"السياسة هي ثاني أقدم مهنة في التاريخ وتشبه الأولى إلى حد كبير" ما يثيرني في صديقي الوزير محمد يتيم، هي تلك الأفكار التي يعتقدها إشراقات، وما هي في واقع الأمر إلا إفراز لتضاربات فكرية حتى لا أقول نفسية، وما جملته الأخيرة سوى تعبير عن ذلك التضارب والغموض، لأن الكثير من أصدقائي عجزوا عن فهم معنى أن "طعني في مؤتمرهم يعبر عن استقلالية قرارهم الحزبي". دعونا نكون مبتدئين في السياسة ونتساءل: لو فاز بنكيران بالولاية الثالثة، هل كان رضاي عنه سيعتبر تجسيدا لرغبة جهة ما، أم إن فشله هو ضد تيار ما؟ إنني أعتقد جازما أن بنكيران كان صادقا مع نفسه، والشيء نفسه مع خصومه، استهدف إلغاء حزب الأصالة والمعاصرة، وحاول اختراق المحيط الملكي بنهجين، الهجوم على حزبنا معتقدا أن مكانة الأصالة والمعاصرة يجب أن يحتلها العدالة والتنمية، ثم استهدف بعضا من المحيط الملكي، معتقدا أن ذلك سيعبد له الطريق نحو تموقعه في المحيط، وآنذاك سينفذ برنامجه المعلن وحتى غير المعلن، ونحن لا نحاكم النوايا، وكان صديقي بنكيران يقوم بهذا في واضحة النهار، وأمام الملأ، تارة بلغة الشتم والنقد، وتارة أخرى بخطابه الشعبوي الممزوج بنوع من السخرية، وكان يفسد خطابه السياسي حين كان يجد في مواجهته خطابا فاسدا، ويغير لغته أو يصمت حين يجد أمامه خطابا جيدا، ولكن الرجل مند اليوم الأول حدد أهدافه بوضوح، وصنف أعداءه بجسارة، لذلك حين عُين رئيسا للحكومة، أول ما قاله هو إنه سيتحالف مع جميع الأحزاب إلا البام، مستهدفا إلغاء الأخير من الساحة السياسية. وقبل ذلك، وجه خطابا إلى جلالة الملك معلنا حب الشعب للملك وطبعا هو منهم، بشرط ألا يكون بجانبه عدة أشخاص، بل حتى إنه حددهم بالأسماء. على كل حال أعلن معركته ولكل واحد أن يفسر مغزاها ودلالاتها، بل وحتى أهدافها. فبنكيران في رأيي رجل من الشرف الدخول في صراع معه، لأن الصراع مع الرجال يظل شهامة يقوم بها أصحاب النفوس الخيرة، ورغم أنه هزمنا انتخابيا، فقد ظللت أكن له كل الاحترام. قد تكون الأهداف نفسها لديكم السيد محمد يتيم، أي تريدون السلطة وتستهدفون الاختراق، لكن هذه المرة بلغة لينة وبتدرج في الأهداف، لذلك قررتم أن تتنازلوا في الخلاف حول المحيط، ربما لأنكم مقتنعون بأن المعركة أكبر منكم، أو ربما ليس لكم جرأة بنكيران، أو فقط أدركتم متأخرين بأن النظام الملكي بقدر ما يقوم على شخص جلالة الملك، بقدر ما يشتغل الباقي في ظل مؤسسات منسجمة ومتعاونة. وبشكل عال من الذكاء وسرعة التحرك، قارنتم حجمكم بإمكانيات الآخرين وأخرتم هذه المعركة، وغيرتم موقفكم من حزب الأصالة والمعاصرة، فلم تعودوا تستهدفون إلغاءه، كما كان يعتقد بنكيران بأنه يستطيع ذلك. لذلك أنا أحترمكم في هزيمتكم وشر الهزائم ما يصدر عن الإخوان في المؤتمرات، وأحترمكم في تراجعاتكم، لكونها تنم عن نوع من الوعي المتأخر، ويبدو من خلال هذه المراجعة أنكم تريدون احتلال مكانة الحزب في مواقع تعتقدون أنها ستقربكم أكثر إلى القرار السياسي، فحولتم استمرار بنكيران إلى شر على الملكية، وأنتم خيرا عليها، ولم يعد بنكيران لديكم ذلك الزعيم، بل تحول إلى ذلك الشعبوي المثير للمشاكل، وقلتم للملء إنكم لن تضحوا بالحزب من أجل الزعيم، والحقيقة هي أنكم لا تريدون أن تضحوا بالمواقع في السلطة من أجل الحزب، وهذا الأخير اختزلتموه فيكم وفي بعض أصدقائكم الذين يدعونهم إخوانكم ب "تيار الوزراء" والله أعلم، فلا يجوز لكم أن تتبنوا بعض المواقف في الليل وتشتمونها في النهار، لأن من سوء السياسة أن تأكلوا في الليل من يد ما الغلة، وتسبون في الصباح الملة، وقد صدق ذلك السياسي الذي قال: "لن تعرف كل ما يختبئ في نفسك قبل أن تصل إلى السلطة". وكيفما كان الحال، وقد قمتم بهذا الاختيار، وحتى لا أكون ناصحا لكم، أعتقد أن ذهاب بنكيران قد يجعلكم تعيدون النظر في محيطكم السياسي، وتحولون السياسة إلى مجال للحوار بعيدا عن لغة التحكم والدولة العميقة وغيرها من الشتائم التي صنعتها مرحلة بنكيران، ربما لأنها أصبحت تنطلي عليكم بشهادة إخوانكم. واسمح لي صديقي أن أوضح لك وبشكل أساسي، أني قد اختلف معك ومع بنكيران، وقد أكون مخطئا، وقد يكون بنكيران كذلك، لكن المهم هو ألا تخطئ الدولة، لأن خطأها من شأنه أن تترتب عنه أوخم النتائج إن على مستوى المواطنين أو على مصلحة الوطن، أما أنتم، فإذا أخطأتم فلا يعدو أن يكون ذلك مجرد حادثة شغل في السياسة، كاصطدام دراجة عادية بقطة في الطريق. لذلك، من الصعب أن تفهموا أن خلافي السياسي معكم، وحتى مع بنكيران، لا يتجاوز حدود الخصومة السياسية، فبنكيران مهما اختلفت معه، سيبقى إنسانا وشخصية طبعت مرحلة تاريخية بطريقتها الخاصة، لأنكم يمكن أن تغيروا المواقع، ولكن لن تستطيعوا تغيير التاريخ. وفي الأخير أنا لا أدعو إلى مساندة هذا أو ذاك، فطي المرحلة قراركم ولا يهم في ذلك رأيي، ولكن دعونا نفكر فيما يجمعنا من أجل مصلحة هذا الوطن دون مزايدات، ونفتح حوارا حول لغة وممارسة السياسة، لنرتقي بخلافاتنا إلى نوع من الحوار السياسي البناء، حتى نحافظ على ديمقراطيتنا وندفع بها إلى الأمام، ونتعافى من لغة أنبياء السياسة وإعطاء الدروس وشيطنة الآخر، وإثارة الحماس الشعبوي من أجل ضمان مكاسب سياسية لا تمتد في الزمن، ولكنها تهدم السياسة كقيم وكأخلاق. دعونا نتحاور وأن يقبل بعضنا البعض دون ذلك العداء المصطنع.