنسيق العسكري، ثم ما لبث أن اتصل الشيخ الدرقاوي بنائب دولة انجلترا الذي أفصح له عن صرف دولته النظر عن المغرب كله سواء في المنطقة الإسبانية أو الفرنسية باتفاق دولي. وفي أواخر سنوات الحرب العالمية الثانية ربط علاقات مع الأمريكيين، «وطلبوا منه أن يساعدهم على أعمال في المنطقة الإسبانية وأنهم مستعدون لدفع الأسلحة من دبابات ومدافع وغيرها، يسلمونها على حدود المنطقة الفرنسية، فأجابهم إلى ذلك، وشرع في العمل، وأرسل يكلم زعماء القبائل»، إلا أن الأمريكيين عدلوا عن ذلك لما تبين لها أن فرانكو لم يمهد الطريق للنازية للدخول إلى المغرب. هكذا يبدو أن الشريف أحمد بن الصديق الغماري أراد استغلال توتر العلاقات الدولية وظروف الحرب العالمية الثانية، فربط علاقات متشابكة مع أطراف النزاع من أنظمة ديمقراطية وأخرى كليانية، لاسيما أن المستعمرات شكلت للأطراف المتناحرة مجالا للدعاية واستقطاب أنصار جدد، وكان الهدف الذي برر به الشيخ الدرقاوي اتصالاته وعلاقاته مع القوى الامبريالية هو حصول المغرب على الاستقلال، الأمر الذي أسقط الشريف الدرقاوي في تحالفات بنيت على أساس مواقف متذبذبة ومتناقضة لاسيما أن الظروف الدولية آنذاك كانت تحتم اتخاذ مواقف منسجمة في اتجاه يخدم طرفا من أطراف النزاع الدولي . كان من البديهي، أن يتجند نظام فرانكو بعد تمكنه من الصمود والاستمرار بعد الحرب العالمية الثانية، لتصفية حساباته مع مناوئيه، فكان الشيخ الدرقاوي من أشهر خصوم نظام فرانكو الذي اتهمه بإثارة القلاقل والفتن في المنطقة الخليفية، وأخذ يبحث عن المبررات لتوريط الشيخ الدرقاوي في التآمر على النظام، وذلك لصرف أنظار الرأي العام الإسباني عن المشاكل الداخلية التي أصبح النظام الفرانكوني يعاني منها جراء العزلة الدولية المضروبة عليه بعد انكسار حلفائه النازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا، وتقليص حجم النفقات العسكرية الباهظة في المنطقة الخليفية مما أثار سخط قادة الجيش الإسباني وتذمرهم في المنطقة ذاتها، وضغط الحكومة الإسبانية على الولاياتالمتحدةالأمريكية وتوجيه نظرها إلى النشاط الشيوعي المزعوم والذي له أوكار محلية ودولية في طنجة، كمحاولة منها للحصول على الدعم المادي الأمريكي للتخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية. يمكن في هذا السياق، فهم ظروف وملابسات اعتقال أحمد بن الصديق الغماري شيخ الطريقة الدرقاوية في طنجة. بقي أن نتساءل لماذا فضل الشيخ احمد بن الصديق الغماري، بعد خروجه من السجن العودة إلى القاهرة وظل هناك إلى حين وفاته سنة1960. لماذا لم يواصل الشيخ الدرقاوي جهوده في الدفاع عن استقلال المغرب خاصة وأن خروجه من السجن صادف نضج الحركة الوطنية التي تشبثت بمطلب الاستقلال ؟ هل اتهم الشيخ أحمد بن الصديق بالخيانة والتواطؤ من قبل من وصفهم بالعصريين من أهل تطوان «لأنهم يعلمون أنه ضدهم وعلى خلاف منهجهم، فهم يريدون التفرنج والقضاء على الدين، وهو يريد إحياء الدين والقضاء على التفرنج الذي هم دعاته» ومن ثم اتخذ الشيخ الدرقاوي من القاهرة منفى اختياريا له، بعد المكائد التي حبكت ضده من قبل حزب الاستقلال، الذي كان ينعته الشيخ الدرقاوي ب»الحزب الحاكم»، حيث اتهمه بالخيانة لوطنه، وأدرج اسمه في أول لائحة للخونة، بالرغم من الرسالة التي بعث الشيخ الدرقاوي إلى امبارك البكاي يلتمس فيها التأكد من التهمة المنسوبة إليه والبحث عن مواقفه الوطنية .